إبراهيم محمود
نعم، هاهي أربعينية الراحل باسمه الموقر والكبير، الكاتب الصديق، الصديق الكاتب محمد سيد حسين، تقترب، وليكون نوروز الكردي الآذاري حاضراً، كما لو أنه ضرب موعداً مع أهليه وأحبته، وهو يرتدي ألوانه الكردية الزاهية الباهية السامية، مواسياً، ومشدّداً على أن فقيدهم الكردي، فقيدهم ذا الاعتبار، نابض في ألوانه وبيانه، حاضر بإطلالته الروحية وشفافيتها .
كما لو أن نوروز أصرَّ على أن يكون ضيف شرف الأربعينية، أن يزوره وروحه الأكبر من ضريحه، وهو المحرَّر من ضريحه بما وهبتُه روحه من عطاء الكردية ونفحة الكردية.
ولهذا ، ومن هذا اليوم النوروزي المفعم بروح كل كردي امتلأ بتاريخ كرده وجغرافية كرده، أمضي بخيالي محلقاً لكي أمعن النظر في الدمغة الكردية المشعة لنوروز، وكيف تتنورز روح بافي رشيد، وكيف تتنور تربته في محيط مقر إقامته الرحب والأبدي، وكيف يتنورز بدوره كل مَن في مجتمعه الأبدي ومن يزوره مُنوَرزاً إياه، لأنورز روحه الفائضة بالكردية، وأتنورز بسلام مشع صامت وبليغ من مسقط روحه التي تستغرق المكان، ومنه وإليه أنورِز كل من كانوا أهلاً له، وأحبة له، وأقرباء له، وأصدقاء له، وأصحاباً، ومؤانسي روحه الكردية ثمانين مرة كما هي سنوات عمره وعمق عمره الذي تسلسلَ بروح الكردية وتسامى كردستانيةً .
هي ذي أربعينية الراحل الكبير بقلمه وظل روحه الوارف، أربعينية، تسمّي ضُعف الأربعين فيه، حيث رحل عن عمر ثمانيني، وأربعينية تسمي فصول حياته الأربعة: طفولته، وإن أفصحت عن أوجاعها وقسوة مرحلتها، وشبابه الذي أبصر فيه نفسه، وتقدَّم بكرديته الصريحة، وعمره الناضج رجولة أربعينية وأبعد، وقد وسَّع في حدوده كردياً موقفاً وكتابة وعلاقات، وشيخوخة، وما لازمها من ألم لم يفارق جسده، بالرغم من مقاومته له، وهو القارىء الكاتب!
أربعينية تليق به، وتفخر باسمه، كما هو المقرَّر باسمه، اسم الأخ الكبير، الصديق الأثير محمد سيد حسين،وكما هو المحسوس في إخلاص الأبناء ومن معهم من أهليه وأحبته مجدداً، ووفائهم للأب، للوالد الذي امتلأ حباً بهم ولهم، وهم يحضّرون لهذه الأربعينية، وقد أفصحوا عن ثراء واجبهم، عبر الاستعداد لها .
هو ذا ضريحه، وقد شهِد بهندسته، عن هذا الوفاء البنوي: وفاء الأبناء للأب، الوفاء العائلي المعلوم، وهذا التقدير المستحَق، في طريقة إظهاره، حيث صورته الجلية، حيث عناوين كتبه، جهة كلمات نابضة بروح الكردية وهي تحيط بضريحه، تواسيه وتؤانسه وتغْنيه، ليقرأها زواره، عابرو السبيل، تلال قريته ” تل عربيد “، ضريحه بزواياه الأربع والمشدودة إلى الجهات الأربع، مقيماً في مجتمع “موتاه ” الكرد، إنما بعلامة مميّزة له.
وأنا أنقل هذه الكلمات المأخوذة من نفحة قصيدة منثورة له، إلى العربية:
أي نعم، يا قريتي
بين الحين والآخر
أعود إليك
بزيارة
سوى أنني هذه المرة
استطلعتك بغية إقامة
أمواج هموم الطفولة
عرَضتني للسَهام
بلا هوادة
كلما عدت إليك
بذكرياتي ومقاصدي
حافياً وعارياً
راعي الجّداء والخراف
أرى كل ذلك على صدرك
ضريحه الذي يضاء من داخله، كما هو التجسيد النجمي لكتابته، وكما هو المعمَّم ساطعاً، جامعاً بين أخضره الأليف، وأصفره المتألق، وأبيضه المترامي الأطراف،وأحمره الملهم بعمقه، أي العلم الكردستاني الذي آثر أن يتنورز وأن يوشح أعالي ضريحه، كما لو أنه يشمله بمكرمة من جينة كردستان، ومن سماء كردستانه، ومن سخاء روح شهيد كردستانه وحاضن روحها.
هو ذا نوروز الكرد، نوروز محمد سيد حسين الذي شاء، كما هي حكمة التوقيت، حكمت المكان، في أن يكون أكثر من مشارك، أكثر من حاضر بعبق اسمه، ورونق ألوانه، وبلاغة معناه.
وليكون نوروز هذا، مخلصاً للغائب الحاضر، ليصل به وداً، ولعله ضرب له عهداً، في أن يكون أول الحضور والمتنقل بين مكان الأربعينية وحيث يستقر نزيل فردوسه الكردي، دون أن يفارقه، اعترافاً بصفاء لغته الكردية، تغنّيه المستمر بنوروز الكردي، وعراقة نوروز الكردي في قصائده ونثرياته. إنه اعتراف بجميل العلاقة. نوروز هذا الذي لا يستهان بأمره. نوروز الذي يصغي، يقدّر، يتذوق، يشعر، يرى بزاوية كاملة، يسجل ما يراه ويجري، ويثمّن كل قول وكل فعل، له صلة نسَب به، ويرد دَيناً لمن أخلص له، وتغنى به، وهو إشعار من نوع آخر، لمن لا يحيط بنوروز الكردي هذا علماً، لمن لا يدرك أن نوروز له سمعه وبصره، له ذاكره، قلبه وروحه، وأنه يمتلك ميزاناً دقيقاً فيما يخص قول كردي وفعل كل كردي بشأنه .
نوروز أربعينية فقيدنا الراحل له امتيازه، شهادته المحتفى بها ألواناً وبيان تقدير.
وفي أربعينية الراحل الكبير، وهو باسمه الكبير، بقلبه الكبير، بروحه الكبيرة، بنوروزه ذي المقام العالي والكبير، يشار إلى ما هو كبير، ويُحرَّر باسمه، كما يستحق، وهو يستحق كبيراً .
في أربعينية الراحل والحاضر بيننا بروحه، هناك الكثير مما يمكن قوله، وهو أن ليس من جواز لقول يُنسَب إليه، إلا لأنه يحمل لمسة وفيّ لكرديته، ولفعل يُعتد به، إلا لأنه عايشه، كما أخلص لحقيقته، وهو المحمول بطبيعة الكردي الخصبة، الغنية، الماضية في الزمان.
في أربعينية رجل إنسان، لا تقوم أربعينية كأي أربعينية، فلكل أربعينية لونها المختلف، طعمها المختلف، صوتها المختلف، تبعاً لما خلفه الراحل. ولشهادة نوروز التي لا تُرد، التي لا يُطعَن فيها، هذا الإبلاغ عن أنها أربعينية مختلفة شديدة الاختلاف عن أربعينية غيره.
أربعينية مشعة في بطاقة دعوة، وفيها صورة من رحل جسداً وبقي روحاً محلَّقة، وفي متن بطاقة الدعوة ما يشجيني ، حيث الإشارة إلى كتابي الذي أعددته سريعاً حقاً من حقوق صديق تجاه صديق مختلف، ليكون الكتاب شاهداً متواضعاً على كردية جمعتنا معاً، جمعاً كبيراً وأثيراً.
ليس من احتفاء بالرجل، ليس من كيل مديح له، أو ثناء عليه، إنما هو القول الفصل، الدقيق العميق لحقه فيما تسطَّر باسمه، حقه في أنه ودَّعه الحياة، سوى أنه أودع الحياةَ ما يهبُه حياة تكون ذات علامة نوروزية فارقة، علامة مشبعة بالكردية، كما هي كلماته النوروزية، مواقفه التي تقولها كتاباته، وأنه في رحيله الأبدي، كما هو حكم الموت على كل كائن، مع فارق لا ينبغي أن يُنسى، وهو أنه كان الحي الذي يحتفي بالحياة لأهله،لعائلته القديرة، لملازمة حياته، لأم رشيد نجله الأكبر، مع أخوته وأخواته، لأهله المقربين مجدداً، لأحبته، لكرده وغير كرده، ولكل من يعيش الحياة ويمضيها حباً وسلاماً، وأن هذه الحياة التي عُرِفت به، منحته رصيداً لا يبلى، وهو الرصيد الذي يبقيه حياً، وإن ودّع الحياة، ويعطى حق الإقامة المشروع في روح كل كردي، وهو في مقام الكردية الحقة، وروح نوروز الكردي الحق.
لهذا:
تحية من حيث أقيم في رحابة دهوك، باسمي وباسم عائلتي التي لم تخف حبها وتقديرها يوما له، لروح من أحببتُه، ومن سأحافظ على هذا الحب باسمه، وهو البعيد عني جغرافياً، القريب جداً مني روحياً، تحية لروحه التي أبصرها وسيمة بسيمة في ” تل عربيد “، وحيث تكون أربعينيته، ومن أعدَّ لها، ومن حضرها، ومن يتابعها.
والسلام !
دهوك- 21- 3-2022