فراس حج محمد| فلسطين
على هامش أحد اللقاءات الافتراضية مع الكاتب محمود شقير لمناقشة كتابه المربك والإشكالي “حليب الضحى”، أثارتني هذه الازدواجية ما بين الناقد الأكاديمي والناقد الحرّ، وكيف يتعامل كلاهما مع عمل واحد، وكيف يفكران على نحو مختلف.
لكن، ثمة تعميم كبير جدا في هذا التقسيم الحدي الازدواجي. لأن الناقد الأكاديمي ليس وجها واحدا، ولا يفكر النقاد الأكاديميون كلهم على نحو واحد، حتى وهم ينتمون إلى مدرسة نقدية واحدة، فلا يمكن أن يكون الناقد الأكاديمي بمواجهة الناقد الحرّ، ندا لندّ وطرفاً لطرف بهذا الشكل.
خلال الندوة تلك، وهي واحدة من ندوات اليوم السابع المقدسية، وقد أدارتها الكاتبة والروائية ديمة السمان، تحدثتِ السمان على هامش الندوة وقبل البدء في أننا (رواد ندوة اليوم السابع) لسنا نقاداً، وإنما نعبر عن وجهة نظرنا تجاه العمل، ولنا فيه وجهات نظر متعددة، ومتباينة، وعلينا أن نحترمها كلها.
حضر في هذه الندوة نقاد أكاديميون ونقاد انطباعيون، وقراء، وبالطبع بحضور الكاتب محمود شقير، وكان الكتاب كرة لغوية تتدحرج بين الكتابات، وسجل عليها القراء والنقاد ملحوظاتهم الجزئية والفنية، وتحدث الكاتب دون أن يخوض في كثير من التفاصيل، وأجاب عن بعض التساؤلات، كان لبقا ومحبا ودمثا وهادئا كعادته، وسجل ملحوظاتنا، وكان سعيدا بها حتى تلك الملحوظات التي قد تزعج غيره من الكتاب، تلقاها بصدر رحب، بل إن تلك الملحوظات غير المقنعة وغير المهمة نقديا وأدبيا اهتم بها، وإن أخرج تعليقه عليها بفكاهة رصينة. محمود شقير في كل ندواته وفي كل مساجلاته يعلمنا كيف يمكن للكاتب الكبير أن يكون صبورا وعادلا وإنسانيا.
ما لفت انتباهي هو هذه الازدواجية التي أشرت إليها في العنوان الناقد الأكاديمي والناقد الحر. اختلف المنتدون حول “حليب الضحى” إن كان رواية أو كان مجموعة قصصية، ولا أريد أن أذهب إلى هذا النقاش، فقد بحثته في دراسة مستقلة ستنشر قريبا بعون الله. إنما فكرت كيف يمكن للناقد الأكاديمي أن يرى الموضوع من زاوية أكاديمية صرفة.
أظن أن خروج الكتاب عن القواعد العامة للكتابة يحرج الناقد الأكاديمي، لأنه ليس حرا، ولا تلعب ذائقته الخاصة عاملا حاسما في تقدير العمل الأدبي الاستثنائي حق قدره. فالأكاديمي لديه مجموعة من القواعد يسير عليها، ويحاول جاهدا أن يفبرك النص بناء على تلك القواعد، قد يتمرد العمل على الناقد الأكاديمي، فتخذله تلك القواعد خذلانا عظيما، فيراه عملا ناقصاً، وبحاجة إلى المزيد من المراجعة لضبطه. الناقد الأكاديمي هنا يدعو الكتّاب إلى تخريب العمل في حقيقة الأمر وليس إلى ضبطه. لقد نسي هؤلاء النقاد أن كل تلك القواعد إنما هي قواعد استقرائية أجبرهم عليها الكتّاب الإبداعيون، وليس العكس.
أما الناقد الحر، المتحرر من سيطرة تلك القواعد الحادة من تدفق الذائقة فإنه سيكون أقدر- إن كان ملما ومثقفا- على التعايش مع العمل الأدبي والدخول إلى أنساغه، والتفاعل مع مكوناته، فلا يعنيه كثيرا إن كان العمل الأدبي “حليب الضحى” رواية أو مجموعة قصصية ما دام أنه يقرأ نصوصا جميلة تشبع رغبته، وتطور من معرفته. الناقد الحر سيقدّر العمل حق قدره، لأن خير الأعمال ما حرك عقل القارئ وحسه، أما الناقد الأكاديمي فسيفشل فشلا ذريعا في هذه المسألة، لأن القواعد الأكاديمية حرمته المتعة وحرّمت المتعةُ نفسَها عليه أيضا. فالناقد الأكاديمي نصف قارئ، لأنه يستخدم عقله فقط، ويعطل إحساسه فلا ينفعل بالجمال إلا بقدر انطباقها على تلك القواعد.
حدث ذلك مثلا مع الناقد المصري الدكتور صلاح فضل والروائي يوسف زيدان، عندما أراد د.فضل أن يخضع رواية “ظل الأفعى” للقواعد الروائية الأكاديمية المقررة في كتب النقد المنهجي فقال له: “إن من يدخل مدينة الرواية عليه أن يحترم قوانينها”، فأجابه زيدان: “ما هي قوانين الرواية حتى نحسب قدر انحرافي عنها”.
من خلال هذه الثنائية بين هذين النوعين من النقاد، سيجد المتلقي- قارئاً أو سامعاً- أن اللغة عامل حاسم أيضا في إحداث الفرق بين الناقدين، ما بين لغة معلبة قواعدية مصطلحية فنية غير مفهومة لأنها تحاكي عموميات الأعمال الأدبية، وبين اللغة الانفعالية الواضحة المستلة من رحم العمل نفسه، فتكون قريبة ومعبرة وحقيقية. هذا ما فعله الناقد الحر- وهم كثر- خلال مناقشة كتاب “حليب الضحى”، أو مناقشة أي كتاب في الندوات الأخرى، حتى لتبدو أيضا انحيازاته العقدية والجمالية دون أن يكون مضطرا للتبرير، هذا المنطق التبريري الذي يستند عليه الناقد الأكاديمي. فلغة الناقد الحر لغة شفافة واضحة علنية، أما لغة الناقد الأكاديمي فهي متوارية وخائفة وتوجسية وتكثر فيها الشكوك والريب وألفاظ: ربما ولعلّ وأشباههما؛ بحجة واهية تدعي الموضوعية والحيادية والبعد عن اليقينية.
هل بإمكان الناقد الأكاديمي أن يكون ناقدا حرا؟ لا أعتقد ذلك ألبتة، أقولها بلا “ربما”، وبلا “لعلّ”. فهو شخص مجهز ومبرمج على نسق واحد، وليس له من طيبات الأعمال الإبداعية وملذّاتها من نصيب، خربته القواعد فضلّ الطريق. هذه الأكاديمية الصرفة لا تصلح لمناقشة الأعمال الأدبية في ندوة كندوة اليوم السابع، ولذلك تشعر أن وجودهم في الندوة عامل ملل حقيقي، فهم مضجرون إلى درجة كبيرة. ولا يتقنون لغة الحب تجاه الكاتب وعمله الإبداعي. ومكانهم في الندوة- أي ندوة- ليس هو المكان الصحيح، فليظلوا- كما قال رونان ماكدونالد- داخل أسوار الجامعة يمارسون شهواتهم النقدية على طلابهم داخل قاعات الدرس أو في دراساتهم التي يتقدمون بها لنيل الترقيات. هذا أقصى ما يمكن أن يفعلوه، وجزاهم الله خيراً. فليرحموا الأسماع والأكباد من “زنّ الخشب”.
أظن أن النقاد الأكاديميين أشخاص مدجّنون وجبناء، ويعلّمون الكتاب التدجين والجبن، عكس الناقد الحر الذي لا تقولبه القواعد ولا تحده الحدود المقررة، فالشجاعة كلها عند هذا الناقد الذي يسبق الناقد الأكاديمي في التقاط الجمال المدهش، وسيعود إليه يوما ما، وإلى ما قاله من آراء جمالية وانتباهات حرّة غير منهجية، فالشجاع قائد دائما، وعليه لن يستطيع الناقد أن يغير قواعده إلا إذا أجبره الناقد الحر على فعل ذلك، واستمر المبدعون في تحطيم أسوار الجامعة ومقرراتها النقدية الجافة، فكثرة “الطَّرْق” على الحديد تجعله ليّنا. وهذه هي مهمة القارئ الملهم المجهز بوصفه ناقدا حرا غير مدجّن ولا جبان، بل هو متمرد، لا يحب القعود في الأطر الجاهزة.
أظنّ أننا لولا هذا الناقد الحر لما استطعنا تذوق الجمال في الكتب، ولا أن نقول إن كتاب “حليب الضحى” رواية، فالرواية بمفهومها العام أقرب إلى ذهن الناقد الحر من الناقد الأكاديمي الذي لا يعرف إلا أن يقود حماره في الخط المرسوم له دون أن يستمتع بجمال الطريق والربيع الزاهي على جنباته، فلا تصل إلى أنفه عطور تلك الزهور ولا يشعر بها من حوله. فيا له من إنسان ناقص ذلك المدعو “الناقد الأكاديمي”!