الترجمة عن الكردية مع التقديم: إبراهيم محمود
فرقٌ كبير بين أن تقرأ لأحدهم وهو متقدم في العمر، وأن تقرأ له، كما لو أنه يعيش فورة الشباب ويناعة الصبا وحتى خيالات الطفل المحلّقة. بالنسبة لمن يعيش حالات الإبداع، ويقيم في حمِى الكلمة المتعددة الأبعاد، يؤخَذ العمر بمقياس آخر، استناداً إلى حِرفية الذائقة ونباهة التجربة.
ثمة الارتحال في اللحظة ذاتها، في المكان الذي يستقطب أمكنة أخرى، وأزمنة أخرى، إنه نوع من دوران العالم حول الذات، والامتلاء بحضور كل من الزمان والمكان، وطرحهما فنياً !
بالنسبة إلى الكاتب والشاعر الراحل الصديق محمد سيد حسين، لا يمكنني هنا تقدير عمره الفعلي، وأنا معايشُ كتابته، بأكثر من توجه ٍ بحثي، ومكاشفة اعتبارية لتعابيره في موضوعات شتى.سوى أن الذي أستطيع تأكيده هو أنه بقي حتى اللحظة الأخيرة، قبل أن يعصف بجسده الواهن داء الأعصاب المحيطية ومباغتة كورونا، كان يعيش زمناً ثابتاً، هو زمن العمر المفتوح على جهاته الحياتية، وهو أنت يتبصر العالم من حوله، ويسمع أصوات الآخرين، ويكون قريباً من أدق الأصوات، وبعيداً عن أكثر الأصوات في فوضاها وضجيجها، لكون أكثر تمكناً من تحويل المرئي والمسموع، الملموس والمشموم، والمتذوّق إلى حاضرة كتابية تمخر عباب الزمن الآخر، الزمن الذي يؤرَّخ له في هذه الحالة باللحظات، بالأيام، والشهور والسنين، بالنسبة لمن يحاول متابعة ما كان يسطره، ومعاينة نسَب الإبداع وقابلية مصادقة الأجمل والأوفى معنىً !
لقد تعرضت للعديد من كتاباته، وثمة الكثير الكثير، في انتظار الإصغاء إلى هسيسها وصمتها، وها هو مثال آخر، يتمثل في كتابه الشعري توصيفاً :
Welat bihuşta mine ” nalîna te kirime dîlê evînê ” helbest “
الوطن جنَّتي: أنينك جعلني أسير الحب ، طبعة 2010
منطلقاً من نماذج تستشرف بنا نوعية علاقته بما يكتب. ليس هناك ما يبعث على الشك، ولو لثانية عابرة، أنه لم يكن كردستانياً، أنه لم يكن المأهول بما هو إنساني وكردي معاً ؟
قامشلو أكثر من كونها اسم المكان، و” تل عربيد ” قريته، أكثر من كونها قرية أدمن حبها طويلاً، كما هي المسافة الفاصلة بين الاثنتين، وما تجاوزهما، مما يبقيهما في الذاكرة الحية !
في ارتحالاته بين القرية والمدينة، وبالعكس، بين تردد أصداء ما كان، ومتغيرات ما استجد في محيطه، كان يعيش حواراته الذاتية، يعيش شخصية الآخر في تنقلاته، ويبث صوته الأدبي.
محمد سيد حسين الفولكلوري في الكثير مما اعتمده رصيد كتابة وإبداع، والحديث مما قرأه في أكثر من لغة: بالكردية والعربية، يظل أقرب إلى الطبيعة الحية في مؤثراتها الملهمة .
النماذج التي اخترتها من كتابه هذا، معايشة أخرى لهذا الإنسان المعزَّز بنبل الروح وجدتها!
وطني جنتي
وطني
على شفتيك
ظللتُ أغنية
أصبحت ميل كحْل
في عينيك الدامعتين
أصبحت جديلة منسدلة
على كتف الحور العين
خرير الجداول
وسط البساتين والحقول
في فواكه أدغالك المستوية
أصبحت ضيفاً معتبراً
أصبحت نقطة ساخنة
على حروف اسمك
أصبح القفي الإلهي عند معبدك
خبراً طروباً
طي مرويات رحالة نازح
وراء سرابك
أصبحت شاكياً صموتاً
بانتظار نجدتك
***
رشاقتك
صيَّرتني أسيرَ الحب
ضفيرة مقوسة
على رمانة خدك
صيَّرتني عاشق القمر
أصبحت نقطة قطران
على جبين الإنسانية
أصبحت مشكلة معقدة
في حلق الغاصبين
أصبحت سراً عالياً
يجفف ينابيع الإرهاب
حسرتي في أن أعرف
بأي لغة
تدْعين
على حظي المنحوس
بأي أسلوب
ستداوين الألم الصامت
لقد كتبتُ على جبيني
سراج الأساطير
موطنك الفردوسي
زخرفها
على أكتاف السحب الداكنة
وعلَّمها على زنديه
وكوى تاريخ الانقسام
بحبر التعاسة
فقط من أجل أسرار الإله النادر
علناً
لكل الأحباء الكونيين
يلوّح به
بحبور وسرور
مقاطع، صص 24-25
========
حوار العيون
خريطة وجهك
أجمل من دارة القمر
نظرات عينيك النافذة
أحدّ من شعاع الشمس
لو أنني البنَاء الأكبر
فإن صخرة الزاوية
تكونين أنت
من ألحان تينك الشفتين الرقيقتين
وأنغامهما
لحنتُ قصيدتي
على أوتار الطنبور
أبدعتُ سعادتي
من القامة الرشيقة
من العينين السوداوين
من ملامح الوجه الوردية
قسمات وجهك
قد اعترفت جيداً
على أغاني الحب
تنبعث منه
رائحة عظر الورد
لا يمكن للسموات
أن تأتي على مديحك
عندما أقف قبالة تمثالك
ينعقد لساني
عندما أراك شامخة
يتبرعم الأمل عندي
أكثر اخضراراً وزهواً
عندما كنا على ضفاف النهر
تحادثنا بحواجب العيون
ورموشها
كنا نتلقى سعادتنا
من قبلة
وأحلامنا أيضاً
كانت تشرُد وتتوارى معها
جئت
لكي أغني لك
أطرب
بجميع أنواع حب الموسيقى
والورد
أعرف أنني سأخلف العالم ورائي
ذات يوم
أفضل مما تقدم
أعرف ذلك
هو أن يبكيني الأصدقاء والأصحاب
منذ الأزل حبست دموعي
لأنني شرحت الندم
دون حدود
وعرفت متأخراً
جزاء الغلبة
من تجربة الخسارة
وقرأت من حروف اسمك
تاريخ العشاق
أعرف أن كل واحد
بحاجة إلى حكمة
حتى أنال مرادي
أعرف أنك أنت الزاهية الحلوة
عروس الأوطان
ألف باء الحضارة
في كل خطوة
أنهل من ماء ورد الآمال
***
لئلا تُنسى الإبادات والمآسي
كويتُ يدي بالقضيب المحمي
الحياة دون حب
في المكان محدودة
العزلة فيها
ألم لا مثيل له
الزوجة، المال، الغنى
الوجع
المكابدة والبؤس
ما لم أستوعبه
قلبي منغص
والمعنى منطوق ذاتياً
من صميم الضلوع محلق
مثل العصفور الدوري
جاثم أسفل سقيفة بهو البيت
الحب سر غال ٍ جداً
سمو الحب يعيد الحياة
إلى الموتى
جسدان معاً
يعقِدان حفل فرح القلوب
مثل منتشييْن
لا يلتفتان لا إلى الوراء
ولا الأمام
***
ليت صورة عاشقتي موجودة
كنتُ وضعت أمام رجليها
الجنون والطرب الولهان
القلب والروح معاً
رهناً وقرباناً
في الحياة
لم أصبح أبداً
حامل الوشاية
كنتُ دفعة واحدة
وهبتها الحبَّ
كنت فجعت بعناية
مثل سهم ينقذف
من القوس
قلوب البكوعوانيين
ومن أجلك
تمددت على حد السكين
وبالوثب تحركت
على رأس الرمح
***
لن أمارس الغش في الحب
أبداً
من أجلك
أحيا وأموت
ثبت وجودي من أجلك
تورد المنى والأمل
من صميم القلب
من أجلك
شبابك لا يقدَّر
لو أنك تجيزين
سأختم هالة القمر
على جبينك
وبالكحل الرباني أفصّلها على قوامك وقيافتك
وبالكحل الرباني
سأجمل عينيك وحاجبيك
ومثل الحية الهائلة الطول
سألف جدائلك
على حزام رصاصي
وبندقيتي
صص26-30
===
سلام وتحية
من القلب والكبد
أهدي السلام
إلى تاريخ الشعب العريق
أحفاد الميديين
والميتانيين
الحوريين واللوريين
والمانيين
من أجل الذين حملوا
عدة الحياة
الأفق الذي
لا زالت المأساة
والدموع والدم
على وجهه
تتماوج
تلك التي
تفتقت براعم الحياة
من أرضه الذهبية…و
وزرعتها في جراحاته الفاغرة
لازال التوقيت
يمنح إرادة القوة
إلى المروءة
يحدق في السماء
إنما للأسف
إن العملاء الأذناب
والغرابن الدخيلة
تراقب بواباته
البارحة
انجرفت بيوتك ومحلاتك
في السيل الأرعن
إنما للأسف
حيث اليوم الذي مضى لن يعود
مازالت أسوارك
وسدودك
بفضل إرادة القلوب
متماسكة
آلاف الأصابع على زناد البنادق
مدربة وعلى أتم استعداد
أحياناً
أحس أن
أزيز الرصاص
يمزق غشاء أذني
من أجل كل قلب عاشق
الذي مازال مقيماً
على الأرض المباركة
يرفع فجر مندَّى رأسه
مثل جرح الزهرة
التي لا تؤذي أحداً أبداً
أقدم سلاماً
إلى الأخوة والأخوات الكرد
في الزراعة والسقاية
في المعامل والمدارس
في جروف الصخور
ومغاور الجبال
للمثقفين والسياسيين
إلى جبهات المقاومة
إلى ساحات العمل والنضال
سلام معظم
لأجل ضفائر الحسان
غرة الشباب
من أجل سنابل القمح الذهبية
الحقول المباركة في الجوار
سلام خاص
إلى بطولة شعب كردستان
صص180-181
===
تعاسة الحياة
” عيش يا كديش
حتى يطلع الحشيش “
يا عالم
ما لم يعهده أحد من قبل
جرى في المنطقة
الكذب يتسلق الحيطان
الحقيقة تتعفر في التراب
الأنظمة تتصرف خلاف النهج
لم يعد في مقدور الأنهار
عبور الحدود
النجوم تتعالى على القمر
الآفاق والفضاءات
اتسخت
المفارقة
لم يعد في مقدور الحرية الظهور
الحمام لم يعد في مقدوره
معايشة السلام
ولو في دقيقة
الإنسانية تحتضر
في الأتراح والأفراح
في الخسارات والمباهج
لا يجد الناظم فرصة
كي يكتب قصيدة
في وصف الحظ السعيد
ص 193
دهوك- مركز بيشكجي للدراسات الإنسانية- جامعة دهوك