تعنينا صورة الأب، مثلما تقلقنا! فهي بالقدر الذي تمنحنا طمأنينة نفسية، ملاذاً آمناً، تجردنا من خصوصيتنا، أو تضعفها كعلامة إشهارية للذات، باعتبارنا أبناء. إن صورة الأب توضع، تعلَّق في وسط الغرفة، في الصدارة، وفي الحد الأقصي من العلاقة العائلية، تكون صور الأبناء في الجوار، فهؤلاء يتطلعون إليه، يغبطونه علي موقعه الرمزي، يتوقون إلي اللحظة التي يكون كل منهم في موقعه، بإزاحة ما، أو الانقضاض علي موقعه ، وفي حالة الأدب، لا دوام للأب، فالحاكم هنا، هو نسابة القوة الدلالية للأدب، للإبداع
ما أحاول القيام به، ومن منظور بحثي إشكالي، نقدي تماماً، هو مكاشفة صورة الأب الأدبي، في كتابة سليم بركات، وفي رواياته الأخيرة بالدرجة الأولي، دون عزله / فصله عن أعماله السابقة، وكيف أنه شوَّه صورة الأب فيه، من خلال ذلك التكرار، للكثير من صيغه التي باتت مألوفة في الكتابة، هي أسلوبه المعتاد، في معاينة الصورة الأدبية، رفدها بالمتخيل، بغرائبية لا تنفكُّ تحضر بكثافة في أعماله الأخيرة، وأي تكرار يكون، حين ينعدم التأكيد علي خاصية كتابية ما، إنما يكون حضور الشاهد علي مدي خور الأب في تجديد قواه، وتعزيزها، أقول ذلك، وأنا أستكمل ما حاولت القيام به في كتابي (قتل الأب في الأدب” سليم بركات نموذجاً”)، والصادر سنة 2007، في دمشق، وقد وضحت ما أردت الذهاب إليه، في المقدمة (في سيرة الأب الجوَّاب في الآفاق، ص 9-22)، وتحديداً في سياق مفهوم التكرار، ووظائفه المتعددة، كما هي نصوص بركات الشعرية والنثرية (ص 156- 165)، وفيما يخص تكرار كلمات مختلفة في مجمل أعماله (ص 256)…الخ، وما أرمي إليه هنا، هو التركيز علي نقاط، تكون دالة علي وجود تراجع ملحوظ، في مسيرة الأب الظافرة، من خلال التكرار الشاهد علي زعزعة صوب الأب، تشويهها، في ممارسته الكتابية: الروائية الأخيرة حصرياً !
في المرتقي الصعب
لا يشك أحد في التجربة الأدبية الكبيرة لبركات، من جهة التنوع، أو ثراء الدلالات رغم وجود ثغرات هائلة، يسهل مكاشفة ذات الكاتب الإبداعية، حراكه الدلالي، مصادر إلهامه، أو استلهامه، في مقايضة مقلقة بين الشعر والرواية، في النقلة الخاطفة من الشعر إلي الرواية، اعترافاً ضمنياً منه، بنفاد زمن الشعر، حتي لو أنه يعاود كتابة الشعر بين الحين والآخر، ولكنها كتابة تظل دون المطلوب، كما هو المستنتَج، وتجلّي امبراطورية الرواية، وتشديد الرهان عليها، ليكون أكثر مطاردة للمعني فيها، وهو يطعم الكتابة الروائية بالنفَس الشعري، إلي درجة أنه يمارس قرض الشعر، التحرك بغموض صادم، من جهة البناء الجملي. ثمة حضور موسوعي لعالمه الرحب بمفرداته التي تعود إليه، وليس إلي سواه دائماً، إن من جهة الاستخدام، أو من جهة التركيب الجملي، كما ذكرت، وفي طبيعة السرد الجامعة بين خصوصية الشعر المستعاد وهو ييمم شطر الرواية، وعمومية النثر، وهو مشغول بظل الشعر: حنينه الأول، لتكون العلاقة مختلفة، أو معدلة بشكل لافت، وهي: عمومية الشعر لمن يستهين بأمره، وخصوصية النثر، لمن يستعين بسره، أقول ذلك ابتداء، وأنا أستحضر قول الإيطالي كالفينو، حول (التعددية)، وهو مؤثر هنا (كل حياة هي موسوعة، مكتبة، مخزن أشياء، سلسلة من الأساليب، ويمكن أن يستبدل كل شيء باستمرار، ويعاد تنظيمه، بكل طريقة يمكن تصورها- انظر كتابه : ست وصايا للألفية القادمة” محاضرات في الإبداع”، ابداعات عالمية، الكويت، 1999- ص 118).
ومن ينظر فيما كتبه بركات (في حدود ثلاثين كتاباً، ما بين شعر ونثر، علي مدي ثلث قرن ونيّف)، يلاحظ هذه المقاومات العاتية من الذات تجاه الذات، تعبيراً عن وعي الكينونة الذاتية للعالم الذي يقيم فيه، ويعيد تركيبه، بالطريقة التي تمنحه استمرارية، خلاف ما هو عليه، وهذا هو دأب كل كاتب فعلي، في حربه الدائمة علي المكرر والمتوارث، وهي التي يقوم بها وحده محارباً أبداً، في حالتي النوم واليقظة، في حله وترحاله..
إنما ما هي حدود هذه الحركة التي يقوم بها في مرتقاه الأدبي الصعب؟ حين ينقلب الجهد المبذول إجهاداً، وبالتالي يتبدي ” جهاده” الإبداعي ابتداعاً، إذ يعيد ما كان أودعه سطوراً مقروءة سابقاً! إن القيام بجردة إحصائية لبعض مهمٍّ من هذه الإحالات المرجعية، تعني حصاد جهاده الإبداعي، تعيننا، في مكاشفة الفارق الكبير بين بركات المبدع وبركات المبتدع، أو بركات الصاعد بعالمه الأدبي، وبركات المتعثر في خطوه، عندما يمارس تكراراً من نوع آخر، ليس هو الذي ينبني علي المختلف، فيما يسمي بـ” العود الأبدي”، ليس هو (عودة المختلف)، كما يقول فيليب مانغ، إنما يعيد إلينا المختلف وقد تقصَّف، لأن تماثلاً قائماً، يهشهش خاصية الاختلاف ويُبهتها: علامة الإبداع الفارقة، ويستشرف بنا لهاث السرد، في محاولته التألق بجديده، هذا الذي يخيب ظن القارئ، خصوصاً حين يكون التماثل جلياً، بين كتابة سالفة تألقت بجديدها، وكتابة لاحقة، زعمت جديداً، بتكرار ينفي المختلف.
إن النظر في الخط الصاعد لرواياته الأخيرة، هو الذي يواجهنا، بذلك، يواجهنا بنوع من التكرار النمطي، تكرار يقوم علي حالة نفسية ضاغطة، تقارب الهوس، بقدر ما إنها تمثل طريقة حياة فعلية تبدو أكبر فعلَ كبح ٍ، من طريقة حياة ماثلة في ذهن الكاتب ومتخيله،وذلك عندما يكون المقروء الجديد، وكأنه كسابقه إبداعياً.
إنها مجموعة رواياته التي كتبها وهو في منفاه المنشود من قبله (السويد)، ومنذ سنوات عشر، وأنا أحدد هنا (كهوف هايدرا هوداهوس، 2004) ، و(ثادريميس، 2005)، و(موتي مبتدئون، 2006)، و(السلالم الرملية، 2007)، و(لوعة الأليف اللاموصوف المحيّر في صوت سارماك، 2008)، وكلها صادرة عن المؤسسة العربية في بيروت، رغم أن روايته (الأختام والسديم) و(دلشاد)، كتبتا في السويد، وصدرتا عن ذات الدار الناشرة، وهو حديث العهد بها، قبل بقية الروايات السالفة، وهما روايتان مختلفتان في المضمون ، باعتبارهما أقرب إلي رواية الذاكرة القريبة، ذاكرة المكان الممكن تخيله بعالمه وظلال شخصياته، كما تعرضت إلي ذلك في كتابي السالف، باقتضاب، لأنها تمثل تحولاً مختلفاً في حياة بركات، بينما الروايتان الأخريان (السلالم…- لوعة..)، فقد صدرتا لاحقاً.
إن المختلف الكلّي في رواياته هذه، هي غرابة عوالمها، خلاف رواياته الأخري، غرابة أسماء الأشخاص، غرابة الذين يمثلون أدواراً مختلفة، حيث (لوعة الأليف)، تتحول إلي فجيعة الأليف في المقروء والممكن مكاشفته، أما طريقة السرد في التعبير، فهي بركاتية. وعندما أتحدث عن ذلك، بالصيغة هذه، فلكي أشير إلي مفارقة العلاقة القائمة بين بركات الذي اُنتظِر منه، أن يقدم جديداً تلو جديد، بعد استقراره في السويد، ويترك أثراً أمضي في نفوس قرائه، لأسباب زمكانية، وفي نصوص أكثر انفتاحاً لذائقة القارئ المتابع لما يكتبه بركات، كما كان شأنه في الروايات التي أخذت صيتاً، وعلي أكثر من صعيد، بركات الروائي أكثر من كونه شاعراً، رغم أن البداية ابتدأت بالشعر، ورغم أن الشعر بقي يقاسم فيه حرفة الكتابة الأليمة، في كل ما كتبه، حتي في نثره الآخر (أشير هنا إلي كتابه ” الأقراباذين”)، وبركات الآخر المسكون بشغف عوالم أخري، وأسماء أخري، واستعادة الكثير مما كان يعتمده في نصوصه الأخري: الروائية والشعرية، علي صعيد المتخيل، والرموز تتداخل، مثلما تتعقد علي يديه، باستعادة حوارات، مناخات ، أُلِفت سابقاً، وهنا يحط جمُّال النقد ، هنا تكون مقاربة أخري، في مسعي مكاشفة بركات الآخر، فيما صمت عن تسميته، فيما تخلي عنه، بركات الذي توقف عن الصعود، لأن مستجدات أخري، لم تعد تشكّل محفّزات كافية، ليكون بركات معهود، في مستوي بركات (فقهاء الظلام- الريش- أنقاض الأزل الثاني- دلشاد…الخ)، إنه بركات المتحول خلافاً، رغم وجود ما يشي بحضور آخر علي صعيد حركية الذات- العلاقة مع المكان، والانتماء والنظرة السياسية بالذات، كما سنري …!
في العُشر الصحّي
أنا أبعد ما أكون، في اعتماد أسلوب الوعظ، حتي من باب التذكير، عندما أكتب عن رجل أدب، هو بركات هنا، وأنا أتحدث عمَّا يجب أن تكون عليه الروايةُ الروايةُ جدة ، وحده بركات، يقدم انكسارات في المنظور، ومن خلال الكتابة المقاربة لخط سير رواياته، للمفهوم الفلكي لما أودعه في رواياته من مؤثرات جمالية وإبداعية لافتة، حيث التنوع والعمق سمتان ضالعتان في حركيتها، إن اقتفاء خط سير الكتابة عنده، هو الذي يستوقفني، وأنا أتحدث من خلال ما أسمّيه بـ(العشر الصحي)، مشيراً، إلي حقيقة ملموسة، تجلو أعماله الأخيرة خصوصاً، وهي أن غالبيتها تتشارك في اعتماد التكرار أساساً لبناء عالمها، أما جانب الغموض الثقيل الوطء، المعتبر صفة لازمة لمجمل ما كتبه، فهو هنا يتشابك مع مستجد معتمَد، بصدد الأسماء والأمكنة، حيث الغرائبية تثقل بدورها علي المكتوب الأدبي، إن القليل منها يحتفظ بفاعل الحضور الأدبي: الإبداعي، وبدءاً، من روايته الأخيرة (لوعة الأليف…)، إن تحركنا في اقتفاء الأثر بالعكس!
يعلم بركات، كما يعلم القارئ العادي، أن ما يمنح الأثر الأدبي خصوصيته، ما يخرجه من دائرة العشر الصحي، هو اختلافه فيما انبني عليه، كما لو أن سلسلة الولادات من رحم واحد، تعرّف بوحدتها النسَبية في علامات ظاهرة: في الشكل، والحركة، والانطباع الأول في المشاهدة، ولكنها الكثرة في التنوع، من جهة مصائر الولادات المختلفة، تنوع في الأبعاد المميّزة لكل مولود، في الصوت وأثر الصوت، وتفعيل القيمة الأدبية له …الخ.
انطلاقة من العراء، عودة إلي العراء! هذا ما يمكنني قوله، وأنا أتوقف عند (لوعة الأليف..)، لأنطلق منها إلي الروايات السابقة عليها، وكيف يتم اعتماد التكرار فيها، وأبعاده كذلك !
وبداية، أقول، إن الكم الهائل من المفردات أو العبارات، أو المشاهد المصوَّرة، ذات الإحالة الجنسية، في هذه الرواية، يفوق كل ما هو موجود في أعماله السابقة، ثم تأتي صياغاته الأخري وهي المألوفة سابقاً أيضاً، كاللون خصوصاً، وما يخص تركيب الجمل، أو طريقة التعبير، وذلك من خلال طريقة السرد، حيث إن مالك زمام السرد، والذي يجلو معظم رواياته، باستثناء سيرتيه، يتحدث باسم ضمير الغائب ،وهذا يتوافق مع الرغبة الضمنية للكاتب، في إحالة حركية الحدث، أو رسم مصائر الشخصيات، أو بناء العالم الرواية، كصيرورة حدثية، من خلال تلك الرغبة، باعتبارها نظام مركزة لا تخفي استبدادها، وخصوصاً أكثر، وكما ذكرت آنفاً، عندما تتكرر صور، مواقف، إنشائيات قول، أحكام ذات طابع قيمية، طبيعة الملفوظات في الحوار الجاري بين الشخصيات، وكأنها واحدة في أفق الرؤية، في رؤية العالم، في رؤية الذات والآخر، وبالتالي، يتجلي عنف الموصوف سردياً!
في روايته الأخيرة، يجري تقرير وصفي، علي لسان راو ٍيلتحم بالكاتب، بصدد أرض تسمي ” ريس”، وهي تسمية من بين تسميات كثيرة، لأراض كثيرة، كل أرض تشكل قاعدة انطلاق جهوية وحدودية وتحرك ٍ، لشخصياته (كل ذكر أو أنثي، بالغ أو قاصر، قد تختاره المصادفة والياً علي أرض ريس. من ينجو من حمي مرض أفرغت قُفَّتها، في مجري الموت، واستدركت فاستعادت ما أفرغته في مجري الموت لتفرغه في مجري الحياة، يصير والياً، طوال عام علي ولاية ريس. ص 10)، هذا التقرير الوصفي، يظهر الوضع القدري المستبد، لعالم سيرتيه، وبدءاً من (الجندب الحديدي، 1980)، إذ يتحدث علي لسان الطفل، الطفل الذي يكونه في سرده الروائي (ما الذي تراه؟ قل لي أيها الطفل ما الذي تراه؟. هضبتان في الأفق، وعقد من القري وتراب يترنح بين صيف طائش وبين شتاء أحمق . ص 7)، ذلك ما يمكن تلمسه، باعتباره كابوس المكان، في (سيرة الصبا، 1982)، كما في ( والشمال امتحان. جهة الضجر الكبيرة سيدة الجهات في امتحانها. تأخذ كل شيء لتعطيك البسالة والتهور. وفي أضعف حال تجعلك وكيلاً علي ملك لا يُري، أو حارساً للهواء. ص 61).
ولعل المضي في تتبع مكونات الكابوس لمكان يتوزع بين جهات مختلفة، عوالم مختلفة، شخصيات مختلفة، وبمعايير قول مختلفة، إنما هو المكان الواحد المتعدد الأقنعة كثيراً، لكنه القناع المتكرر بِسُمّية معدنه، حيث الحياة من الصعب أن تطاق. وتلعب اللغة الروائية، لغة السرد دوراً كبيراً، إلي درجة الطيش المقصود، في لفت الأنظار، من خلال آلية التحكم فيها، بإخراجها من وضوح المعني، وكما هي متداولة، إلي غموض استفزازي، غموض يربك القارئ والذي يخاطبه من بين ثنايا نصوصه، قارئه الآخر، الناطق بلغته كتابةً، كما لو أنه يمتحنه في لغته، في فعل التركيب والتحوير لجملِها، طائحاً بهدوئها خارجاً، راداً العنف المرتد إليها بعنف يرد عليها، بفعل انتقامي، يكون الكاتب نفسه خزَّان عنف متراكم، لتكون جمالية المشهد الكابوسي، ومباغتات اللغة في قول اللافت، تعبيراً ما، عما كان يجب ألا يحدث، وليكون المتكرر تقرير حال جلاد لغة مؤسساتي الطابع، أو متماه معه، من لدن ضحية استحالت فاعل كبت في الواقع بسبب العنف الموجه ضده، ليكون في متن السرد الروائي فاعل انتقام، مشوش نظام لغة معتادة، من بؤرة ميلاد الطفل الأول ورؤيته الأولي للعالم بأفقه الواطئ ، الكابوسي، البؤرة التي تنثر صورتها الكابوسية، لتتكاثر في أمكنة أخري، مكررة عنف البدء الأول تاريخاً وموضعاً، وفي الوقت ذاته، ليكون المكرر من ناحية، حالة إرباك للقارئ الذي يتجاوز حدوده، إعلاماً عن استباحة تاريخ ضد آخر، وإزاحة قيمية طاغية لقيم يشار إليها، دون العمل بها، ومن ناحية ثانية، حالة مواساة، لسان حال رهينة عنف لغة تتجسد مكاناً وزماناً، حتي علي صعيد اللاشعور، ولو أن الغرائبية بلغت أوجها، كما في (لوعة الأليف…)، وهي مفارقة في الاسم، لانتفاء الأليف في العنف.
إن تحرّي البنية النفسية الكامنة وراء السيل المتدفق من لوائح اللغة الروائية، في إشاراتها الجنسية، كما في المصرَّح بما هو جنسي، نسف للمعتاد، كما عودنا الكاتب علي ذلك سالفاً.
ثمة مقدرة هائلة في الوصف، نعم، هو وصاف ماهر بامتياز، شغوف بوصفه، في مضمار المشاهد المختلفة، وفي الجنس يلعب الوصف دوره الكبير في تجسيد المغيّب وتلوينه جسدياً.
وفي إجرائه هذا، يكون للتكرار ذائقته المرة، ذاكرة الضحية، في انفلاتها وهي تتحدث عن الكذبة الكبيرة للمكان المحاط بالشعائرية المهيوبة، حيث العمي يسم جل شخصياته، عمي وظيفي، ليكون الموسوم دخولاً في المجهول وافتضاح أمره، تدويناً لتاريخ سوأة من نوع مختلف. سأورد نماذج من ذلك (” احفر ببصر غرمولك حفرة”، عقب هبيد، ابن السبعة والعشرين…) ، (” ما الحفر إن لم يكن في فرج صغير كفرج سارماك؟”، قال ابن التسعة والعشرين …ص 28)-( ” اذهب، وخذها. غرمولك بات بظراً”، رد هيرون)، وليأتي الجواب (” لا يهم”، قال ابن الستة والستين ثومين. ” سارماك أولي بشيخ مثلي يعرف بأناة، أن يوقظ شُفريها لاهثين. سآخذها مساحقة ببظري.”…ص 31)- ” سأرفعك إلي السماء المسلوخة الشفرين، ذات البظر المتشعب تسعاً. سأضع فمك علي فرجها، يا باهدون”، قال روسيرو بصوت صرير..ص60)- (نجومٌ أسماءٌ من صور المني الأعمي، ص 69)، وفي الصفحة ذاتها (أنت، نفسك، صورة من نظم المبصرين أشعار القذف الناقص خارج المهبل،)، (سأسلخ القدر بشفرة المنيّ- القدر مرتعشاً من ذهول بظرك الواشي بالفردوس إلي الفردوس..ص 78)- (كلٌّ استوهب سارماك ما يقدر جسد سارماك، راكعاً أو ممدداً علي البطن، أن يعطيه من مثاقيل اعتراف اللحم، في كل جسد، بالأيدي عصَباً ينعظ القيامة بزب التيس.ص 83)- (ندهن بالشمع الذائب شُفرَي فرجها، ص 100)، (” أسمعت، قط، بفتاة لها ….؟”، ساءله آثول، فرد كيروكا المفقود النصف:” كل نساء ريس لهن …”. زحف بصليل أقوي للمفاتيح متلاطمة علي صدره: ” كل رجال ريس لهم فروج”، أضاف بصوته الخرير. ارتفع صوت معَقّب من عابر إلي جواره:” ماذا عندك يا كيروكا؟ نصف …. ، ونصف فرج؟”. بصق كيروكا احتقاراً:” أأعرف أمك، يا كوريس المخصي؟ أهي ذات البظر الأكثر طولاً من عصاك؟ لك رائحة صَفَني”، قال… ص 138)، (ارتعد المكان. انكمش كقلفة بعد النكاح. ص 141)…
ويمكن إيراد الجمل التالية ( للهواء بظر يعض. ص 51)، (للسحابة بظر، وليست خصية. ص 90)، (ممتليء، بظر راوية.. ص 109)، (…. السماء، ص 136)، وسابقاً، كان هناك توصيف آخر (السماء ذات البظر المتشعب.. ص 60)، (علوم الفرج المبصر، ص 39) ، (السماء؟ إنها بلا فرج. ص 67)، وفي الصفحة ذاتها، حيث الحديث عن نونود (لها فرج يري. ص 67)، (فروج السمع. ص 86)، أو (فهلاَّ خيَّطتَ شُفرَي لسانِك الفرج؟.. ص 72)، ( يا لأنفها الفرج.. ص 103)…. حيث من السهولة قراءة الكثير من المفردات الجنسية، أو ذات الإيحاء الجنسي (الفرج- الغرمول- البظر- النعظ- الخصية- المني …الخ)، من خلال لعبة المتقابلات، وللذهاب بالقارئ إلي الفكرة التي حاول الكاتب تشخيصها روائياً، حيث تتداخل الذكورته والأنوثة، في هجنة مريعة، كما هي حال (سارماك)، إشارة إلي العقم الكلي، وخراب العالم، وضرورة الخروج عليه، ومن خلال الحوار الذي يتقوم بحركية المفردات تلك.
وهذا ما يمكن التوقف عنده، في سيرتيه، وخصوصا (سيرة الصبا)، ولاحقاً في (فقهاء الظلام)، وبصورة أكثر انتشاراً، في (أنقاض الأزل الثاني، دار النهار، بيروت، 1999)، و(الأختام والسديم)..
ففي (أنقاض..) نقرأ (” اسمع”، قال مانو:” سينفجر بظرها صراخاً. ستنفجر حلمتا ثدييها. سترتشفك مع المني حتي يخشخش جلدك الفارغ إذا مسكَّك الهواء..ص136)، وكذلك (عقيم الرحم، عقيم المني، ص 13)، (رعشة كيان الكبش، في انحدار ماء جوهره إلي عدم المهبل.. ص 22)..
وفي (الأختام والسديم، ط2، 2006)، نقرأ (الفرج ظلام القِدم، سكونه،مطلق حجابه. الذَّكر يهدم الخصائص الأزلية بنزوع العَرَض- في المني- إلي محاكاة الجوهر، ونزوع ما لا يدوم إلي محاكاة ما يدوم..الخ . ص 136)، أو في (دلشاد، المؤسسة العربية، بيروت، 2003)، بصورة لافتة، كما في (ملاعب الفرج- دورق البظر، ص 68)، (بين كمرة غرموله وأنثييه، ص 100)، (ويخفضون بظر الأرض ومشارقها، وخصي السماء ومغاربها، ص 144)..
لكن في الجانب الآخر، يمكن التوقف عند مفهوم اللون كثيراً، وكيف يتم استخدامه، كما لو أن اللون إشكالية الكتابة الكبري، اللون باعتباره الحقيقة، وحتي في ديوانه الشعري (المعجم، دار المدي، دمشق، 2005) حيث يسهل العثور علي كل من تداعيات اسم اللون والكلمات الدالة علي ما هو جنسي (انظر الصفحات:18- 22-44-50- 51-64..الخ) ، وفي (كهوف..)، يمكن أن نقرأ عن اللون باعتباراته المركزية (الحلم لون، ص 26)، وفي الصفحة ذاتها، حول مخلوقات الهوداهوس (لا يقسمون إلا باللون. لا يتضرعون إلا إلي الإله- اللون)، (اللون هو المصادفة، ص 40)، (ما من شيء، يتجلي فيه اللون بكماله إلا المرآة. إنها نفَس اللون، ونبض اللون، ودورة اللون الفلكية من بزوغ العناصر حتي أفولها. سأقسم، منذ اليوم، باللون، وبالمرآة،وبالمصادفة. ص 41)، (منطق لون، وشرائع لون.. ص 43)..
وفي (ثادريميس)، كما في (مراتب اللون، ص 22)، وفي الصفحة ذاتها( اللون معتل في ما أنسجه)، (تنفَّس بخياله المتجهم ما يتنفسه اللون. ص 40)، (بأقدار تنعش اللون، ص 43)، (ولاءَ اللون للأشكال، ص 44)…
وفي (موتي مبتدئون)، نقرأ ( بمنطق اللون، ص 54)، (بأسنان اللون، ص55)..
وفي (السلالم الرملية)، نقرأ (بشفرات اللون، ص 17)، (كي تعيد اللون، ص 31)، (كي أضلل اللون، ص 37)، (أسطوانات اللون.. ص 79)، (شعوب ما بعد اللون.. ص 81)..
طبعاً يمكن تتبع اللون في روايات أخري، كما في (أنقاض..)، في( 159-179- 186..الخ)، وتحديداً (اللون ضلال)، ومن ثم (ما لون ظلامك..، ص186)،ومن ثم (عنيتُ أن تشاركنا شرعَ اللون..)، ولاحقاً (الأفضل أن أقترح لوناً. حسناً. أقترح الأبيض.- ” ولماذا الأبيض؟”، سأله هوار حاجي، فرد الأعمي: – لأنه، كما أعرف منكم، لون المنيّ..ص 187)، وفي (الأختام والسديم)، ثمة تكرار، في منحي قريب (الأخضر هو اللون الأول)، ومن ثم (لون الجنة في خيال الله قبل النفخ في الطين..)، ومن ثم (الأبيض. الأبيض).. وبعدئذ (الأبيض ليس لوناً)، ومن باب الاستفهام (وما الأبيض، إذاً؟)، والجواب (الأبيض هو الجهالة التي ذللها الله…. ص 100)، وفي الصفحة التالية (اللون مروق، ص 101)… الخ.
وقبلها، في (عبور البشروش،1994)، كما في (اللون قياس الألم، ص 87)، و دلشاد)، حيث نقرأ (للصوت لون خامس أيضاً، ص 61)، (لون أمها، ص 162) ..
في (لوعة الأليف..)، ثمة كم وافر من الصور الخاصة باللون، والإشارات الرمزية التي تتولد في متنها، أو علي هامشها، تعيدنا إلي الوراء (قال ساتير، الممتليء، الأبيض الجلد بسخاء من مصادفات اللون، ص 8)، (أسطوانات محطمة من بقايا لون، ص 11)، وكذلك (منذ سمعوا من آثال عن اللون، ص 11)، (أرتك أمُّكَ اللون، ص 29)، (ما اللون؟ ما النور؟..، ص 42)، ( وتبشّر بسلطة اللون، ص 53)، (المعتل اللون.ز، ص 85)، (مهَّد لأسفار اللون ممرات القِدم في اللون، ص 107)…الخ.
ويمكن التعرض للمفردة التي تتكرر في ذات الصفحة، كما هو المعهود عنده في مجمل رواياته، كأن نقرأ عن البذور في سياقات مختلفة (حمل الهواء الخامل، بثقل الملل من ارتفاع الشمس، بزوراً رائحةً من حمض خالص، إلي الساحة الخلفية للهيكل. بزور مجنحة اجتازت السراديب، أسفل الهيكل، خارجة من البوابة الكبيرة إلي عرضة السوق، بزور من رائحة الفقاع المختمر…الخ، ص 48)..
أو ما يتعلق بتلك الجمل المقاربة لصيغة الأحكام المطلقة قيمياً، وهي علامة فارقة، بدورها، في رواياته السابقة، كما في (العظام مهارات المتعين الخامل. ص 70)…الخ.
أي لون من ألوان المكاشفة النقدية لذات الكاتب، يمكن تقصّيه في هذا الفيض ” التكراري”؟
هل حقاً أن ضاحية ” سكوغوس” السويدية، وفي العاصمة: استوكهولم، أو كما ثبَّتها هو في نهاية روايته الأخيرة، خلاف سابقتها هكذا” غابة سكوغوس/ مملكة السويد”، حيث تُجاوره الغابة الصنوبرية، أو تواجهه لحظة خروجه من البيت، كما رأيتها، في زيارة لي إلي هناك، في أول صيف 2006، وإلي بيت الكاتب بالذات، وحواري معه، فتكون الدلالة مركَّبة، من جهة ” الغابة” كمفهوم، هل أن الضاحية هذه، باتت تواجهه بعالم غابي، عالم وحشي، كما لو أنه يرجع القهقري إلي البدء الوحشي لتاريخ الإنسان فيه، أم أن الذي يستجد فيه، بات لصيقاً بجملة التحولات النفسية داخله، فيكون الغموض المستشري، ومن خلال المنظور الجنسي، مسعيً أكثر فظاظة لتعرية عالم، بقسوة مضاعفة، حاصر بها نفسه، بنوع من العصاب المستشري والمستطاب معاً داخله، بينما هو لسان حاله الذي أغلق علي نفسه فيه، انكيدو معكوساً من نوع آخر؟؟؟!
إن نظرة في تاريخ الكاتب الشخصي، ومن خلال كتاباته الإبداعية، تواجهنا بحقيقة آلمة، نستشرف بها ما هو متداع فيه، ما يريد القيام به، بدور، قد يباغت القارئ، وأعني بذلك، دور الغائب المنتظر، كما هو المعهود في النصوص والحكايات الدينية الكبري، حيث استشراء الظلم، وتكون لغته بالطريقة الموسومة، تعريفاً انحدارياً به، في التواري المتنامي لشخصه، وظهور صوته عبر الكتابة، مع حالات استثنائية، إشكالية، في جانب التلفزة فيه، وهو يصرح بأكثر من رأي سياسي، كما تحدثتُ عن ذلك، في (خارج بيت سليم بركات)، في القسم الملحق بكتابي عنه، إذ برز في صوته ذاك، مخالفاً جداً، لما هو مثار في رواياته، والأخيرة منها، خصوصاً، وتكون المفارقة هذه، تعبيراً عن صراع بركات الراغب في الظهور، كأي كان، كائناً من لحم ودم، وبركات الراغب في الاختفاء المنشود، المحبَّذ طوطمياً، كما لو أنه حالة صوتية، فاتنة بتأويلاتها تماماً!
يمكن الانطلاق بدايةً، من مفهوم (العود الدائري) النفسي، والذي يتلخص في اشتهاء شيء ما، وإعادة تكراره، لأنه يستجيب لوظيفة نفسية، أو يلبي حاجة نفسية، عند الطفل، أما بالنسبة للكاتب، فالمفهوم قابل للتوسيع، باعتبار المكرر، لا يستجيب لوظيفة نفسية فقط، وإنما يحقق هدفاً، يتشعب في الحياة، من خلال النماذج التي ذكرنا. إن كل تكرار، إحالة إلي المسبّب للحالة، إلي العنف الكامن، أو المولّد لسلسلة ردود الأفعال المحيطية، والتي من شأنها لفت النظر إلي أن شيئاً ما، لا يستهان به، شاهد ما، علي الأرض الخراب، أو الرجال الجوّف، إن جازت الاستعارة هذه، ولكنها الاستعارة من باب الإغارة علي المعتَّم عليه، وإظهاره للنور، بقدر ما يكون دالة عنف، ومحفزاً علي الكتابة، ولكن التكرار هذا، من خلال ما أثرناه، قد يفقد بريق فتنه، يفقد مبرر استعادته بالطريقة هذه، وبالتالي، لا يعود فاعلاً إيجابياً لمواجهة مصدر العنف القاعي، وإنما ما بقي الكاتب يستثمره، كما لو أنه الرصيد البنكي الذي استنفد، إنه التكرار الشاهد في الحالة هذه، علي أن الفاعل الإبداعي لم يعد يستجيب لرغبة الكاتب الإبداعية، إنها رغبة منكفئة علي نفسها، رغبة انحدارية بكاتبها، في سلسلة التكرارات، لأن ثمة ابتعاداً مخيفاً عن مسقط الرأس، وإشارات الرأس المحمول اعتبارياً: النبع المتجدد في الأعماق، والمتدفق خارجاً، وفي الوقت ذاته، مغازلة الراسي أو المتبقي غير القادر علي إبراز الوجه الإبداعي الذي تجلي به سابقاً.إن ما يمكنني قوله أيضاً، وفي هذا السياق، هو أن خريج/ سليل التربية العائلية الدينية الملاَّئية (سبة إلي الملا، نسبة إلي أبيه الملا)، المتحرك في العمق في ظل أب ديني، ورع، مسيطر صورة الابن، عالمه، الابن المتمرد علي الأب، ليكون أباً من نوع مختلف، متحدياً أباه، ما بقي دهره، كما هي رغبة الكتابة، لإيجاد مثيل مقتدر متنشط بجواره، صار يعتمد علي التكرار الذي يحن إلي مثيله، خارجاً، دون تعزيز الأرضية الموازية، باعتباره استشرف حدوده العظمي من الإبداع حتي الآن،، فيكون غموضه المركَّب صيغة من صيغ الإمامية الغائبة المحتجبة،وكل كتابة تقريظية تقريباً (وهل هناك كتابة نقدية بالفعل في محيطه؟) ممن يعظمونه بركاتياً ، أو يضربون حوله طوقاً مشيخياً، برغبة واعية أو خلافها من لدنه، دون النظر في بنية أعماله، منها إليه، وليس العكس، في كل جديد له، أكثر من كتابته، هي بمثابة تضرع، توسل إلي الإمام هذا بضرورة الظهور، وفي الوقت ذاته، بضرورة بقائه غائباً ، وديمومته مختفياً، ليتسني لهم المزيد من التعريف الشعائري المريدي به، بركات فيما يكرره، ويتكرر به، خان وصية الكتابة الإبداعية، في علاقته ببيئته التي خرج منها، وهي لم تخرج منه، إذ تنكَّر لها، وعاش علي الهامش، مقتنعاً، بيقينية المأخوذ بصدي اسمه، أن ما أثاره لاحقاً، كما هو وضع التكرار في كتابته، يجدد عهده مع الكتابة الإبداعية.
ولكن تشويه صورة الأب، هو الذي يسم جل ما كتبه مؤخراً، وتجديداً روايته الأخيرة.
أهي نهاية بركات الكاتب المبدع: روائياً وشاعراً؟ نعم، إنها نهائيته، في وضعه هذا، وضعه الشرنقي، ووضعه المزخرف له، بالنسبة للذين يؤبدون فيه الإبداع دفعة واحدة، وإلي الأبد، ليكون بركات اللاتاريخي اللازمكاني، الهلامي المتراجع عن حقيقته مهبط إبداعه الرئيس !