وحّدنا بمعجزة فلسطينيّة *

عمر كوجري

هل حقاً طوى الموت قامة محمود درويش التي شابهها السنديان؟؟
لا أصدَّق ذلك حتى اللحظة.. من المؤكد أنها إشاعة، ستمرُّ بسلام عمَّا قليل..
أعرفُ أنَّ درويش هزم الموت في معركتين سابقتين، وهو فارس الكلام النقي والتوهج الإبداعي، وكنت أظنُّه هازمَهُ هذه المرة أيضاً.
  الموت نقيض التوهج والنقاء، لذا دائماً كنت أشعر أنَّه يتوارى، ويضيع في العتمة والعتبات الصدئة عندما يدقُّ بصلافة أبواب الشعراء المشرعة للحياة والحب، والدفء والطمأنينة،

 الآن مخالب الموت صارت أشرس لتفتك بقلب محمود درويش الواهن.. قلبه الذي شرَّعه لأرضه الفلسطينية.. لعشق الحبيبات.. للإنسان أياً كان..
   مهما كان المرء قوياً ستغالبه الدموع، وهو يكتب عن العظيم محمود درويش: فقصائده وكلماته الأنيقة وصوره التي نمت عن عبقرية فذة عاشت معنا منذ أن أعلنَّا انتماءنا لحريق الكتابة..

   ثمة أجيال كثيرة عاشت، واعتاشت على شعره وهي مطمئنة أنها تنهل من معين صاف رائق، كان شعر محمود زادنا لنتدرب على كتابة الأفضل، لم نستطع أن نتخلص من أثر فراشاته الجميلات. كنا على حين الصِّبا والفُتُوَّة نتبارى في اقتناء دواوينه، ونتفاخر أمام مَنْ نُحبُّ أننا نحفظ غيباً قصائد كاملة له من دواوينه من مديح الظل العالي إلى قصيدة بيروت .. إلى لا تعتذر عمَّا فعلت.. إلى مأساة النرجس ملهاة الفضة.. إلى يطير الحمام ..
  طلبنا بكل أنفة من حبيباتنا أن يعدن لنا الأرض كحبيبة محمود… وقلنا لهن إننا نحبهن حتى التعب.
  لقد استطاع محمود أن يحوِّلَنا إلى عُشَّاق لفلسطين بفضل قصائده العظيمة عن وطنه العظيم.. عشنا مع بيارات فلسطين، ووهادها وجبالها وبحرها لحظة بلحظة، وكم فرحنا عندما « سقط القناع عن القناع» وكم حزنَّا على «عرب أطاعوا رومهم، وعرب وضاعوا»!!
  هي قصائد لا قدرة للزمن على محوها مهما كان عاتياً وعتياًَ.
يا إلهي كم أنا حزين لأنَّا سنتذكر فلسطين بغياب محمود درويش!! هل نستطيع؟؟
بعد اليوم لن تطرب قلوبنا بمقدم محمود درويش إلى الشام، لأن محمود سيقسو علينا قليلاً، وسيتأخر عن موعده المعتاد.. بعد اليوم لن تطرب آذاننا بصوت محمود وهو يصدح، فيجتمع في أمسيته كلُّ عشاق الشِّعر صغاراً وكباراً شيباً وشباباً.
هو الوحيد الذي كان يقنعنا بجدوى الشعر وأهميته في زمن غياب الشعر الحقيقي.
الحياة بلا محمود درويش صعبة وقاسية.. الحياة لن تكون حلوة بلا محمود درويش وبلا هكذا شعر عظيم.. لكنه الموت الجبان لا يخطف إلا الأحبة بيننا ليجعلنا في أسى ما بعده أسى.
هل بالفعل مات محمود درويش؟؟ هي كذبة يسوقها لنا هذا الزمن التعيس!!
محمود قصيدة « بيروت» المسجلة بصوتك الجميل هي معي .. في حقيبتي. سمعتها مليون مرة، وإلى هذه اللحظة لم أشبع من سماعها، فأي عظيم أنت يارجل!!

المساهمة منشورة في جريدة قاسيون العدد 368

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…

ماهين شيخاني.

 

وصلتُ إلى المدينة في الصباح، قرابة التاسعة، بعد رحلة طويلة من الانتظار… أكثر مما هي من التنقل. كنت متعبًا، لكن موعدي مع جهاز الرنين المغناطيسي لا ينتظر، ذاك الجهاز الذي – دون مبالغة – صار يعرف عمودي الفقري أكثر مما أعرفه أنا.

ترجّلتُ من الحافلة ألهث كما لو أنني خرجتُ للتو من سباق قريتنا الريفي،…

إبراهيم سمو

عالية بيازيد وشهود القصيدة: مرافعةٌ في هشاشة الشاعر:

تُقدِّم الكاتبة والباحثة عالية بيازيد، في تصديرها لأعمال زوجها الشاعر سعيد تحسين، شهادةً تتجاوز البُعد العاطفي أو التوثيقي، لتتحوّل إلى مدخل تأويلي عميق لفهم تجربة شاعر طالما كانت قصائده مرآةً لحياته الداخلية.
لا تظهر بيازيد في هذه الشهادة كامرأة تشاركه الحياة فحسب، بل كـ”صندوق أسود” يحتفظ…