عربيّ يفْصِل (2) : ما هكذا يكون النقد يا ….، ولْـيسجل التاريخ .

أحمد فراج العجمي

      لا أسمح أن يتسرب إلى نفسي ظنّ بأنني الآن أقف موقف الأديب الناقد أو المصلح الناصح ، أو أنني أرفع دعوة لمعارك كلامية ؛ لأنني وقتئذ سأرفع راية بيضاء ، ولا أعود إلا مغبر الوجه من آثار تلك المعارك ، فاكتفيت بأن أكون شاهدًا أو مشاهدًا لبعض ما يدور فيها ، ثم أجري حوارًا مع بعض من يشاهدون معي دون التجرؤ على مخاطبة أبطالها الحقيقيين .
       كلمتي الآن – وأظنها كلمة توخيت فيها الحق ومقاصده – ليست لشخص بذاته ، ولا لقلم أقصده دون غيره ، ليست بغمز ولا همز ، ولكنها لرواد هذا الموقع وغيره من المواقع الأدبية، التي أخذت على نفسها شرف البحث عن الحق والجهر به، وترفع لواء الأدب الشريف النقي النافع غير الضار . كلمتي : لابد أن يربأ الأديب نفسه ربأً عن هذا التهاتر ، وهذه المناقص التي تعيبه قبل أن تعيب غيره ، وأن يكون النقد مترفعا عن السباب والشتائم والهمز واللمز والتنابز بالألقاب والتورية الجارحة والتعريض المعيب ، ما لهذا كان النقد ولا الأدب . اجعلوا التاريخ – إن ذكركم – يذكركم بخير .

       لست ناقدا حصيفا مثلكم ، ولكنني أسوق بعض القناعات التي ترسخت في عقلي ووجداني مذ درست بين يدي علماء نقد وأدب أكابر بكلية دار العلوم جامعة القاهرة ” وكلية دار العلوم تختص بعلوم اللغة والأدب اختصاصا أكاديميا بحتا ” .
       النقد الأدبي كما استقر في نفسي هو : تمييز الناقد – بما أوتي من علم – بين الصالح والفاسد من عمل أدبي ما، معتمدا على دلالات صادقة ومتحليا بالحيادية والعدل .
والناقد عندي طائر لا ينجح في تحليقه إلا بجناحين معا : الصدق والعلم ، ثم يعلو هذا الطائر بالتوازن العاطفي بين السلبيات والإيجابيات .
       وأهم ما أجده في هذا التعريف هو العدل ؛ فليس العدل مجرد موقف يقفه القاضي ليحكم في قضية ما ، ولكنه مقياس دقيق يفصل بين نقيضيْن كلاهما جائر ، وطرفين كلاهما متعدٍّ ، قال تعالى : ” وإذا قلتم فاعدلوا “، والوزن ينبغي أن يقوم على القسط في جميع الحالات ، قال تعالى: ” وأقيموا الوزن بالقسط ” ، وحصاد الألسن لو تزحزح عن العدل لَعمد إلى الجور والهلاك ، وقد قال تعالي: “مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ”  وقال الرسول  r”وهل يكبّ الناس علي وجوههم إلا حصائد ألسنتهم ” . فإذا ما أحب شخص أن يزن عمل كاتب أو أديب ، فليكن ذلك على مقياس العدل ، وبأدوات مجردة عن النوازع الشخصية والميول الفكرية والعصبية الجاهلية .    
أقول لكم : استسقوا هذه الحٍكَم النقدية من العلماء – نعم العلماء – .  
o      قال ابن كثير – رحمه الله – في تفسيره : ” لا يحملنكم بغضُ قوم علي ترك العدل فيهم” .
o  وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ متعجبا : كم تري من رجل تورع عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري في أعراض الناس الأحياء والأموات لا يبالي ما يقول“.
o    قال أبو الدرداء t: ” إن نقدت الناس نقدوك ” نقدت الناس: عبتهم واغتبتهم .” تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ” .
o     قال علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -: ” لا تعرف الحق بالرجال، بل اعرف الحق تعرف أهله “.
وأقول : تعلمت من هؤلاء معاني واضحة جليلة ، ومنهجا قويما في الحكم على الأشياء ، فماذا تعلمتم منهم ؟!
وتستطيعون أن تلمحوا هذه المعاني ، بل تقرؤوها واضحة عند النقاد القدماء والمحدثين، الذين عمّروا الساحة الأدبية بكل ما هو نافع ومفيد ، مثل “أرسطو” و”كولردج” و”جون كرو رانسوم” و”إليوت” وغيرهم ، وأيضا عند العقاد ومحمد غنيمي هلال وأحمد الشايب وشوقي ضيف ومحمد مندور وبدوي طبانة وغيرهم ، ممن لا يحصيهم مقالي ، ولا يغني عمن غيبتْهُ ذاكرتي مَن أسعفتني به .
ولابد لمن يريد أن يسير على دربهم أن يتخلق بتلك الأخلاق التي تركها علماؤنا نموذجا فريدا نتعلم منه ، أم صار النقد تجريحا وحملة دعائية للتشهير !
ما قرأت يوما أن النقد غاية في نفسه ، كما يدور بين أنامل المعاصرين ” المعتصرين ” ، ولكنني قرأت هذه المقولة لـ ( إليوت) يقول : “ لا أظن أن متحدثا واحدا عن النقد استطاع أن يدعي مجاوزا المعقول ، بأن النقد فن غاية في نفسه ” .
أحيانا تدفعني نفسي دفعا شديدا لأراقب من يضرب بملاءة سوداء على بعض المفاهيم ، يمزجها مزجا ؛ ليختلط أعلاها بأسفلها، فلا يميز القارئ ما في نقده من تعسف ، ولا يفرق بينه وبين القوة في الحق أو الإطراء أو الحيادية . ولكنها عندي على هذا الترتيب: الإطراء ، الحيادية ، القوة في الحق ، التعسف ،، أما القوة في الحق والحيادية فعندي ممدوحان ، وأما الآخران فمذمومان .
– فأضرب بالعقاد مثالا على القوة في الحق وحفاظه على أصالته ، مع دعوته إلى الإبداع ، وأحيانا كان يعمد إلى حدة اللهجة في الرد على المعارضين ، ولكن ما سمعنا بشتائم ولا فضائح ولا سباب ، كما نقرأ ونسمع الآن ، فضلا عما أوتي من قوة دليل، ونصاعة حجة، وتنوع في المصادر، واتساع علم ومعرفة .
– وأما الحيادية : فسبيل كل ناقد على مر الزمان وصل إلينا نقده ممدوحا ساطعا على هامة القلم وجبين القرطاس .
– وأما التعسف : وأظننا قرأنا له كثيرا في هذا الموقع – فمثاله “ونترز” في كتابه ” تشريح الهراء ” الذي يصف الشاعر “ولاس ستيفنز” بأنه صورة للموهبة الشعرية العظيمة حين تكون منحلة منحطة . (1)
والدليل على تعسفه أنه غيّر رأيه وقال :  في كتابه ” البدائية والانحطاط ” بعد أن ظل “ستيفنز” أربعة عشر عاما في الدرك الأسفل ؟ كما يقول “ونترز” فإنه قال فيه ” لعله أعظم شعراء جيله ” . ثم كتب “ونترز” بعد ذلك مراجعة يقول فيها: ” سيشهد عام 2000 كلا من “ستيفنز” و”وليمز” وقد تأثلت مكانتهما وعدا أحسن شاعرين في جيلهما.(2) .
– وأما الإطراء الذي سماه صاحب المصدر السابق ” صفق لي أصفق لك ” وضرب له مثالا : بالناشر “ألان سوالو A. Swallow ”  ، يصف “ونترز” بأنه ” أعظم ناقد في نهضة النقد الحديثة ” ويسميه  “لنكولن فتزل L. Fitzell ” أحد أثرائه السبعة عشر ” الشاعر والناقد الرهيف الذي يحب  الغرب (3) .انتهى ب.تصرف .
أقول : اتسعت رقعة المقال فكان مقصدي الكلام عن مذهب التعسف فقط ؛ لأنه هو الذي ظهر جليا في عدة مقالات أخيرة بهذا الموقع ، ولكن من الجيد ضرب المثل ، ليدرك القارئ الفارق بين الناقد البصير ، و” الانتقادي ” كما سماه البعض . فلا يعقل أن يكون الأديب الناقد ممن يهتك الأعراض ويتتبع الزلات ويوضح العثرات ، وأن يكون كتابه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من سقطات الأخر ، ليس همه إلا التقشير الظاهري للعمل الأدبي دون الغوص في معانيه وأفكاره ، كمن يقبل على الزواج فيطلب أجمل النساء ولا يضره عقمها ولا سوء خلقها . ولا يسدي إلينا نحن – القراء – يد الفضل الندية بتقديمه المعرفة في أحسن منظر وأجمل مقال . وأرجو أن يتقبل مني كل من هذا وصفه ؛  فالعاقل يتقبل الحق ولو كان من لسان الشياطين والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها .
أيها الأدباء والنقاد : ……
 نبحث فيكم عن النقد الجاد الذي لا يعتوره عصبية ولا سطحية ولا هوى ولا حب ظهور ، فالنقد جعل أصلا ليقوم ويصحح ويسدد ويقارب ويعالج .
هل يحب أحدنا أن يصبح وقد انتزع نفسه من لباس البشرية ، تذوب ثقتة بنفسة ، فلا يجالس إلا مداحين ، ولا يأنس إلا بلدغات القداحين ، فيصبح المرء مع نفسة كـقبطان سفينة ، إما أن يمدحه المسافرون ، أو يدخل بهم في صخرة فيغرقهم ويغرق معهم ، لا يقبل رأي الآخرين بصدر رحب بحجة أنهم كلهم خطائين ، مع علمه أن الخطأ صفة ملتزمة وملتصقة ببني آدم ، لا مفر منها ، ولو سلِم البعض منها لسلم منها الصحابة الكرام .
لسانه كالذباب لا يحط إلا على القذارة والأوساخ ، أصبعه عقرب ، وقلمه عقور ، لا يسلم منه اللئيم ولا الكريم، لا يتذكر إلا الفضائح والجرائم والسيئات ، جعل من نفسه قيّما على الآخرين من ذوي جلدته ولغته ، يحسب نفسه كاتبا وقارئا ومهندسا وطبيبا ومعلما ، ينبغي – بل  يفترض – أنه إذا قيل أن يسمع ، وإذا خطب أن ينصت له . وإذا حكم ألا يراجع .
– وهل من العقل أن يحكم القاضي على متهم بلا استماع شهادة الشهود ومرافعة المحامي ؟! لذلك كان من الحتمي أن يدع الناقد للطرف الآخر فرصة ليعبر عن رأيه ، وأن يتقبله إن كان موضوعيا ، وأن يأخذ بظاهر كلامه ويحسّن الظن فيه ، ولا يحاسبه على مالا يملك، أو يدّعي عليه ما لا يعلمه إلا الله من مكنون نفسه ، والنفس البشرية محبة لذاتيتها ، فمن منا يرى الآخر يتجرأ عليه ويسكت ؟! ولكنه لابد أن ينساق خلف مناقص الآخر وهفواته وماضيه بلا اكتراث بحسناته ومنجزاته ؟1 تصديقا للبيت الشعري المعروف :
ألا لا يجهلن أحد علينا      فنجهل فوق جهل الجاهلينا   
ولقول أبي الدرداء t: ” إن نقدت الناس نقدوك ” أي: عبتهم واغتبتهم .
….  وهل بيننا من يتهم نفسه بالكمال ؟!!!
فلا تملأ كلمة ” أنا ” عين امرئ فلا يرى إلا نفسه ، حيثما يولي وجهه لا يرى إلا رأيه شاخصا أمامه ، وأينما يولي سمعه لا يسمع إلا صوته أو صداه ولو كان نشازا .
ما ذنبي أنا – القارئ – الذي يبحث عن شيء يسدّ به نهمته الأدبية وجوعته الثقافية ، أن تلاحقني مدسوسات على ساحة الأدب وتسمى مقالات أدبية ونقدية ، وإذا تبحث فيها لا تجد إلا خواء معرفيا وثقافيا ، وضحالة فكرية ، وخللا منهجيا ، وسبابات وقذائف وشتائم وأمور شخصية ، وماض عفا عليه الزمان ، وأكلته الساعات والأيام ، ما ذنبي أنا – الذي يبحث عن حقيقة ، فيصطدم بها في بطون بعض الكتابات مشوشة وفيها دخن ، ومغبرة بغبار أسود ينبعث من نفوس مريضة لا ترى الكون إلا أغبر من تلك الأقلام وهذه الألسن والظنون -.  
عذرا … عذرا … وألف عذر ..
وأخيرا :
ليس المجال مجال ذكر الأخطاء اللغوية والنحوية وغيرها مما زلت فيه قدم بعضهم فقد سبقني إليها من هو أجدر مني في ذلك ، ولا المجال مجال تقويم عمل أدبي مترجم ؛ فلست ممن يعرف الكردية عدا شذرات من هنا وهناك ، أو نقد عمل إبداعي ؛ فلست ممن يتقن فن النقد وعلمه ، ولست أملك جميع أدواته ، ولكن دفعني إلى ذلك المقال وإلى الذي سبقه حبي للغتي وتوقيرها وصيانة جنابها عما يدنسها مما سيق على أقلام بعضهم ؛ لذا أستطيع أن أقول إذا دخلتم في رحاب العربية فاخفضوا الرأس احتراما لها ، أو فارحلوا عن ساحة اللغة التي لا تجني من ورائكم إلا تشويها؛ فلا أستطيع أن أرى من يمسك بمعوله يحاول المساس بها وأنتظر .
أبعث نداء حزينا ، ورسالة صادقة ، وكلمة أخيرة ، أما النداء فأبعثه إلى كل من : أ/ إبراهيم محمود وأ/جميل داري وأ/دحام عبد الفتاح وأ/جان دوست و… غيرهم : لو أردتم أن تحرمونا النافع من علمكم وفنكم ، فأقصوا عنا شتائمكم ، واذهبوا بضغائن نفوسكم إلى مجال آخر تجدون فيه متنفسا لكم غير مجال اللغة العربية الموقرة والأدب والنقد الكردي ، لأنه كما قلت في مقالي السابق ، لا مجال فيه لمن ……..  ، وكلكم ذو أدب ، ولكن ((( آه من تلك النفس البشرية ونوازعها ))).
وأما الرسالة :- إلى أ/ دحام عبد الفتاح : امض في طريقك مترجما وأديبا لكل عمل نافع لا يضرك بعض الزلل وتمسُّح الآخرين به .
– إلى أ/ إبراهيم محمود : استثمر نقدك في البناء ، وأمامك – إن شاء الله – مكانة يفسح لها النقاد ، وننتظر منك اللغة الواضحة غير المتلعثمة كما عرفناها صافية غير مكدرة وأنت لها .
– إلى أ/ جميل داري : عرفتك شاعرا مرهف الحس ، إنساني النزعة ، لا تعكر قلمك بما ليس لك قناعة فيه ، وأشكر لك حفاظك على الأصالة اللغوية غير المحرفة للعربية والكردية وغيرهما .
– وإلى القراء الكرام : لكل إنسان زلة ، وقال الله تعالى :” فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ”  سورة الرعد 17 .
أحمد فراج العجمي ، ليلة الأحد 12/1/20089م
ــــــــــــــــــ
1 ، 2 ، 3 : النقد الأدبي ومدارسه الحديثة . تأليف ستانلي هايمن . ترجمة : د/ إحسان عباس , د/ محمد يوسف نجم .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…