لا أسمح أن يتسرب إلى نفسي ظنّ بأنني الآن أقف موقف الأديب الناقد أو المصلح الناصح ، أو أنني أرفع دعوة لمعارك كلامية ؛ لأنني وقتئذ سأرفع راية بيضاء ، ولا أعود إلا مغبر الوجه من آثار تلك المعارك ، فاكتفيت بأن أكون شاهدًا أو مشاهدًا لبعض ما يدور فيها ، ثم أجري حوارًا مع بعض من يشاهدون معي دون التجرؤ على مخاطبة أبطالها الحقيقيين .
كلمتي الآن – وأظنها كلمة توخيت فيها الحق ومقاصده – ليست لشخص بذاته ، ولا لقلم أقصده دون غيره ، ليست بغمز ولا همز ، ولكنها لرواد هذا الموقع وغيره من المواقع الأدبية، التي أخذت على نفسها شرف البحث عن الحق والجهر به، وترفع لواء الأدب الشريف النقي النافع غير الضار . كلمتي : لابد أن يربأ الأديب نفسه ربأً عن هذا التهاتر ، وهذه المناقص التي تعيبه قبل أن تعيب غيره ، وأن يكون النقد مترفعا عن السباب والشتائم والهمز واللمز والتنابز بالألقاب والتورية الجارحة والتعريض المعيب ، ما لهذا كان النقد ولا الأدب . اجعلوا التاريخ – إن ذكركم – يذكركم بخير .
النقد الأدبي كما استقر في نفسي هو : تمييز الناقد – بما أوتي من علم – بين الصالح والفاسد من عمل أدبي ما، معتمدا على دلالات صادقة ومتحليا بالحيادية والعدل .
والناقد عندي طائر لا ينجح في تحليقه إلا بجناحين معا : الصدق والعلم ، ثم يعلو هذا الطائر بالتوازن العاطفي بين السلبيات والإيجابيات .
وأهم ما أجده في هذا التعريف هو العدل ؛ فليس العدل مجرد موقف يقفه القاضي ليحكم في قضية ما ، ولكنه مقياس دقيق يفصل بين نقيضيْن كلاهما جائر ، وطرفين كلاهما متعدٍّ ، قال تعالى : ” وإذا قلتم فاعدلوا “، والوزن ينبغي أن يقوم على القسط في جميع الحالات ، قال تعالى: ” وأقيموا الوزن بالقسط ” ، وحصاد الألسن لو تزحزح عن العدل لَعمد إلى الجور والهلاك ، وقد قال تعالي: “مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ” وقال الرسول r”وهل يكبّ الناس علي وجوههم إلا حصائد ألسنتهم ” . فإذا ما أحب شخص أن يزن عمل كاتب أو أديب ، فليكن ذلك على مقياس العدل ، وبأدوات مجردة عن النوازع الشخصية والميول الفكرية والعصبية الجاهلية .
أقول لكم : استسقوا هذه الحٍكَم النقدية من العلماء – نعم العلماء – .
o قال ابن كثير – رحمه الله – في تفسيره : ” لا يحملنكم بغضُ قوم علي ترك العدل فيهم” .
o وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ متعجبا : كم تري من رجل تورع عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري في أعراض الناس الأحياء والأموات لا يبالي ما يقول“.
o قال أبو الدرداء t: ” إن نقدت الناس نقدوك ” نقدت الناس: عبتهم واغتبتهم .” تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ” .
o قال علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -: ” لا تعرف الحق بالرجال، بل اعرف الحق تعرف أهله “.
وأقول : تعلمت من هؤلاء معاني واضحة جليلة ، ومنهجا قويما في الحكم على الأشياء ، فماذا تعلمتم منهم ؟!
وتستطيعون أن تلمحوا هذه المعاني ، بل تقرؤوها واضحة عند النقاد القدماء والمحدثين، الذين عمّروا الساحة الأدبية بكل ما هو نافع ومفيد ، مثل “أرسطو” و”كولردج” و”جون كرو رانسوم” و”إليوت” وغيرهم ، وأيضا عند العقاد ومحمد غنيمي هلال وأحمد الشايب وشوقي ضيف ومحمد مندور وبدوي طبانة وغيرهم ، ممن لا يحصيهم مقالي ، ولا يغني عمن غيبتْهُ ذاكرتي مَن أسعفتني به .
ولابد لمن يريد أن يسير على دربهم أن يتخلق بتلك الأخلاق التي تركها علماؤنا نموذجا فريدا نتعلم منه ، أم صار النقد تجريحا وحملة دعائية للتشهير !
ما قرأت يوما أن النقد غاية في نفسه ، كما يدور بين أنامل المعاصرين ” المعتصرين ” ، ولكنني قرأت هذه المقولة لـ ( إليوت) يقول : “ لا أظن أن متحدثا واحدا عن النقد استطاع أن يدعي مجاوزا المعقول ، بأن النقد فن غاية في نفسه ” .
أحيانا تدفعني نفسي دفعا شديدا لأراقب من يضرب بملاءة سوداء على بعض المفاهيم ، يمزجها مزجا ؛ ليختلط أعلاها بأسفلها، فلا يميز القارئ ما في نقده من تعسف ، ولا يفرق بينه وبين القوة في الحق أو الإطراء أو الحيادية . ولكنها عندي على هذا الترتيب: الإطراء ، الحيادية ، القوة في الحق ، التعسف ،، أما القوة في الحق والحيادية فعندي ممدوحان ، وأما الآخران فمذمومان .
– فأضرب بالعقاد مثالا على القوة في الحق وحفاظه على أصالته ، مع دعوته إلى الإبداع ، وأحيانا كان يعمد إلى حدة اللهجة في الرد على المعارضين ، ولكن ما سمعنا بشتائم ولا فضائح ولا سباب ، كما نقرأ ونسمع الآن ، فضلا عما أوتي من قوة دليل، ونصاعة حجة، وتنوع في المصادر، واتساع علم ومعرفة .
– وأما الحيادية : فسبيل كل ناقد على مر الزمان وصل إلينا نقده ممدوحا ساطعا على هامة القلم وجبين القرطاس .
– وأما التعسف : وأظننا قرأنا له كثيرا في هذا الموقع – فمثاله “ونترز” في كتابه ” تشريح الهراء ” الذي يصف الشاعر “ولاس ستيفنز” بأنه صورة للموهبة الشعرية العظيمة حين تكون منحلة منحطة . (1)
والدليل على تعسفه أنه غيّر رأيه وقال : في كتابه ” البدائية والانحطاط ” بعد أن ظل “ستيفنز” أربعة عشر عاما في الدرك الأسفل ؟ كما يقول “ونترز” فإنه قال فيه ” لعله أعظم شعراء جيله ” . ثم كتب “ونترز” بعد ذلك مراجعة يقول فيها: ” سيشهد عام 2000 كلا من “ستيفنز” و”وليمز” وقد تأثلت مكانتهما وعدا أحسن شاعرين في جيلهما.(2) .
– وأما الإطراء الذي سماه صاحب المصدر السابق ” صفق لي أصفق لك ” وضرب له مثالا : بالناشر “ألان سوالو A. Swallow ” ، يصف “ونترز” بأنه ” أعظم ناقد في نهضة النقد الحديثة ” ويسميه “لنكولن فتزل L. Fitzell ” أحد أثرائه السبعة عشر ” الشاعر والناقد الرهيف الذي يحب الغرب (3) .انتهى ب.تصرف .
أقول : اتسعت رقعة المقال فكان مقصدي الكلام عن مذهب التعسف فقط ؛ لأنه هو الذي ظهر جليا في عدة مقالات أخيرة بهذا الموقع ، ولكن من الجيد ضرب المثل ، ليدرك القارئ الفارق بين الناقد البصير ، و” الانتقادي ” كما سماه البعض . فلا يعقل أن يكون الأديب الناقد ممن يهتك الأعراض ويتتبع الزلات ويوضح العثرات ، وأن يكون كتابه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من سقطات الأخر ، ليس همه إلا التقشير الظاهري للعمل الأدبي دون الغوص في معانيه وأفكاره ، كمن يقبل على الزواج فيطلب أجمل النساء ولا يضره عقمها ولا سوء خلقها . ولا يسدي إلينا نحن – القراء – يد الفضل الندية بتقديمه المعرفة في أحسن منظر وأجمل مقال . وأرجو أن يتقبل مني كل من هذا وصفه ؛ فالعاقل يتقبل الحق ولو كان من لسان الشياطين والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها .
أيها الأدباء والنقاد : ……
نبحث فيكم عن النقد الجاد الذي لا يعتوره عصبية ولا سطحية ولا هوى ولا حب ظهور ، فالنقد جعل أصلا ليقوم ويصحح ويسدد ويقارب ويعالج .
هل يحب أحدنا أن يصبح وقد انتزع نفسه من لباس البشرية ، تذوب ثقتة بنفسة ، فلا يجالس إلا مداحين ، ولا يأنس إلا بلدغات القداحين ، فيصبح المرء مع نفسة كـقبطان سفينة ، إما أن يمدحه المسافرون ، أو يدخل بهم في صخرة فيغرقهم ويغرق معهم ، لا يقبل رأي الآخرين بصدر رحب بحجة أنهم كلهم خطائين ، مع علمه أن الخطأ صفة ملتزمة وملتصقة ببني آدم ، لا مفر منها ، ولو سلِم البعض منها لسلم منها الصحابة الكرام .
لسانه كالذباب لا يحط إلا على القذارة والأوساخ ، أصبعه عقرب ، وقلمه عقور ، لا يسلم منه اللئيم ولا الكريم، لا يتذكر إلا الفضائح والجرائم والسيئات ، جعل من نفسه قيّما على الآخرين من ذوي جلدته ولغته ، يحسب نفسه كاتبا وقارئا ومهندسا وطبيبا ومعلما ، ينبغي – بل يفترض – أنه إذا قيل أن يسمع ، وإذا خطب أن ينصت له . وإذا حكم ألا يراجع .
– وهل من العقل أن يحكم القاضي على متهم بلا استماع شهادة الشهود ومرافعة المحامي ؟! لذلك كان من الحتمي أن يدع الناقد للطرف الآخر فرصة ليعبر عن رأيه ، وأن يتقبله إن كان موضوعيا ، وأن يأخذ بظاهر كلامه ويحسّن الظن فيه ، ولا يحاسبه على مالا يملك، أو يدّعي عليه ما لا يعلمه إلا الله من مكنون نفسه ، والنفس البشرية محبة لذاتيتها ، فمن منا يرى الآخر يتجرأ عليه ويسكت ؟! ولكنه لابد أن ينساق خلف مناقص الآخر وهفواته وماضيه بلا اكتراث بحسناته ومنجزاته ؟1 تصديقا للبيت الشعري المعروف :
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ولقول أبي الدرداء t: ” إن نقدت الناس نقدوك ” أي: عبتهم واغتبتهم .
…. وهل بيننا من يتهم نفسه بالكمال ؟!!!
فلا تملأ كلمة ” أنا ” عين امرئ فلا يرى إلا نفسه ، حيثما يولي وجهه لا يرى إلا رأيه شاخصا أمامه ، وأينما يولي سمعه لا يسمع إلا صوته أو صداه ولو كان نشازا .
ما ذنبي أنا – القارئ – الذي يبحث عن شيء يسدّ به نهمته الأدبية وجوعته الثقافية ، أن تلاحقني مدسوسات على ساحة الأدب وتسمى مقالات أدبية ونقدية ، وإذا تبحث فيها لا تجد إلا خواء معرفيا وثقافيا ، وضحالة فكرية ، وخللا منهجيا ، وسبابات وقذائف وشتائم وأمور شخصية ، وماض عفا عليه الزمان ، وأكلته الساعات والأيام ، ما ذنبي أنا – الذي يبحث عن حقيقة ، فيصطدم بها في بطون بعض الكتابات مشوشة وفيها دخن ، ومغبرة بغبار أسود ينبعث من نفوس مريضة لا ترى الكون إلا أغبر من تلك الأقلام وهذه الألسن والظنون -.
عذرا … عذرا … وألف عذر ..
وأخيرا :
ليس المجال مجال ذكر الأخطاء اللغوية والنحوية وغيرها مما زلت فيه قدم بعضهم فقد سبقني إليها من هو أجدر مني في ذلك ، ولا المجال مجال تقويم عمل أدبي مترجم ؛ فلست ممن يعرف الكردية عدا شذرات من هنا وهناك ، أو نقد عمل إبداعي ؛ فلست ممن يتقن فن النقد وعلمه ، ولست أملك جميع أدواته ، ولكن دفعني إلى ذلك المقال وإلى الذي سبقه حبي للغتي وتوقيرها وصيانة جنابها عما يدنسها مما سيق على أقلام بعضهم ؛ لذا أستطيع أن أقول إذا دخلتم في رحاب العربية فاخفضوا الرأس احتراما لها ، أو فارحلوا عن ساحة اللغة التي لا تجني من ورائكم إلا تشويها؛ فلا أستطيع أن أرى من يمسك بمعوله يحاول المساس بها وأنتظر .
أبعث نداء حزينا ، ورسالة صادقة ، وكلمة أخيرة ، أما النداء فأبعثه إلى كل من : أ/ إبراهيم محمود وأ/جميل داري وأ/دحام عبد الفتاح وأ/جان دوست و… غيرهم : لو أردتم أن تحرمونا النافع من علمكم وفنكم ، فأقصوا عنا شتائمكم ، واذهبوا بضغائن نفوسكم إلى مجال آخر تجدون فيه متنفسا لكم غير مجال اللغة العربية الموقرة والأدب والنقد الكردي ، لأنه كما قلت في مقالي السابق ، لا مجال فيه لمن …….. ، وكلكم ذو أدب ، ولكن ((( آه من تلك النفس البشرية ونوازعها ))).
وأما الرسالة :- إلى أ/ دحام عبد الفتاح : امض في طريقك مترجما وأديبا لكل عمل نافع لا يضرك بعض الزلل وتمسُّح الآخرين به .
– إلى أ/ إبراهيم محمود : استثمر نقدك في البناء ، وأمامك – إن شاء الله – مكانة يفسح لها النقاد ، وننتظر منك اللغة الواضحة غير المتلعثمة كما عرفناها صافية غير مكدرة وأنت لها .
– إلى أ/ جميل داري : عرفتك شاعرا مرهف الحس ، إنساني النزعة ، لا تعكر قلمك بما ليس لك قناعة فيه ، وأشكر لك حفاظك على الأصالة اللغوية غير المحرفة للعربية والكردية وغيرهما .
– وإلى القراء الكرام : لكل إنسان زلة ، وقال الله تعالى :” فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ” سورة الرعد 17 .
أحمد فراج العجمي ، ليلة الأحد 12/1/20089م
ــــــــــــــــــ
1 ، 2 ، 3 : النقد الأدبي ومدارسه الحديثة . تأليف ستانلي هايمن . ترجمة : د/ إحسان عباس , د/ محمد يوسف نجم .