العَمارةُ المحليّة وتأثيراتُ الثقافة البصريّة المُعَولَمَة

آزاد أحمد علي

تحتل العمارة والمنشآت المدنية في عالمنا المعاصر حيزاً فراغياً ومساحة بصرية واسعة وهي في الوقت نفسه منشآت ومنتجات صنعية كبيرة. يتشارك في إنجازها علوم متعددة وجهود فنية متنوعة، إلا أن الدراسات الجمالية والتنظيرية ترجح غالباً النظر إلى العمارة من زاوية بصرية وحسية، وتؤكد على اعتبارها منتجاً فنياً، وركناً أساسياً من أركانِ الفنون المكانية “الجميلة”. هذا وقد سبق أن تم تصنيف العمارة من قبل الفلاسفة ومنظري علم الجمال ضمن الفنون المكانية، على الرغم من انتمائها إلى نسق العلوم التطبيقية على الصعيد العملي. ووضعت العمارة في مقدمة الفنون المكانية في كتب علم الجمال إلى جانب التماثيل والصروح الفنية. إذ أن مؤلفات وتصانيف القرن التاسع عشر تسهب في الدراسات المعمارية ـ الجمالية، وتَشطح بعضها لدرجة اعتبار العمارة فناً مجرداً حيناً ورمزياً حيناً آخر.
إلا أنه من الملفت أن الدراسات النظرية والتنظيرية التي تعالج العمارة قلت نسبياً في القرن العشرين، أمام الكم الهائل من الإنتاج المعماري والتوسع العمراني الحضري والريفي، وبالتالي تنامي عملية تشييد الصروح المعمارية والهياكل الإنشائية بالطرائق الفنية التقليدية من جهة، وتسارع وتيرة البناء على أسسٍ علمية فيزيائية تطبيقية معاصرة من جهة أخرى، إذ يتغلب في الطريقة الأخيرة الجانب العلمي ـ التقني الصنعي على الفني الجمالي. وبذلك تحولت العمارة تدريجياً في مطلع الألفية الثالثة إلى الإنتاج السلعي واكتسبت خصائص المنتجِ التقني. وبناء على هذا التحول، تغيرت الدلالات الجمالية والصيغ الرمزيّة للمفردات المعمارية، بالارتباط مع تبدل التصاميم وإدخال مواد صنعية جديدة في عمليات البناء والتشييد وتنوع وظيفة المنشأة المدنية نفسها.
وبصرف النظر عن درجة ابتعاد العمارة المعاصرة عن جذورها الفنية، تستمر الحاجة لتناولها ثقافياً ومعرفياً، فمهما حدثت من تغيرات في الإنتاج المعماري، تظل العمارة ظاهرة فنية ـ جمالية تستمد فعاليتها الفنية من تأثيراتها البصرية الدائمة والكثيفة على الإنسان. وتبقى، تبعاً لذلك، إحدى تجسيدات وتعبيرات هوية المكان والخصوصية المحلية، والأهم من ذلك أنها باتت تشكل اليوم مجمل البيئة الاصطناعية للمدن والأرياف، وتساهم في هيكَلة وتنظيم حياة الإنسان الاجتماعية، وتحدد، بقوة، إحداثيات وجوده وتراتبه المكاني، وربما جغرافيته الاجتماعية إن جاز التعبير.
ونتيجة للتصادمات القيميّة والتقيميية لاتجاهات العمارة المعاصرة من جهة، ومواجهتها وتصادمها مع مجمل إرث البشرية التقليدي من جهة أخرى، ترتفع وتيرة السجالات وتنصب الاهتمامات على العمارة من زوايا متعددة: جمالية، فلسفية، دينية، معرفية، وظيفيّة، إعلامية، اقتصادية…
وتزداد ضرورة تفعيل هذه الدراسات بعد أن حققت ثورة الاتصالات مطلع الألفية الجديدة مزيداً من التواصل، حيث يتم نقل صور آلاف المنشآت والأبنية بشكل كثيف عبر الأقنية الفضائية ووسائل أخرى من الاتصال وآليات نقل الصورة واستنساخها رقمياً.
ولأن التكنولوجيا هيأت ظروفاً سهلة لتواجه الصورة المعمارية الإنسان في كل الأوقات، كما قاربت المسافات البصريّة بين المنشآت أكثر مما هي في الواقع، ويتم الإطّلاع على كم هائلٍ من الصروحِ المعمارية التراثية القديمة و تلك الحديثة بشكلٍ سهلٍ ومتواتر، باتت ظاهرة انتقال الصورة تحقق مزيداً من التقابل والتصادم في الأشكال والصور المعمارية، وتشكل أحد أبرز العوامل المؤثرة في الوعي بالعمارة حسياً و جماليا. وهذا الاتصال البصري ما كان ممكناً بهذا الكم الهائل والدقة سابقاً.
ومن جهة أخرى باتت المناخات تتهيأ لتعويم وتقبل النمط المعماري الأكثر انتشاراً في العالم، مما يزيد الحاجة إلى عمارة موحدّة ومحددة بنمطٍ متقارب ومتشابه للمعيشة، فالشكل المنمط للعمارة يتوزع وينتشر من مكانٍ إلى آخر بسرعة مذهلة، ويتراجع الشكل المعماري المحلي أمام غزو الصورة والشكل البعيدين، ويتم التفاعل بصرياً مع عمارة عالمية بشكلٍ يومي.
هكذا تجد المجتمعات المعاصرة نفسها أمام تحول وتطور في الثقافة البصرية متجهة نحو مزيد من التنميط، إذ يتشكل ويتراكم عند المتلقي كم هائل من صور الأبنية والمنشآت المدنية والحدائق والمناظر العامة للمدن والضواحي البعيدة، بحيث يؤسس بها جميعاً لمرجعيته القيمية الجمالية الخاصة، وهي مستمدة من العام العالمي، قبل المحيط المحلي. فلم يعد الإنسان في العالم المعاصر يستمد ثقافته البصرية ويكونها من التغذية والإشباعِ البصري من صور محيطه الجغرافي والاصطناعي الضيق فحسب، وإنما من صورٍ مستمدة من العالم المعاصر المشيد حديثاً، وكذلك من التراث المعماري الذي يطلع عليه عبر أقنية اتصال سهلة ودقيقة، دون السفر إلى تلك المواقع البعيدة. لذلك تتعرض المنظومة القيمية الحسية والجمالية للإنسان المعاصر إلى حالة اهتزاز واضطراب، ويطرأ عليها تحول كبير ينتج عنها، أول ما ينتج، عدم ثبات واستقرار القيم الجمالية الموروثة والسائدة لديه، ويعيد تأسيس معاييره في ضوء تفاعل هذه الكثافة في تففق صور الصروح المعمارية ومناظر المدن والحواضر المتباينة من كافة أنحاء العالم.
يحدث كل هذا التحول الكبير بالتوازي مع افتقار الأدبيات العربية من دورات ومجلات وصحف للدراسات الجادة التي تعالج العمارة من كافة الجوانب ذات الصلة، وإن ظهرت وجهة نظر هنا وبعض المقالات هناك، فهي تقع في زوايا هامشية وتندرج ضمن جدول أعمال (الهموم الثقافية)، وقد مهد هذا التراجع لوضعيّة الضعف العام في الأدبيات المعمارية والحضرية العربية شكلاً ومضموناً، وصولاً إلى مستوى يمكن اعتباره “تدنياً في الوعي المعماري”، بشقيه العلمي المعرفي والبصري الجمالي، هذا المستوى الذي لا يوفر القدرة على التمييز والمفاضلة بين أشكال المنتج المعماري المعاصر.
إن الوعي المرتقب المؤسس على أفكار علمية وفلسفية وجمالية سيكون قادراً على الفرز الصحيح والمتوازن للمنتج المعماري وحُسن معرفة خصوصيته وكيفية تقبله.
من هنا تكمن الضرورة في توفير مقدمات معرفيّة لتنشيط حاسة البصر، وصولاً إلى تطوير الثقافة البصرية والجمالية وتوسيع الاهتمام الثقافي والمعرفي العام بالعمارة والبيئة الاصطناعية. ولكي يخرج الموضوع برمته من إطاره التخصصي الضيق، لابد من قوة معرفية ومناعة ثقافية ـ جمالية لاستيعاب هذا التحول المتسارع في المحيط الاصطناعي الحضري والريفي على السواء.
وما يحدث في عالمنا المعاصر من اتصال وتواصل مباشر وسريع، يفسح المجال لتشكل معايير بشرية متقاربة لتقبل الصورة والشكل المعماريين.
فكل الظروف تتهيأ للعمارة كي تتعولم بصورة سريعة ومباشرة وتتحول إلى سلعة منمطة عابرة للقارات. وهذه المرة ليس أكاديمياً أو مهنياً ـ هندسياً بل شعبياً وجماهيرياً بالمعنى الكمي والاجتماعي للمصطلح، وتتعمم الأشكال والصور وكذلك الطرز والمخططات، و مواد البناء والأثاث المنزلي. و”عولمة العمارة” هذه تطرح، من جديد، إشكالية الحاجة العملية إلى نماذج عالمية موحدة، تلغي تماماً الخصوصية المحلية إن تهيأت لها الظروف. وكذلك الظروف المناسبة للانتشار والاستيطان الكثيف للمنتج المعماري العالمي الراهنة توفر الأرضية والبيئة الثقافية لتقارب وتوحد المعايير الجمالية، التي ستنتج بدورها معادلها المعماري المنمذج خارج الأنماط المحلية والتقليدية المتوارتة.
فالمنظومة الجمالية التقليدية لكل رقعة من العالم تتعرض إلى الاهتزاز، وتواجه غزواً بصرياً كثيفاً، فالصور والأشكال تتساقط من كل القارات والجهات البعيدة، وتستقر إلى جوارِ الإنسان، وتتراكم في مخيلته، فلابد له وأن يتفاعل ويتآلف معها، أو يواجهها بمزيدٍ من التمسك بالخصوصية المحلية!.
—————————————-
pesar@hotmail.com
المستقبل – الاحد 30 كانون الأول 2007 – العدد 2834 – نوافذ – صفحة 14

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

رضوان شيخو

يا عازف العود، مهلا حين تعزفه!
لا تزعج العود، إن العود حساس..
أوتاره تشبه الأوتار في نغمي
في عزفها الحب، إن الحب وسواس
كأنما موجة الآلام تتبعنا
من بين أشيائها سيف ومتراس،
تختار من بين ما تختار أفئدة
ضاقت لها من صروف الدهر أنفاس
تكابد العيش طرا دونما صخب
وقد غزا كل من في الدار إفلاس
يا صاحب العود، لا تهزأ بنائبة
قد كان من…

ماهين شيخاني

الآن… هي هناك، في المطار، في دولة الأردن. لا أعلم إن كان مطار الملكة علياء أم غيره، فما قيمة الأسماء حين تضيع منّا الأوطان والأحبة..؟. لحظات فقط وستكون داخل الطائرة، تحلّق بعيداً عن ترابها، عن الدار التي شهدت خطواتها الأولى، عن كل ركن كنت أزيّنه بابتسامتها الصغيرة.

أنا وحدي الآن، حارس دموعها ومخبأ أسرارها. لم…

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

فَلسفةُ الجَمَالِ هِيَ فَرْعٌ مِنَ الفَلسفةِ يَدْرُسُ طَبيعةَ الجَمَالِ والذَّوْقِ والفَنِّ ، في الطبيعةِ والأعمالِ البشريةِ والأنساقِ الاجتماعية، وَيُكَرِّسُ التفكيرَ النَّقْدِيَّ في البُنى الثَّقَافيةِ بِكُلِّ صُوَرِهَا في الفَنِّ، وَتَجَلِّيَاتِها في الطبيعة ، وانعكاساتِها في المُجتمع، وَيُحَلِّلُ التَّجَارِبَ الحِسِّيةَ، والبُنى العاطفية ، والتفاصيلَ الوِجْدَانِيَّة ، وَالقِيَمَ العقلانيةَ ،…

إبراهيم اليوسف

الكتابة البقاء

لم تدخل مزكين حسكو عالم الكتابة كما حال من هو عابر في نزهة عابرة، بل اندفعت إليه كمن يلقي بنفسه في محرقة يومية، عبر معركة وجودية، حيث الكلمة ليست زينة ولا ترفاً، مادامت تملك كل شروط الجمال العالي: روحاً وحضوراً، لأن الكلمة في منظورها ليست إلا فعل انتماء كامل إلى لغة أرادت أن…