اللعنة الشيقة في «الجمهرات»

  إبراهيم حسو

هاهي الحيرة ذاتها منذ 25 سنة، حيرة القارئ الولهان المغتفي وراء كتاب شعري أرهق مثاقيل هيئة شاب صعق بالشعر لأول مرة.
و أشعل حياته بالسكينة الأبدية الجهولة التي دفعته كثيرا إلى الغدو في منابت الشعر و التوغل في وديانه و تيهه و مفازته . كتاب (الجمهرات) للسوري سليم بركات 1979 يصرخ فيك أينما قصدت بوصلة مخيلتك المتعطشة للقراءة (المتأخرة)كما يتجه زبد الماء لزبد الماء وكما تستنفر الكلمات مساطيلها و سهامها، هكذا طالبة اللجوء و الاحتماء باللغة (القلقة) المستذلة ببهاء لا يرى و لا يتوارى كتاب في اللغة في ترتيب مساربها و مطارحها و شرح يستفيض أو لا يستفيض في تدوين الأنساق و الإشكال و السرديات التي تحل محل الشعري و تكون صرتها و ممكناتها النصية تشاركًا في تنظيم وهمي لأس يتقوت مختفيا تحت سراديب الكتابة نفسها. ‏

هي حيرة (الجمهرات)ببكائيتها المستثيرة الرغبوية بصلصالها المذّهب الرقراق ، هي عود إلى متن سفينة أنقذت ركابها يوماًّ و حطت بهم على صوان الطمأنينة هي (خيال الكلمات ) في سرد خيالها المستتر حيرة الحيران الجالس المتقوّص على كنبة الخيال يعيد انزلاق القراءة الأولى المبهمة المتراخية في مطولات شعرية لا معهودة و فوضى جاسرة على مدى 135 صفحة مكتوبة بخط اليد و مزاج شعري غدار و عصبي و رصين و زوائد (مقطعية) ذات فكاهة هنا و هرج و صخب هناك تحت وصف (طبائع الحيوان )و فرائس (النبات). ‏
حيرة الجمهرات هي حيرة القارئ الذي يكثّّف شبهات النص و ما يلحقه من قراءة مراوغة (ثانية) على استنطاق (العقل) و أدراجه بحكمة الآدمي الممتزجة بصياغة (المنطق) و الذاكرة و الغيب . هي شبهة مستوحشة و يعود استنطاق (الجمهرات) إلى صخبها البدائي و معناها العبثي و عوالمها المُشكِلة من غرابة مؤتلفة لتفتح بلا مهمات مجابهات غير محمودة العواقب مع الطير و النبات و الجماد و الليل و عكسه و الثرثرة البيانية التي لا تخطئ أبدا فهم اللغة و تقدير مقاساتها الاغوائية التي تسحب القارئ ( المسكين) من أغصانه ليعيش فيه متنقلاً كأميرٍ متنقلْ و بهلواناً يقطع المياه مشيًا مستأنسًا بما تنطقها (الجدالات) الحامية بين الحديد و فلزه، بين الهواء و خيلائه في محاورات لانهائية بين (العناصر)و أشيائها و بين النبات و شجيراتها المغمغمة التي تسرد مثلنا و مثل الكلمات : حياة السماء و الأرض و حياة الحياة و النقيض منهما، سردٌ لا لجمَ فيه و تنكر أو مهارة محتدمة في مهب الريح. ‏
لسان (الجمهرات) الغضوب مازال يلعق عافية ذاكرتي (النائمة) كلما ابتعدت بي أطياف العمر و أوقعتني في حيرتي الأبدية، فما من عودة إذاً إلى قراءة الجمهرات إلا و يصيبني جفل من تأويلاتها و أفكارها و مجاهلها المزخرفة التي تطّوّق طبائع المفردات و حساباتها و تحاصر علوم الإنشاء(البصري) الناصبة على عافية التأريخ الإنساني الظليلة لبقعة جغرافية يحاصرها جبل ما و جقجق نهري يؤتى به من خطوط تركيا مصحوبًا بالزبيب و نشارات الكرز إلى جهات اليخضور المترامية التي تسمى (القامشلي) ‏
الجمهرات كتاب الأعيان (المنتظرون أن يلد احدهم من عقل الآخر و هم يلعبون الشطرنج )فما من عودة سليمة إلى سليم بركات و ما من نقشٍ جديد أو وخزة عابرة لتصحى الكلمات من صحرائها الأولية و ما من تلاوة متمتمة أو ناقصة لجمهرات تتناثر على طاولة القراءة الأولى لحكاية شاعر يقيم في (صور المرئي المُحَتجب).‏

صحيفة تشرين
ملف الاسبوع الثقافي
السبت 6 كانون الأول 2008

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماهين شيخاني

كان مخيم ( برده ره ش ) يرقد بين جبلين صامتين كحارسين منسيّين: أحدهما من الشمال الشرقي، يختزن صدى الرياح الباردة، والآخر من الغرب، رمليّ جاف، كأنّه جدار يفصلنا عن الموصل، عن وطنٍ تركناه يتكسّر خلفنا… قطعةً تلو أخرى.

يقع المخيم على بُعد سبعين كيلومتراً من دهوك، وثلاثين من الموصل، غير أن المسافة الفعلية بيننا…

إدريس سالم

 

ليستِ اللغة مجرّد أداة للتواصل، اللغة عنصر أنطولوجي، ينهض بوظيفة تأسيسية في بناء الهُوية. فالهُوية، باعتبارها نسيجاً متعدّد الخيوط، لا تكتمل إلا بخيط اللغة، الذي يمنحها وحدتها الداخلية، إذ تمكّن الذات من الظهور في العالم، وتمنح الجماعة أفقاً للتاريخ والذاكرة. بهذا المعنى، تكون اللغة شرط لإمكان وجود الهُوية، فهي المسكن الذي تسكن فيه الذات…

مازن عرفة

منذ بدايات القرن الحادي والعشرين، يتسارع الزمن في حياتنا بطريقة مذهلة لا نستطيع التقاطها، ومثله تغير أنماط الحياة الاجتماعية والإنسانية، والاكتشافات المتلاحقة في العلوم والتقنيات، فيما تغدو حيواتنا أكثر فأكثر لحظات عابرة في مسيرة «الوجود»، لا ندرك فيها لا البدايات ولا النهايات، بل والوجود نفسه يبدو كل يوم أكثر إلغازاً وإبهاماً، على الرغم من…

أصدرت منشورات رامينا في لندن كتاب “كنتُ صغيرة… عندما كبرت” للكاتبة السورية الأوكرانية كاترين يحيى، وهو عمل سيريّ يتجاوز حدود الاعتراف الشخصي ليغدو شهادة إنسانية على تقاطعات الطفولة والمنفى والهوية والحروب.

تكتب المؤلفة بصدقٍ شفيف عن حياتها وهي تتنقّل بين سوريا وأوكرانيا ومصر والإمارات، مستحضرةً محطات وتجارب شكلت ملامحها النفسية والوجودية، وموثقةً لرحلة جيل عاش القلق…