البيوت الطينية في الجزيرة بين الأمس واليوم.. استمرار وتجدّد دائم*

محمود عبدو

الحديث عن البيوت الطينية يشبه الحديث عن أرواح جزراوية، عن طقوس حياتية تميز الجزراويين، تعيش بينهم، تتلون بهم، تزدان بهم ويزدانون بها، البيوت الطينية التي لازمت البناء الجزراوي منذ عهود ما قبل التاريخ، ما زالت حاضرة وبقوة في القرى وحتى في المدن الجزراوية، ومن الاتجاهات الحديثة في العمارة السورية، ألا وهي إعادة تأهيل البيت الطيني، نظراً لما يمتلكه من مزايا وخصائص مناسبة للبيئة المحلية، ونراه اليوم يندثر شيئا فشيئاً من حياة أبناء ريفنا، الذين استعاضوا عن مسكنهم الصحي الطيني بمسكنٍ آخر إسمنتي غريب عنهم.
والبناء الإسمنتي الذي بدأ يجتاح الريف وقرى الجزيرة منذ الأربعينات من القرن الماضي، وأحدث تحولاً جذرياً في بنية العمارة، وما زالت الهجمة مستمرة.

تاريخ البيوت الطينية

يشير الدكتور آزاد أحمد علي، الباحث والدارس للقرى الطينية في الريف السوري، ولا سيّما الجزيرة، إلى إنها تعود إلى الألف السادس قبل الميلاد، وتشير إلى المعطيات التاريخية حول تشكل أولى التجمعات البشرية المنظمة في سورية، والأطر الهندسية التي عايشتها المجتمعات البشرية الأولى . وهو ما يؤكده الدكتور فاروق إسماعيل “دكتوراه في التاريخ”، في حديثه لـ”بلدنا”، الذي أكّد أن السكن البشري بداية كان في الكهوف، ثم ما لبث أن بنى الإنسان إلى جانب الكهوف بيوتاً حفرية، أدت إلى تقارب الأسر وتشكّل تجمعات، أما القرى الزراعية فظهرت في نهاية الألف الثامن وبداية الألف السابع، وكانت مبنية من الطين، وما زالت تكشف الحفريات الأثرية تعاقب الحضارات، وكلها بنيت بمادة الطين و”اللبن”، ومن المواقع القديمة “تل مغزلية” على جبل سنجار وغيرها، ولا سيّما حضارة “تل حلف” في الألف السادس قبل الميلاد، وظهر فيها أسلوب جديد للعمارة الطينية، البيوت الدائرية المقببة، مدخل أمامي مستطيل، وقاعة بسقف مقبب، ومازالت تلك المهارات تتوارث مع اختلافات بسيطة.

أهمية العمارة الطينية

يتحدث الجزراويون عن أن أهميتها تكمن في أنها تستمد مقوماتها من محيطها، وموادها بالكامل كذلك، وهي من ثمَّ تتلاءم مع البيئة ومع الظروف الاقتصادية للسكان، وتعتمد على الخامات والموارد التي تنتجها هذه البيئة، بعيداً عن الاستعارة الخارجية، والمواد الغريبة عن تربتها. وهي تبدي نوعاً من التوازن الحراري، من حيث الرطوبة صيفاً والدفء شتاءً، مما يسمح باستغلال الطاقة الطبيعية والصحية للشمس، وأهم ميزات هذه المادة أنها توفر الطاقة في مجال التدفئة والتبريد، وفي مجال التنفيذ، فهي لا تحتاج إلى الكثير من الجهد، ولا إلى صناعة معقدة، ولا مصانع. وبما أنها تُصنع محلياً فهي ليست بحاجة إلى وقود ونقل ومواصلات، كما أنها لا تحتاج إلى تأهيل عالٍ، فبإمكان الساكن أن يبنيها بنفسه، ومن ثمَّ هي توفر نفقات الدراسات المعمارية الباهظة التكاليف.
وتشير الباحثة الاجتماعية نسرين تيلو في حديثها لـ”بلدنا” إلى أن الاعتماد على البناء الطيني يزيد العلاقة الحميمية بين الإنسان والبيئة، نظراً لاعتماده عليها وتوظيف المحيط (التربة، والحجر، والتبن، والقصب، والخشب المحلي) خدمة له، تلك العلاقة الناتجة عن سواعده وعمله الخاص، وما يضفي عليها البعد التشاركي وهو الجماعية في العمل أثناء التشييد والتصوين المتكرر، والمسارعة إلى مساعدة البعض، مما يزيد من التواصل الاجتماعي والمحبة والود على أساس العمل الواحد، كما لها دور تكافئي معتدل بين الناس لتشابه البناء، مما يقلل من التمايز والفروق العمرانية، والتي لا ينتج عنها فروقاً اجتماعية تذكر.
وهناك عمليات لاحقة للبناء (تصوين وترقيع)، وقد استعاض البعض عن عملية تصوين السقف بالطين و”البشروك” مجدداً بسترها بالنايلون السميك، وربطه بالقوائم والعوارض الخشبية الزائدة عليه.
ومن المهم ملاحظةُ مناسبة البيت الطيني لواقع الحال والفقر في الجزيرة؛ حتى إنها تسمى حالياً في عمارة الفقراء.
يقول الكاتب غيث العبد الله: إنّ الغايات المشتركة الإنسانية الملحّة تدعونا إلى أن نفكر من جديد في وضع أسس عمارة أكثر التصاقاً بالبيئة والتراث والإنسان في عصر بدأت تفقد فيه البيئة توازنها، والانفجار السكاني يشهد انطلاقاً سريعاً، ومعماريّونا مدعوّون ليلعبوا دورهم المبدع لتدارك الكارثة المتوقعة.

كيفية بناء المنزل الطيني

 باستخدام «الطابوق» أو «الكلبيج»، وهو بلوك من الطين،  وهو من أقدم الطرق في إنشاء البيوت، لصناعة ذلك «الطابوق» أو «الكلبيج» كان يُجلب التراب الأحمر، ويُخلط مع التبن والماء، ويُنقع لفترة من الزمن تكون عادة ليلة واحدة، ليصبح ناعماً وسهل التشكيل، ويسمى ناتج  اليوم بعدة أسماء منها «البشروك» أو «حريا نماندي».
بعد التنقيع يُداس بالأرجل، ويُشكّل منه «الطابوق» باستخدام قوالب خشبية مربّعة الشكل، يُترك «الطابوق» تحت أشعة الشمس ليَجفّ تماماً، ويُقلب عدة مرات إلى أن يجفّ تماماً.
كانت البيوت الطينية متداخلة مع بعضها البعض، مظلمة وصغيرة الغرف، وذات سقوف منخفضة، تُشكَّل في حيطانها نوافذ صغيرة سابقاً، أما الآن فتشيّد بمداخل كبيرة، واستبدل البعض السقوف بالصاج أو بالـ»هوردي».
بعد إتمام البناء كانت البيوت تُطلى بطبقة طينية ممزوجة بالتبن، ملساء ورقيقة تتشقق أحياناً، كما استخدم الأهالي «الطابوق المَقلي» والأحجار (الصمان) مع الجص المخلوط بالرماد كمادة للبناء، بعد تشكيل «الطابوق» (لوني) يُقلى في فرن يُدعى محلياً (كورا)، أما مادة البناء الجص (كيصا) فكانت أحجار الجص تُجلب من المناطق الجبلية، وتُقلى بنفس طريقة قلي «الطابوق»، ثم تُدقّ للحصول على مسحوق الجص باستخدام حجر (المندروني)، وهو عبارة عن حجر أسطواني تجرّه الأحصنة بعد الدق يُنخل المسحوق للتخلص من الأحجار غير المطحونة.
واستخدمت الأحجار عادة للأساسات والحيطان ، أما « الطابوق» فكان يستخدم للسقوف المقوسة لسهولة تشكيله وخِفّة وز ـ بحسب مهندس البيئة صدام إسماعيل ـ بالملمس الخشن أولاً، وبألوانه الباهتة وبالجفاف ثانياً، فهو بارد شتاء وحارٌّ صيفاً، بعكس البيت الطيني الدافئ شتاء والبارد صيفاً، لكن سبب طغيان البيت الإسمنتي هو ارتباطه بالمدنية، وعملية التحول المدني والحضاري للريف وقرى الجزيرة.

ما زال البيت الطيني حاضراً ومالا زال متناسبا مع الذوق الجزراوي والواقع والبيئة, القرى الجزراوية في غالبيتها طينية لكنها بدأت تشهد انحساراً على حساب البناء الإسمنتي الدخيل الباهظ التكاليف. لذا ينبغي توظيف العلم والهندسة في العمارة الطينية وإدراجها ضمن المناهج المعمارية وإيلائها الأهمية المناسبة.

 20/12/2008

* بلدنا

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…