هل بقيت اللغة كائناً حيّاً..؟! قراءة في كتيّب: «اللغة كائن حيّ» للدكتور آزاد حموتو

هيثم حسين

“اللغة كائن حيّ”، رؤية ونظرة فكريّة حول اللغة: الكرديّة أنموذجاً، كتيّب صادر عن دار الزمان 2007م للدكتور آزاد حموتو، والكاتب من مواليد عفرين، خرّيج جامعة مونستر في برلين، وهو، بحسب ما دُوِّن على الغلاف، مختصّ في: “علم آثار الشرق القديم، علم اللغات الشرقيّة، علم الاجتماع، تاريخ الفنّ من جامعة فرانكفورت، دكتوراه في علم الأديان والأجناس”. يقع الكتيّب، (وهذا بحسب توصيف الكاتب نفسه لدراسته الفكريّة)، في 72صفحة من القطع الوسط.. لوحة الغلاف والرسومات الداخليّة للفنّان لقمان أحمد.
وقد وضع د. حموتو تحت العنوان ملحقاً توضيحيّاً لمسار مخطّطه وخطّة أو تعريفاً بعمله، وهو بدوره أعرض ممّا طرحه، وهذا العنوان التوضيحيّ هو: رؤية ونظرة فكريّة حول اللغة: الكرديّة أنموذجاً، ولا أدري لماذا ثبّت كلمتي الرؤية والنظرة كليهما، حيث كلاهما يفيدان معنىً واحداً، في حين أنّ واحدة منهما كانت تكفي، ثمّ أنّه في اختياره للكرديّة نموذجاً، أثقل من حمله، وكان محموله أخفّ ممّا وعد، وقصر عمّا تمنّى تقديمه، وذلك من خلال عدّة أمور، ذكرها في الـ: مقدَّمة لا بدّ منها، وذلك عندما كتب أنّ حافزه الرئيسيّ لخطّ مخطوطته، “هو الغوغاء والضجيج المتعالي والخوف والفزع الحاصل والناتج من بعض الأقلام حول وضع اللغات المستعملة اليوم في المنطقة من انهيار وتشويه وطمس ولدرجة الخوف من اختفاء واندثار وضياع هذه اللغات المتناقَش عليها” ص9. ولأنّ أغلب تلك النقاشات كانت تفتقر إلى التشخيص العلميّ المنهجيّ الأكاديميّ فقد نشدت الدراسة إلى: “شرح وتبيان، ولو بشكل مقتضب، مكانة اللغة ـ أي لغة كانت ـ في المجتمع الإنسانيّ بشكلٍ عام. وذك من الجانب الاجتماعيّ والاجتماعيّ – النفسيّ، والبيولوجيّ اللغويّ، والفلسفيّ، وأخيراً من الجانب الأهمّ وهو الفكريّ المراد والقصد من هذه المخطوطة!. (طبعاً الخطّ من عند المؤلّف وليس من عندي). كما أنّه يبدأ بتبرير أسباب تأخّره عن إصدار كتيبه حقبة زمنيّة ليست بالقصيرة لطبيعة انشغالاته المتعدّدة، ولأنّه، كما يقول: “كلّما راجعت ما دوّنته سابقاً خطرت لي فكرة جديدة جعلتني أبادر بتغيير شكل وقالب الأسطر التي حُررت في حينها. ولكني أعتقد بأنّ الأفكار المطروحة بهذا الكتيب ما زالت حديث الساعة”.ص 7.
فالكتيّب يحوي على أكثر من 25 صفحة موزَّعة بين الإهداءات واالرسوم الداخليّة، وقائمة العناوين الداخليّة، والصفحات البيضاء الفارغة، أي أنّ المضمون المعروض من خلال العناوين الكثيرة المفهرَسة في المحتوى، تأتي في أقلّ من 45 صفحة، وهنا، لا أتّخذ من حجم الكتاب أو عدد الصفحات ذريعة تعيب الكتاب، لا أبداً، لأنّ العمل الجيّد بمضمونه الجيّد، ولا يزيده الحجم الكبير حسناً، أو قبحاً، إلاّ بما يقدّمه، ولكن أقول ذلك لأنّ العناوين الداخليّة في جزءَي الكتاب، توجب بضع مئات من الصفحات، على الأقلّ، لا بضع عشرات فقط، وذلك لأنّها كثيرة وكبيرة، منها مثلاً: “مكوّنات اللغة، علوم اللغة، لغة المحاكاة والكتابة، اللغة تفاهم وترابط، اللغة كائن حيّ ديناميكيّ، الكائنات تتأقلم وتنصهر، اللغة تسافر وتهاجر…، أصل اللغة الكرديّة، بنيان اللغة الكرديّة، حال اللغة الكرديّة اليوم والأمس، محاولات لتطوير اللغة الكرديّة…”. هذه العناوين المتشظّية يصلح كلّ واحد منها موضوعاً لدراسة أو بحث مطوَّل، لكنّ الكاتب اكتفى بالتذكير بها، وعرضها، ولسان حاله يقول، إنّها رؤوس أقلام، أو رؤوس أحلام ربّما..
كما يردّ  الكاتب حركة الإنسان العاقل الأزليّة ورحلته وهجرته كفرد وكجماعة من موطنه إلى أماكن بعيدة مختلفة، إلى أسباب متعدّدة وكثيرة، منها، الكارثة الطبيعيّة، انفجار سكّاني، تغيّر مناخيّ، غزو، تجارة، عمل والخ. ص 33، وذلك دون أن يذكّر بالأسباب الرئيسة التي تدفع بالإنسان إلى الابتعاد عن موطنه، وهنا بالكرديّ تحديداً إلى الاغتراب، كون لغته أنموذج الدراسة، ومن تلكم الأسباب التي قد يجمعها الكاتب في كلمة (الخ)، والتي تركها لمفهوميّة القارئ كي يستنبطها، الاستلاب الذي يتعرّض له الكرديّ في أرضه، الاغتصاب الذي يقع ضحيّته، الصهر والإمحاء القوميّ، التهجير القسريّ والمقنّع، الإبادة، الطرد، الاقتلاع…إلخ.
أمّا عن التصنيف الذي وُضع للكتيّب على أنّه دراسة فكريّة،  فلم أقرأ ما هو رؤية، ولا رؤيا حتّى، فكريّة جديدة أو مستقلّة فيه، وكان سيكون أصحّ، من وجهة نظري، لو أنّه كتب: النيّة في دراسة فكريّة، أو الرغبة، أو الأمنية، ذلك لأنّ النيّات الحسنة، كما هو معروف، تنتج أدباً دون المستوى المطلوب، فجاء الوارد في قالب تجميعيّ فيه نوع من التبسيط والتسطيح معاً، وفيه كذلك من الاستسهال ما فيه، من خلال ملامسة القشور، دون الغوص في الأعماق والجذور، لاستخلاص الدرر التي تعتّقها كلّ لغة..
ومن الطريف والمؤسف في آنٍ، هو أنّ اللغة الكرديّة التي اختارها الكاتب كأنموذجٍ لدراسته الفكريّة، جاء ذكرها، وانحصر التذكير بها، في بضع صفحات، في الجزء الثاني من الكتاب، وجاءت عرضَ حال لبعض الآراء والاجتهادات المتداولة، وبقيت سرداً تابعاً ولاحقاً لسردٍ سابقٍ لسابق بدوره، ولم تتجاوز التذكير بمعلومات باتت معروفة للقاصي والداني، من قبيل التوزّع الجغرافيّ للكرد بحسب اللهجات.. ولم يرد في الكتاب أيّة كلمة كرديّة، عدا عن بعض الأماكن الجغرافيّة، بل وردت بضع كلمات أجنبيّة أخرى.. ثمّ كان هناك من التقريع الذاتيّ الذي يحمّل الذات أعباءً أكثر ممّا تحتمل، ومن ذلك عرضه لحال اللغة الكرديّة اليوم والأمس، دون أن يدقّق أو يسهب في الظروف المفروضة على الشعب الكرديّ، والتي تطوّقه بقيود كثيرة تبقيه مؤزّماً، وتبقي وضعه طيّ تأزيم ومَأَزقةٍ مستمرّين، فيقول: “وضع وحالة اللغة الكرديّة المستعملة من الكرد اليوم بشكل عام هي حالة غير متوازنة وغير واضحة. وهي بالمعنى العلميّ متخلّفة لها هيئة بدائيّة ذات ثياب بالية وهي واهنة وتعاني من أمراض كثيرة، وهي ضعيفة هنا وقد تكون قوية بنسبة ما هناك… وهي بأزمة حقيقيّة وبحالة ضعف، ومريضة تنتظر العلاج، ولكنّها ليست بوضع الاحتضار والموت”. ص61.  ولربّما يتقاطع الكاتب في تحليله لواقع الكرديّة مع بعض المتحاملين، وخصوصاً في عدم صلاحيّة الكرديّة للعلم أو الحداثة.. كما أنّه يشابه بين اللغة العربيّة والكرديّة، وهذه مشابهة ناقصة، لأنّ واقع العربيّة مختلف جملة وتفصيلاً عن واقع الكرديّة، حيث لها مؤسّساتها ودولها التي تتبنّاها.. ويقول إنّ الكرديّة الآن هي في فترة التعريف عن النفس والبحث عن الذات، ويحذّر من مخاطر هذه المرحلة التي ستؤدّي إلى “تحجيم وتقزيم اللغة الكرديّة صاحبة العراقة والجذور الطويلة والقديمة في الزمن”. ثمّ يأتي تعقيبه الأخير استعادة لما سبق ذكره، موصياً بالإكثار من خلق قرّاء كي يتلقّفوا ما يجب أن تنشر من دوريّات وإصدارات.. وكذلك ما قد يُستغرَب له ومنه، هو ورود صفحةٍ وبضعة أسطر في فصل: “بنيان اللغة الكرديّة…” وتوصيف هذا البنيان، أي أنّه جاء ذكراً للهجات وبعض مناطق انتشارها.. 
يتوجّه الكاتب في توطئته بالشكر والاحترام والمعزّة لصديقه “الدكتور باسم جبّور من حمص الذي تكرّم بقراءة المخطوطة ودقّقها لغويّاً”، إلاّ أنّ القارئ يتعثّر بأخطاء لغويّة عدّة، منها مثلاً ما ورد في التوطئة نفسها: لكنّها طُورت لتأخذ صفةً دراسةً فكريّة”، “لقد حصلت على مراجعَ وكتباً ومقالات كثيرةً“، “لكي يضيف للأسطر روحاً جماليّة بذوقً رفيع”. ص8. وفي هامش الصفحة 12 نقرأ: “قد لا يكون متعارف عليه بأن يكون إهدائان“.. كما ورد فصل بعنوان: “لغة المحاكاة والكتابة”، ولاشكّ أنّ الكاتب يقصد لغة المحادثة أو التخاطب أو الحكي، ذلك لأنّ المحاكاة تعني التقليد.. وفصل آخر بعنوان: اللغة تفاهم وترابط”، أي وسيلة، هذه الكلمة التي بقيت مضمرة محتاجة إلى تأويل من القارئ..
صحيح أنّ الكاتب اختار لمؤلَّفه ـ (مقبوسه كما يتبدّى أثناء القراءة) عنواناً عريضاً يصلح لموسوعة كاملة، لا لما يشبه الكتيّب الصغير، والذي يمكن أن يوصَف بأنّه مقال اجتهاديّ متواضع في اللغة، حيث أنّه في معظمه مجموع من هنا وهناك، حيث أنّ الكاتب يقرّ في البداية بعدم تثبيته للمراجع كلّها كي لا تأخذ حيّزاً كبيراً، فيكتفي ببضعة مراجع، البعض منها متواضع في بحثه ومضمونه، والبعض الآخر خليق بذلك.. والتركيز، كما ينوّه منذ البداية، يكون محصوراً على محاكاة كتاب المجازفة في الكلام لخالد محمّد، هذا الكتاب الذي أراد له مؤلّفه أن يكون فكريّاً علميّاً، فلم يلبِّ الأمرين معاً لأنّه بقي ناقلاً أثناء المناقشات والمقاربات للآراء التي وردت حول اللغة الكرديّة، وتفنيد المزاعم التي تحاول النيل من الكرديّ من خلال النيل من لغته، وهو كتاب يتحلّى بالطابع الصحفيّ من ناحية المتابعة والمناقشة.. ويكون من المراجع كذلك، الدكتور فاروق إسماعيل في بعض ترجماته، وحتّى في بعض شفاهيّاته، وذلك في هامش التوثيق في الصفحة 37، والدكتور محمود السيّد الذي تكرّر الاستشهاد به بضع مرّات متتالية، لكنّه قصر عن إيصال المراد كما يجب.. وهنالك غياب ملحوظ في البحث والدراسة، في الرجوع والاطّلاع على نتاجات أغلب المفكّرين الذين عنوا بموضوع اللغة والفكر والفلسفة، كفوكو ودريدا وبارت وإيكو وغيرهم كثيرون..  
حقيقة، لا أنفي أنّني عندما شاهدت الكتاب، وقرأت عن اختصاصات مؤلِّفه على غلافه الخلفيّ، استبشرت خيراً، وسعدت لأنّني سأقرأ بحثاً لأكاديميّ كرديّ، وسيكون البحث جديداً مفيداً لي، لأنّه سيطرح رؤية فكريّة حول اللغة عموماً، والكرديّة خصوصاً، لكنّني لا أنفي صدمتي أيضاً، ولا أجامل لأقول إنّه كان متفرّداً عظيماً، بل أقول إنّه مقالة جيّدة، حبّذا لو نُشرت إنترنيتيّاً، أو في صحيفة ما، لتعرّف القارئ العاديّ ببعضٍ ممّا غفل عنه أو لم يتعثّر به، أمّا أن يكون كتاباً لاختصاصيّ أكاديميّ فهذا ما لم أعثر عليه في الكتاب، وهو ما آلمني بالفعل، ويؤلمني أيضاً أن أكتب شعوري بعد الانتهاء من قراءته، لكنّني أكتب ذلك حرصاً على الجميع، قرّاء وكتّاباً، ومن باب النقد للعمل المطروح للقراءة والنقد.. حيث اللغة التي هي كائن حيّ بقيت تنازع ولم تبلغ برّ الأمان في هذا الكتاب، الذي لم يطرح كاتبه رؤيته الخاصّة الحديثة التي وعد بها في توطئته ومقدَّمة كتابه، هذه الرؤية التي كانت ملتبسة ضبابيّة مجترّة..         

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ألمانيا- إيسن – في حدث أدبي يثري المكتبة الكردية، صدرت حديثاً رواية “Piştî Çi? (بعد.. ماذا؟)” للكاتب الكردي عباس عباس، أحد أصحاب الأقلام في مجال الأدب الكردي منذ السبعينيات. الرواية صدرت في قامشلي وهي مكتوبة باللغة الكردية الأم، تقع في 200 صفحة من القطع المتوسط، وبطباعة أنيقة وغلاف جميل وسميك، وقدّم لها الناقد برزو محمود بمقدمة…

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…