كروبٌ ثقافيٌّ بدون ثقافة

صبري رسـول

          يبدو أنّ ظهور (كروبات) ثقافيَّة في المشهد الثقافي الكردي باتَ أشبه إلى (موضة) ، منها إلى حالة ثقافية جديدة ، وولاداتها البارامسيومية غير الطبيعية تجلب إلى الساحة قلقاً ثقافياً ، وبؤساً معرفياً ، مما يُخرِج هذه الجماعات من مساراتها التي يُفْترَض أنّها تؤسّس لخلْقِ ثقافةٍ مختلفةٍ ، ولكسْرِ السائد من الاجترار الفكري ، وتسعى لبناء رؤية مبتكرة ، تتجاوز الصّفحة الراكدة المحاصَرةِ أصلاً من الجغرافيا والتّاريخ ؛ فقد تكاثرت (الكروبات) الثقافية في كثير من المناطق الكردية ، بل أصبح لكلّ مدينة كروب ثقافي ؛ فتتوالى هذه الولادات ، حتى أمسى لكلِّ مدينة كروبها الثقافي، وقد تُصبح لكلِّ حيٍّ كرديٍّ كروبه الثقافيّ !. ولها أسماء مزركشة ، وألوان تتعانق مع التاريخ وتجليات الفصول،ومع ألوان وطيف قرص (نيوتن).
          طبعاً لا أقصد من هذا الكلام إلحاق الأذى الكلامي بكروبٍ ما، ولا الإساءة إلى مثقف معين  بذاته ؛ لكن وفي نفس الوقت أرى أنَّ فَتْحَ حديثٍ عن هذه الكروبات الكثيرة بأرقامها ، والمشتتة في أسمائها ، والفقيرة إلى برامج ثقافية ، والخالية من المثقفين ، حقٌّ طبيعيّ لي ولغيري.
          كثيراً ما نسمع بوجود أو ظهور (كروب) ثقافي في مدينة معينة ، لكن دون أن نرى بأنَّ هذا الكروب قد رسم لنفسه برنامجاً ثقافياً معيناً ، يسعى إلى تحقيقه ولو بخطوات متواضعة ؛ أستثني من هذه الأسماء بعضاً منها ، تلك التي تعمل بهدوء ودون أنْ تثير حولها زوبعة كلامية (كمكتبة جارجرا ، وكوميتا نوبهار ، وجلادت بدرخان ،….إلخ) وسأقف عند واحدٍ من هذه الأسماء في سياق هذا الحديث. وهذا لا يعني بأنّ هذه الأسماء المستثنية ، لها نضوجٌ ووضوحٌ في الأهداف والوسائل ، بل هي الأخرى تحتاج إلى كثيرٍ من العمل ، وإلى كثيرٍ من العزم والإرادة ، وإلى كثيرٍ من الوقت ، وإلى كثيرٍ من الكوادر والأقلام التي لها شخصيتها المختلفة والمتميّزة.
          نعرفُ أنَّ كلّ الأعمال العظيمة التي نعيشها في عالمنا التقني المتطور كانت أفكاراً بسيطة وخجولة في وقتٍ ما ، بل يمكن القول أنها كانت عبارة عن هواجس طوباوية ، وأفكاراً خيالية ، قد يكون تطبيقها ضرباً من الوهم في نظر أصحابها أنفسهم ، وهكذا كلّ النظريات التي أسهمِتْ في تطور العلوم والحياة كانت كذلك ، لكنها تحولت إلى واقع ملموس نتيجة إيمان أصحابها بها ، و توفر الإرادة القوية لديهم ، ليترجموها إلى واقعٍ ماديٍّ ملموس. فليس عيباً وفق هذا المقياس أنْ يبدأ المرء بخطوة شبيهة بهذه الكروبات ، فخطوة صغيرة واحدة خيرٌ من اللعنة على الجمود ، وعلى الوقوف في المكان جامداً حائراً ؛ لكن السؤال الذي يطرح نفسه : يا ترى هل أصحاب هذه الكروبات لديهم برامج ثقافية ، وإرادة تمكّنهم من القيام بتلك الخطوة الكسيحة ؟ أمّ أنَّ الأمر يندرج في إطار ما يشبه (موضة) ثقافية ؟ فإذا كان الغاية التي أُنشِئَتْ من أجلها الكروبات الثقافية هي الاشتغال بالشأن الثقافي ، وتحريك الحالة الثقافية الراكدة للتفاعل مع الحياة ، فلِمَ نسمع (الجعجعة) ولا نرى الطحين ؟ هل تمتلك هذه الكروبات برامج – ولو بسيطة ومتواضعة – كتابية تهتدي بها في نشاطاتها ؟ ثمَّ وضعت نصب أعينها لتحقيق شيءٍ منها خلال زمنٍ محدّدٍ ؟؟
          أعتقد أنَّ التناسل غير الصّحي لهذه الكروبات سينتج أسماء وجماعات ثقافية دون إنتاج ثقافي أو معرفي ، للأسباب التالية :
          1 – أنَّ هذه الكروبات ليس لديها برامج ثقافية واضحة ومحدّدة ، أصرُّ على كلمة (محدّدة) ، فلو تخصّص كروبٌ ما بجمع الفلوكلور الشفاهي على سبيل المثال ، كالأغاني والحكايات وغير ذلك بما يدخل في إطار فلوكلوري ، لكان قد أنتج شيئاً ما.
أو أعلنَ كروبٌ ما بأنه سيصدر مجلة خاصة بأمر معين ، وغير ذلك من البرامج والأهداف ، لأنّ نجاح أيّ مشروع  في الحياة هو تحديد البرنامج ، ثمّ وضع الخطة التي ستحقّق ذلك الهدف ، ثم الإصرار والسير في الطريق حتى النهاية .
          2 –  إنَّ هذه الكروبات الثقافية تفتقر إلى الأقلام الجادة التي لها حضورها على الساحة الثقافية ، وما تنتجه بعض الأقلام المنتمية إليها من مواد ثقافية ، عبارة عن أفكار مكررة ، واجترار ثقافي بائس ، لا يرتقي  إنتاجها إلى المستوى الإبداعي ؛ يعني هذا أنَّ الكروب الثقافي لا ينتج ثقافة بدون مثقّفٍ يكونُ مصدرَ إبداعها.
          3 – يبدو أنَّ مرض الأحزاب السياسية قد انتقل عدواه إلى تلك الكروبات ، حيث بدأ عليها اللون الشللي ، وبات الانقسام فيها سيّداً لا يمكن مقاومته ، وكلُّ خوفي أن تتحول الكروبات الثقافية إلى كروبات عائلية في يومٍ من الأيام . هذا الأمر يثير القلق ، فما المبرر من التقسيم الكروبي ؟ وما مستوى المثقف (الفطحل) الذي يعلن كروبه من اللاشيء ؟

          قد نستثني بعض الكروبات الثقافية من الوصف أعلاه ، و أخصُّ الذكر (كوميتا نوبهار) هذه المجموعة تتميّز حسب علمي بقيامها ببعض النشاطات الثقافية دون أنْ تصدر جعجعة كلامية أو إعلامية ، وكأنها تريد تقديم شيء ما وبصمت ، وفيها بعض الكوادر الإعلامية والشخصيات التي لها وزنها الثقافي ، رغم أنها هي الأخرى تفتقر إلى برنامجِ عملٍّ محدّد ، وإلى جانب هذا يجري الأمر على أسماء أخرى وإن تفتقر إلى برامج محددة ، لكنها تعمل بجد وصمت مثل مكتبة جارجرا، وجلادت بدرخان ، وهما يستحقان الثناء. و السؤال الذي يحاصرني دائماً: لِـمَ هذا الكم الهائل من الكروبات ؟ و هلْ حقَّقت من فتحٍ ثقافيٍّ وإبداعيٍّ ؟ وما هي إنجازاتهم الثقافية ؟ وهذا السؤال موجّه إلى الأخريات كجمعية بربروج ، كروبا كركي لكي  ،كروبا تيريز، كروبا ديرك ، كروبا تربه سبيه ، كوجكا قامشلو ، …إلخ . وأسماء أخرى قد لا يستطيع المرء حفظ أسمائها . وقد يكون للحديث بقية !!!.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…

ماهين شيخاني.

 

وصلتُ إلى المدينة في الصباح، قرابة التاسعة، بعد رحلة طويلة من الانتظار… أكثر مما هي من التنقل. كنت متعبًا، لكن موعدي مع جهاز الرنين المغناطيسي لا ينتظر، ذاك الجهاز الذي – دون مبالغة – صار يعرف عمودي الفقري أكثر مما أعرفه أنا.

ترجّلتُ من الحافلة ألهث كما لو أنني خرجتُ للتو من سباق قريتنا الريفي،…

إبراهيم سمو

عالية بيازيد وشهود القصيدة: مرافعةٌ في هشاشة الشاعر:

تُقدِّم الكاتبة والباحثة عالية بيازيد، في تصديرها لأعمال زوجها الشاعر سعيد تحسين، شهادةً تتجاوز البُعد العاطفي أو التوثيقي، لتتحوّل إلى مدخل تأويلي عميق لفهم تجربة شاعر طالما كانت قصائده مرآةً لحياته الداخلية.
لا تظهر بيازيد في هذه الشهادة كامرأة تشاركه الحياة فحسب، بل كـ”صندوق أسود” يحتفظ…