شراب أخضر لأنّنا في الرّبيع

عبدالرحمن عفيف

حبّ من الغبار
رأسه على تلّ شرمولا
رجلاه صفراوان
في الآبار.

في الشبّاك رأيتك
ذات ربيع
الرّبيع كان الولد الصّغير
يشتري العلكة لك
ويبقى في الشّارع
أمّا شعرك
في النّافذة

إلى الصّباح.
إلى العصر غنّى مؤذن
كهل وردة العبّاد
الخضراء
الصيف الحار
وشمّر العصفور ريشة
والحمّال
أخذ عصفوره
حصان يركب على كتفيه
وبندورة خضراء.

يا أمينة
في النيروز
شبهتك بأمينة
قبل ثلاث سنوات
والفتاة في الشبّاك
صارت عانسا
لم يخطبها
لقلق ولا قنفذ
وأنفها
قنفذ شرّير.

عود من شجرة توت
عود أخضر وبنيّ
قميصي الأحمر
مثل نكتة المسيحيّين
ذهب المسيحيّين في المقابر
شوارب المسيحيّين
لم يزرنا قطّنا الأبيض
ذهب إلى الجيران
ينام في المدافىء.

وحبّنا المسكين
هو عود صامت
فوق النّافذة
كلّما أحببنا ورأينا شعر الفتاة
خلف الشبّاك
وكان لنا قميصنا
وبنطلونا الجينز
فكّرنا في شعر الفتاة
في النّافذة.

والسياج جرّح يد الصّديق
والبقرة السوداء جرّحت العصر
والتنكة
والنوروز جرّح
نفسه بالأخضر
والصينيّة ببذور البطيخ
في الحوش
وديك لم يعش قط.

لو عرفناك
مثل شمّامة مخطّطة
لها السّنونو والقطّة واليعسوب
وشجرة تستلقي على ذراع الرّبيع
مضى وأتى
وأكل اللبن والرز والزّيتون
أكلنا أيدينا.

مرّ صوت الدربكّة
والنّاي الخارج
وتبعهم الزّجل من الحمام
وباب بيت
وصوت الحمّام والأثداء
ولو انهمر جسدي
بقوّة تحت وابل الحمّام
حمامة في الحمّام.

صوت الرّاديو
صوت المقبرة
صوت البئر
صوت المرأة الحيّة
لها خمسة أولاد
صلّى فيها زوجها السكّير
زوجها السكّير
في النّوم
يزور المقامات.

في الشبّاك رأيت العصفورة
من الصفّ العاشر
وصمتك
حين أعلنت لك الباحة
أشرقت الشّمس وطلع القمر
من الدّفتر.

عرفت
ستنسينني قبل اليوم
والجدار كما هو
منخفض
 يرى خطواتنا المراهقة
عرفت
هذا الفانوس في النّهار
يشعّ ويشعّ
لا كلمة لهذه الأشجار.

والقامشلي على نهرها
الرّبيع على الجسر
النّاس
ودقّة جرس ورنّة مؤذن
وبقعة رصيف
وصديق آخر يفكّر
في ليمونة
حولها خيط
بلحلقه
كحلق النّعامة.

وعامودا في غبار المساجد
تحت حافّة نهرها
وصيفها المتسمّم
بقع السنونو المتحيّرة
على السّطوح
البرغل لم يأكله
التنوّر الوحيد في البريّة
وانحدار وادي” دودا”.

والليل مرّ وأتى
ومرّ
غيّر عمود الكهرباء مصباحه الأصفر
بواحد أحمر وجارنا القدّوس
شرب عرقه الريّان
والبقدونس
دخل في الصّلاة
والسّلطة
على النمليّة.

على تلّ شرمولا
تنمو الطّناجر
والمقابر
ويعبر طريق
بين آلة الزفت
وزجاجة البيرة المتشظّية
كلب مليء بالذّباب
شمس وضفادع وزبل
سرياليّ متجمّع
دخان يلتهم هناك
أنفاسه.

يا بنيّ
رأيت أمّك أمينة
تفرش سجّادة على قصر
غامق في ضوء الرّيح
وقامة الرّيح كانت حديقة
وقلب أبيك كان طنبورا
مصنوعا من الخزف
والزّبرجد.
يا بنيّ.

حبّ يجول بطقمه
من الأسنان المزيّفة
بين حارتنا وحارتكم
ولم ننعم بحبّ حقيقيّ
ولا بحبّ مزيّف
وبيننا وبينكم مسافات
وغجريّة
لتعرفي عقوبة الهوى.

يا أمينة
في باص التعاونيّة
أكلت اليوم خمس عبارات
عن واد أخضر
وفستان بارق
وعن بنطلونك
ولو نظرت إلى قلبي
لرأيت خمسة أحجار
عيوني الناظرة إليك
في خمس ساعات.

قال حرمل ” موزا”
وخرنوب البريّة
الكرة الزجاجيّة
بين الحقلين
برقت على حافّة البئر
والدّلو الفضيّ الأسود
والمتنزّهون شربوا
فضّة
فضّة
وبعض الذّهب.

طائر برأس الحنّاء
طائر أكبر من الأوّل
رأس الياقوت
رفرف على الكرة المتبرّقة
طائر
وأمّ الطّائر
بيضتها الكبيرة
انحدرت على المنحدرات الغزيرة.

كم شعرت بقلبي المنفصم
على منحدر “موزا”
يقضم نحاس موقد رحلتنا
والمرض انتشر على جلدي
ووجهي الشّاحب
تحت العباءة.

حبّ من الفستق والباذنجان
والتبّولة والعطر الكسيح
قلبي من بصل وبطاطا وجزر
شعري فليفلة وريحان وبعرور
فمي ويدك دبس وفستق
وشراب أخضر
لأننا في الرّبيع.

أعرف
هذه شفافيتك
تركتها خلفك
عندما تزوّجت
في البيت
أزور شفافيتك
كلّما خطر في قلبي
عصفور
إبريق
وربّما
إوزّة مكسورة العنق
وقطّة مفقوءة العين.

وحبّي لك
لأحبّ شارعي
ودفتري
وحياتي تعطّلت
ولأقول قولي
وحبّي لك عذري
لأحبّ القامشلي
أكثر من عامودا
ومن الدرباسيّة
وعذري حبّي
معك وبدونك
سأحبّ الباص
الشّجرة والتوت
البطيخ وشجرة النعامات
والمئذنة وحجر
وسكّين الفجر
النوروز
وبنطلونك الأحمر
وقميصك.

وها اقتربنا
ذات ربيع
فانكسر غصننا
في فمنا
ووقعنا في حبّنا
ومذ ذاك
على أنتيلات السّطوح

والوحل تحت السّطوح.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبدالعزيز قاسم

(كان من المقرر ان اقدم هذه المداخلة عن “اللغة الشعرية في القصيدة الكردية المعاصرة ـ ڕۆژاڤا” في مهرجان فولفسبورغ للشعر الكردي اليوم السبت ٢٥ اكتوبر، ولكن بسبب انشغالي بواجب اجتماعي قدمت بطاقة اعتذار إلى لجنة إعداد المهرجان).

وهذه هي نص المداخلة:

من خلال قراءتي لنتاجات العديد من الشعراء الكرد (الكرمانجية) المعاصرين من مناطق مختلفة “بادينان،…

إبراهيم محمود

 

تلويح خطي

كيف لرجل عاش بين عامي” 1916-2006 ” وفي مجتمع مضطرب في أوضاعه السياسية والاجتماعية، أن يكون شاهداً، أو في موقع الشاهد على أحداثه، ولو في حقبة منه، إنما بعد مضي عقود زمنية ثلاثة عليه، دون تجاهل المخاطر التي تتهدده وتتوعده؟ وتحديداً إذا كان في موقع اجتماعي مرصود بأكثر من معنى طبعً، كونه سياسياً…

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…