ابراهيم محمود
تتأهب الذاكرة الكردية في الغالب، ويدق ناقوسها التاريخي في السنة مرة واحدة، ثم ينقطع الصوت، لأن يوماً في التاريخ، يخرجها من غيبوبتها، أو من لحظة الغفلة الفعلية التي تعيشها. كلما اقترب 22 نيسان، تستجد ذاكرة الكردي المعلوم باسمه، لاستشراف أفقها، أعني أفق ماضيها وليس تاليها، أعني خطوط تحركها، في سياق ما هو محضَّر قوله، وفي وقت محسوب بدقة، في مشهد كرنفالي، لا يخلو من مأسوية المقام، وبؤس القائمين به كثيراً، لتعود الذاكرة هذه بعدها، إلى الدخول في قمقمها المُعَد لها آلياً، وانتظار دورتها السنوية الجديدة، في نشاطها الحَولي.
سنة أخرى، رقم حسابي آخر، معتبَر كمَّاً، لنكون إزاء مائة وعشر من السنين، ويتكرر اسم مقداد مدحت باشا، مجسد الذاكرة ومحورها في آن.
أتوقف عند بعض النقاط التي تهمُّ المعنيين بإدارة أمور الذاكرة هذه، أو لنقل: شئونها” شجونها”، وكيف يتم رصد نشاطاتها، أيُّ قوة رمزية تسخَّر لها، ومن يقوم بتمثيل القوة الأرضية هذه، وفي جهات مختلفة كردستانياً، لتكون الذاكرة: المستقبل، وليس الذاكرة الماضي، وليكون الراحلُ الكبير-حقاً: مقداد مدحت باشا، ذاكرة مِن بين سلسلة ذاكرات كردية، وربما يكون الذاكرةَ الأصغر، إلى جانب آخرين، من ناحية مَن هُم أخلافه باعتباره السلف النجيب هنا، ولكنه الخلف لأسلاف يتجاوزونه برضىً مقدَّر منه، طالما أن في ذلك توسيعاً لفضاء الذاكرة هذه في عمومها، كما يُفترَض، إن أردنا التفكير في مستجدات التاريخ والإعداد لها، ومعاينة نوعية التحولات، والتراكم الثقافي، وخبرات السنين، وخصوصاً اليوم، وميكانيزم الاتصالات، وفق مبدأ الناسخ والمنسوخ، من جهة الصلاحية، أي مراعاة مقتضى الحال أيضاً! إن أهم خطوة يستوجب القيام بها، هي، وبصراحة تامة، ما أسمّيه بـ(تفكيك الذهنية الناظمة لعمل الذاكرة هذه) وذلك في نشاطها الحَولي (كل سنة)، وصولتها الحَولية، ومكاشفة مقومات كبحها:
إن الصحافة الكردية التي شهدت ولادتها ، كما هي إطلالتها الأولى في (المغترَب- المنفى..)، أي في القاهرة، ومن خلال صحيفة (كردستان)، من قبل الراحل مقداد مدحت باشا، ولتتابع صدورَها في جنيف ومن ثم القاهرة فاستنبول..الخ،من بعده، يبدو أنها لن تستطيع متابعة هذه البداية، بالصيغة البيانية التي أفصحت عن ذاتها (عبر ملحقها باللغة الفرنسية)،وبجرأة ملحوظة، إلا إذا استطاعت استيعاب وعي البداية الواسع المدى ،وتكثف حضورها الوعيوي هذا بانتمائها الاجتماعي والثقافي المختلف في الزمان والمكان. وأن إخلاصها لهذا التمايز والتجاوز لما هو مِللي أو نِحَلي (إن جاز التعبير)، أي تكتلي وتحزبي وطائفي، بلغة الراهن، هو الذي يمنحها هذا الحضور التاريخي!
وإذا كانت الصحافة تمثل التعبير الأوفى عمَّا يحدث في تاريخ المجتمعات، وفي عالم اليوم أكثر، وما تتطلبه من مرونة هائلة، وقدرة فائقة في تغطية الأحداث الجارية، ومقاربة أوجه المختلف فيها، وبنوع من التفاني والإقدامية، أي الإيمان بالجانب المهني للعمل الصحفي، وليس الوظيفي، أي اتَباع خط (الزلازل)، إن جاز التعبير، بذاكرة( كُردسوفتية” كردية مرنة، إن استعرنا مفهوم ” ميكروسوفت”)، لتأكيد حيوية العمل، وتنامي دوره، ويعني هذا، أن الصحفي هو حارس الجبهات المتقدمة في المجتمع، الجبهات المتحركة، والتي يكون الصحفي المرئيَّ الأول فيها، ليحسن الإخلاص للحقيقة، باعتبارها تستقطب الجميع. أقول، إذا كانت الصحافة لها كل هذه المزايا (المهيوبة)، كما أظن، فإن مجمل الذين يحرسون الذاكرة هذه، بصفة رسمية معلومة، ويحاولون التعبير عنها، واعتلاء منبرها، وتحديد البداية والنهاية الاحتفاليين: الشعائريين، يقعون في الخط الأخير، خط الاحتماء بالملاجىء، تجنباً لأي مواجهة مهدّدة لهم، إنهم يمثّلون في الذاكرة هذه، أكثر من تمثيلهم لها، إنهم يخونون السلف الموسوم في المجمل، كما تقول وقائعهم، يعتمرون العمامة المقدادية دون تفكيره النشط، يحتفون باسمه، دون الإحاطة به تاريخياً وتجاوزه ضرورةً، حيث كان الجمع بين الإنتماءات الثلاثة: الديني” الإسلامي”، فالعثماني، فالكردي، هو الميزة اللافتة لما كان سائداً وقتذاك، ووعي اللحظة هذه، يتطلب دفعة حيوية هائلة إلى الأمام، وتجاوز ما يوازي ذلك: الانتماء التحزبي، العشائري، التكتلي الكردي!
إن مرور قرن ونيّف، لم تعلّم الكرد المعنيين (وأشدد على مفردة” تعلّم”)، صنوف التحولات والتحديات في التاريخ، لم تعلمهم كيفية الإقبال على الدرس المقدادي، وتأويله، ثم تدشين الدروس الأكفاً تاريخياً، لم تعلمهم التمييز بين ما هم عليه من تمزق وتفرقة في الذات الجمعية الكردية، وفي مفهوم وعي الذات الفردية الكردية، ليكون وعي الأولى هو المرجع، إنما عبر تثقيف شمولي للثانية، تفاعلياً، لم تعلّمهم التفريق بين ما كان عليه وضع السلف الأول في الصحافة الكردية، وخارجاً، وسلسلة الأوضاع المتحولة والمستجدة، لمن جاؤوا من بعد، في خانة الصحافة الكردية المتنقلة أو الرحالة لأسباب سياسية وغيرها، وفي السياق: تحولات مفهوم الصحفي الفعلي، واليوم خصوصاً، داخلاً وخارجاً.
نعم، ثمة صحافة كردية، وهذه بداهة، وثمة صحفيون كرد، وليس هذا باكتشاف، ولكن الصحافة الكردية، وفي مجمل حالاتها، وفيما تغطّيه إخبارياً وتحليلياً، افتقرت، وتفتقر إلى صفة الجلالة فيها كثيراً كثيراً. كردياً، من الصعب، إن لم يكن مستحيلاً وجود “صاحبة الجلالة”، إنما شاطبتُها، لأن ليس من وعي ثقافي مهني منفتح، كما يجب، يعتبر صاحبةَ الجلالة مع الجميع وضد أي منهم، دفاعاً عن الحقيقة التي تهم الجميع. لأن ثمة زعامة، تزعمات، استزعامات، تزعيمات كردية، لا تقبل وجود صحافة تسلّط الضوء عليها، وعلى أنشطتها. فوليُّ الأمر الكردي المأمور كثيراً في حسابات جغرافيته المستلبة، زعيم كلام، وهو يجيز من يمكنه الكلام، وفيما يجوز فيه الكلام، وهو خارج” نقد” الكلام، من موقع أبوَّته الزعاماتية. إنه مشجع على ضرورة قول الحقيقة، ولكن خارجاً، ودون تسمية. إنه الخصم اللدود للأسماء والمسميات الكاشفة،ومن يرتبط به، من يلوذ بظله، يستزعم به، ويتزعم خط جبهة عقائدية تحزبية، باسم مفوَّض من قبله، وقد يكون حائز شهادة صحافية، أو حازها بخبرة عملية ما. إن الصحافة الكردية، تنوس بين الترمل والتيتم معاً. في الترمل، حين يحاصَر من يريد ممارسة صحافية، حيث قول الحقيقة يعلو كل حقيقة فئوية أو شخصية، ويعدَم بالنبذ أو الإقصاء أو التشويه، كما لو أنه غير موجود، وفي التيتم، حين يفتقد الصحفي من يمكنه التحصن به، من يشكل غطاء لوجستياً، يسمح له بمداولة مهنته، بممارستها، حتى لو على نفسه. فهي إذاً مازالت تبحث عن اسمها الذي كان ذات يوم، وعينها على” الخارج” كما أن ولادتها المستمرة خارجية! إن المعتبَر صحافياً كردياً، هو أشبه ببائع” خردة” فقدت علامتها، إذ عليه دائماً، إذا أراد تنقلاً، أو تحركاً،ألاّ يثير يغضب الزعيم المزعوم رغم أنه محكوم بزعيم آخر يبطش فيه بأكثر من معنى: نفسي، وسياسي، وتربوي، وتاريخي، وعدوى الزعامة الكردية مستفحلة، من خلال أدوار الذات التاريخية في نسابتها العشائرية المفيرسة في مواقعها! ليس عليه أن يتعامل مع ” آلة” كاملة، بماركة معلومة، وجهة ِالصنع، وتاريخها، ومدى تقانتها، وحدود العمل بها، أو تاريخ صلاحيتها..الخ،ليكون في مستطاعه، التحرك في خطوط التمايزات الكبرى، بين دوروآخر، وأي دور هو الأكثر قابلية للقيام به تاريخياً، وفي خانة البنية الذهنية للكردي المسيطَِر على ما هو معتبَر سياسة أو سياسياً، تختلط المفاهيم ، أو الكلمات، دون التمييز بين تواريخها، وأعمارها وأدوارها، فيركَّب نص صحافي، أو هكذا يُسمى، كما هو المعهود كثيراً في كلام الزعيم (كلمة من هنا، وكلمة من هناك، دون تمييز بين مصدر هذه الكلمة وتلك، في استخفاف ضمني بالمحيطين له، بين جانب التهويل أو التعويل فيها. يمكن هنا أن يستثير سواه بكلمة مارقة، بينما هو يريد غيرها، لأن وعي المفهوم مفتَقد عنده، كما هي الآلة العجيبة حصيلة قِطع متنابذة!
أشير هنا، كذلك ، وبناء على ما تقدم، إلى الفارق الكبير والملحوظ بين كل من تأثيث الصحافة “الصحافة الكردية”، وتأسيسها! ثمة تأثيث للصحافة الكردية، أكثر بكثير، ثمة ديكور لها، والصحفي الكردي ما أشبهه بمؤثث، حيث يتحرك ضمن إطار أثاث منزلي، بكلمات محددة، منتقاة، وفق رغبات، توصيات، ولاءات، اعتبارات، متوارثة، أو دون مراعات كل من عنصري الزمان والمكان (كما في سهولة الانتقال من لبس البنطال إلى الجلابية، وبالعكس)، والأثاث ثابت، أويتغير دفعة واحدة، بتقدير مزاجي غالباً، يتبع الطقس، أو عنصر المكايدة أو المزاحمة الزعاماتية، أما التأسيس، فمفتوح على الحياة، على المستجدات، وثمة تحول منطقي في التغير والتغيير. إن الديكورية ، باعتبارها صنعة أثاث وتأثيث ، طاقم زعاماتي، بينما التأسيس فتاريخ بداية وصيرورة، كما لو أن التأسيس مفهوم تحولي باستمرار، والصحافي الكردي مسلوب الإرادة غالباً، من قبل متزعمه، وفيه من الوهم والتوهم والفوبيا، أكثر من المستبد المعلوم به، أو يكون هو نفسه مسلّط الزعيم على نفسه، وعلى ما يتفكره، حتى لوكان في متروبولات (صاحبة الجلالة) فعلاً، تيمُناً ببداية ثابتة “مزعمنة”!
لا أعدم وجودَ الصحافي الكردي( فثمة ما حازوا شهادة صحفية جامعية معترَف بها)،ومن هم عاملون كصحافيين (وأقول كصحافيين وليس كصحفيين، تأكيد للمفهوم الدقيق)، وهذه بداهة أخرى بدورها، طبعاً، مثلما أنني لا ألغي وجود الصحافة الكردية مسبقاً، في الكم المتنوع فيها. ولكن أين هو موقع الصحافي الكردي المجاز، في مضمار تمثيل الحقيقة الأكثر حيوية في مجتمعه، وبالنسبة للأحداث التي نشهدها مجتمعياً وكردياً؟ من يتحدث باسم من، وأين هي حدود هذا الصحافي المجاز، وكيف هو وضعه الفعلي والمرصود من قبل أهليه قبل خلافهم (إنه أقل الأقل، في اعتباره موجوداً ومنبوذاً، أومهملاً)؟!
ثمة الكثير ممَّن يكتبون باسم الصحافي، وهذا من باب المجاز. وما أسهل أن يسمي أحدهم نفسه صحافياً، ويتحدث باسم الصحافي، كما هو شأن من يسمي نفسه شاعراً، وبسهولة فارطة، والإثنان في السهولة والاستسهال يتلاقيان مثلما يتبادلان المواقع، إما من الناحية القدحية أو المدحية. في الشوباشية، حين يحضر المديح، وفي التشويشية، حين يحضر القدح: الهجاء! لا بد من التمييز المهني هنا. إن التمثيل في الصحافة كردياً، مواز ٍ للتمثيل في الشعر، كلاهما يخصان اليومي والمستجد، كلاهما شديدا الخطورا كتجسيد للذاكرة اليومية والتاريخية، وفاعل حيوي في تنشيطها. إن مجمل الذين يتحدثون باسم الصحافي كردياً، لهو من باب فراغ الساحة، أو عدم وجود الصحافي المطلوب، ثمة خلط هنا. فأنا أكتب أحياناً كصحافي، ولكنني واقعاً لست صحافياً، وغالبية الكتابات الكردية، والإصدارات الصحفية الكردية، تشكلت خارج (الرحم الصحافي)، بدوافع شتى، لا تعدم أهدافاً نبيلة، ومساع حميدة، ولكنها، تظل ممهورة بسمات شخصية، واعتبارات نشر محددة، تكون دون التسمية الفعلية لما تشير إليه أو تكون قد أعلنت عنه بداية،وثمة من يصرعلى أنه صحافي، وهو أبعد ما يكون عن صنعة الصحافي في المتابعة، والإفصاح عن الحقيقة، وثمة من هو صحافي، ولكنه ناكث بعهده، خائنٌ القسمَ المقدادي، إن جاز التعبير، لحظة التذكير بالعهد الذي قطعه على نفسه، ضمناً، وهو أن يظل في خدمة قضايا شعبه، ورفع مستواه في الوعي بذاته وتاريخه. خائن ذاته، إذ يمكر بحقيقة المهنة، بالحقيقة العامة، إذ ينتحل الاسم دون التسمية. الصحافة الكردية، في الحالة هذه، تبحث عن اسمها التاريخي، اسمها الممثّل لها واقعاً!
أتحدث هنا، وبالخط العريض، عن “يوتوبيا الصحافة الكردية”، عن المكان اللامكان الذي يمكن أن يشهد وجودَ صحافة كردية، لا تكون أسيرة مناسبة، أو رهينة صوت هذا الزعيم أو ذاك، أو يستظل بظله، وهو منزوع الظل أو منقوعه، أو تابعة هذه الجهة التحزبية أو تلك، إمَّعاتية، أو متطفلة، تستخف باسمها، فيما تقدمه كمحتوى.
إن الصحافة الكردية التي شهدت ولادتها ، كما هي إطلالتها الأولى في (المغترَب- المنفى..)، أي في القاهرة، ومن خلال صحيفة (كردستان)، من قبل الراحل مقداد مدحت باشا، ولتتابع صدورَها في جنيف ومن ثم القاهرة فاستنبول..الخ،من بعده، يبدو أنها لن تستطيع متابعة هذه البداية، بالصيغة البيانية التي أفصحت عن ذاتها (عبر ملحقها باللغة الفرنسية)،وبجرأة ملحوظة، إلا إذا استطاعت استيعاب وعي البداية الواسع المدى ،وتكثف حضورها الوعيوي هذا بانتمائها الاجتماعي والثقافي المختلف في الزمان والمكان. وأن إخلاصها لهذا التمايز والتجاوز لما هو مِللي أو نِحَلي (إن جاز التعبير)، أي تكتلي وتحزبي وطائفي، بلغة الراهن، هو الذي يمنحها هذا الحضور التاريخي!
وإذا كانت الصحافة تمثل التعبير الأوفى عمَّا يحدث في تاريخ المجتمعات، وفي عالم اليوم أكثر، وما تتطلبه من مرونة هائلة، وقدرة فائقة في تغطية الأحداث الجارية، ومقاربة أوجه المختلف فيها، وبنوع من التفاني والإقدامية، أي الإيمان بالجانب المهني للعمل الصحفي، وليس الوظيفي، أي اتَباع خط (الزلازل)، إن جاز التعبير، بذاكرة( كُردسوفتية” كردية مرنة، إن استعرنا مفهوم ” ميكروسوفت”)، لتأكيد حيوية العمل، وتنامي دوره، ويعني هذا، أن الصحفي هو حارس الجبهات المتقدمة في المجتمع، الجبهات المتحركة، والتي يكون الصحفي المرئيَّ الأول فيها، ليحسن الإخلاص للحقيقة، باعتبارها تستقطب الجميع. أقول، إذا كانت الصحافة لها كل هذه المزايا (المهيوبة)، كما أظن، فإن مجمل الذين يحرسون الذاكرة هذه، بصفة رسمية معلومة، ويحاولون التعبير عنها، واعتلاء منبرها، وتحديد البداية والنهاية الاحتفاليين: الشعائريين، يقعون في الخط الأخير، خط الاحتماء بالملاجىء، تجنباً لأي مواجهة مهدّدة لهم، إنهم يمثّلون في الذاكرة هذه، أكثر من تمثيلهم لها، إنهم يخونون السلف الموسوم في المجمل، كما تقول وقائعهم، يعتمرون العمامة المقدادية دون تفكيره النشط، يحتفون باسمه، دون الإحاطة به تاريخياً وتجاوزه ضرورةً، حيث كان الجمع بين الإنتماءات الثلاثة: الديني” الإسلامي”، فالعثماني، فالكردي، هو الميزة اللافتة لما كان سائداً وقتذاك، ووعي اللحظة هذه، يتطلب دفعة حيوية هائلة إلى الأمام، وتجاوز ما يوازي ذلك: الانتماء التحزبي، العشائري، التكتلي الكردي!
إن مرور قرن ونيّف، لم تعلّم الكرد المعنيين (وأشدد على مفردة” تعلّم”)، صنوف التحولات والتحديات في التاريخ، لم تعلمهم كيفية الإقبال على الدرس المقدادي، وتأويله، ثم تدشين الدروس الأكفاً تاريخياً، لم تعلمهم التمييز بين ما هم عليه من تمزق وتفرقة في الذات الجمعية الكردية، وفي مفهوم وعي الذات الفردية الكردية، ليكون وعي الأولى هو المرجع، إنما عبر تثقيف شمولي للثانية، تفاعلياً، لم تعلّمهم التفريق بين ما كان عليه وضع السلف الأول في الصحافة الكردية، وخارجاً، وسلسلة الأوضاع المتحولة والمستجدة، لمن جاؤوا من بعد، في خانة الصحافة الكردية المتنقلة أو الرحالة لأسباب سياسية وغيرها، وفي السياق: تحولات مفهوم الصحفي الفعلي، واليوم خصوصاً، داخلاً وخارجاً.
نعم، ثمة صحافة كردية، وهذه بداهة، وثمة صحفيون كرد، وليس هذا باكتشاف، ولكن الصحافة الكردية، وفي مجمل حالاتها، وفيما تغطّيه إخبارياً وتحليلياً، افتقرت، وتفتقر إلى صفة الجلالة فيها كثيراً كثيراً. كردياً، من الصعب، إن لم يكن مستحيلاً وجود “صاحبة الجلالة”، إنما شاطبتُها، لأن ليس من وعي ثقافي مهني منفتح، كما يجب، يعتبر صاحبةَ الجلالة مع الجميع وضد أي منهم، دفاعاً عن الحقيقة التي تهم الجميع. لأن ثمة زعامة، تزعمات، استزعامات، تزعيمات كردية، لا تقبل وجود صحافة تسلّط الضوء عليها، وعلى أنشطتها. فوليُّ الأمر الكردي المأمور كثيراً في حسابات جغرافيته المستلبة، زعيم كلام، وهو يجيز من يمكنه الكلام، وفيما يجوز فيه الكلام، وهو خارج” نقد” الكلام، من موقع أبوَّته الزعاماتية. إنه مشجع على ضرورة قول الحقيقة، ولكن خارجاً، ودون تسمية. إنه الخصم اللدود للأسماء والمسميات الكاشفة،ومن يرتبط به، من يلوذ بظله، يستزعم به، ويتزعم خط جبهة عقائدية تحزبية، باسم مفوَّض من قبله، وقد يكون حائز شهادة صحافية، أو حازها بخبرة عملية ما. إن الصحافة الكردية، تنوس بين الترمل والتيتم معاً. في الترمل، حين يحاصَر من يريد ممارسة صحافية، حيث قول الحقيقة يعلو كل حقيقة فئوية أو شخصية، ويعدَم بالنبذ أو الإقصاء أو التشويه، كما لو أنه غير موجود، وفي التيتم، حين يفتقد الصحفي من يمكنه التحصن به، من يشكل غطاء لوجستياً، يسمح له بمداولة مهنته، بممارستها، حتى لو على نفسه. فهي إذاً مازالت تبحث عن اسمها الذي كان ذات يوم، وعينها على” الخارج” كما أن ولادتها المستمرة خارجية! إن المعتبَر صحافياً كردياً، هو أشبه ببائع” خردة” فقدت علامتها، إذ عليه دائماً، إذا أراد تنقلاً، أو تحركاً،ألاّ يثير يغضب الزعيم المزعوم رغم أنه محكوم بزعيم آخر يبطش فيه بأكثر من معنى: نفسي، وسياسي، وتربوي، وتاريخي، وعدوى الزعامة الكردية مستفحلة، من خلال أدوار الذات التاريخية في نسابتها العشائرية المفيرسة في مواقعها! ليس عليه أن يتعامل مع ” آلة” كاملة، بماركة معلومة، وجهة ِالصنع، وتاريخها، ومدى تقانتها، وحدود العمل بها، أو تاريخ صلاحيتها..الخ،ليكون في مستطاعه، التحرك في خطوط التمايزات الكبرى، بين دوروآخر، وأي دور هو الأكثر قابلية للقيام به تاريخياً، وفي خانة البنية الذهنية للكردي المسيطَِر على ما هو معتبَر سياسة أو سياسياً، تختلط المفاهيم ، أو الكلمات، دون التمييز بين تواريخها، وأعمارها وأدوارها، فيركَّب نص صحافي، أو هكذا يُسمى، كما هو المعهود كثيراً في كلام الزعيم (كلمة من هنا، وكلمة من هناك، دون تمييز بين مصدر هذه الكلمة وتلك، في استخفاف ضمني بالمحيطين له، بين جانب التهويل أو التعويل فيها. يمكن هنا أن يستثير سواه بكلمة مارقة، بينما هو يريد غيرها، لأن وعي المفهوم مفتَقد عنده، كما هي الآلة العجيبة حصيلة قِطع متنابذة!
أشير هنا، كذلك ، وبناء على ما تقدم، إلى الفارق الكبير والملحوظ بين كل من تأثيث الصحافة “الصحافة الكردية”، وتأسيسها! ثمة تأثيث للصحافة الكردية، أكثر بكثير، ثمة ديكور لها، والصحفي الكردي ما أشبهه بمؤثث، حيث يتحرك ضمن إطار أثاث منزلي، بكلمات محددة، منتقاة، وفق رغبات، توصيات، ولاءات، اعتبارات، متوارثة، أو دون مراعات كل من عنصري الزمان والمكان (كما في سهولة الانتقال من لبس البنطال إلى الجلابية، وبالعكس)، والأثاث ثابت، أويتغير دفعة واحدة، بتقدير مزاجي غالباً، يتبع الطقس، أو عنصر المكايدة أو المزاحمة الزعاماتية، أما التأسيس، فمفتوح على الحياة، على المستجدات، وثمة تحول منطقي في التغير والتغيير. إن الديكورية ، باعتبارها صنعة أثاث وتأثيث ، طاقم زعاماتي، بينما التأسيس فتاريخ بداية وصيرورة، كما لو أن التأسيس مفهوم تحولي باستمرار، والصحافي الكردي مسلوب الإرادة غالباً، من قبل متزعمه، وفيه من الوهم والتوهم والفوبيا، أكثر من المستبد المعلوم به، أو يكون هو نفسه مسلّط الزعيم على نفسه، وعلى ما يتفكره، حتى لوكان في متروبولات (صاحبة الجلالة) فعلاً، تيمُناً ببداية ثابتة “مزعمنة”!
لا أعدم وجودَ الصحافي الكردي( فثمة ما حازوا شهادة صحفية جامعية معترَف بها)،ومن هم عاملون كصحافيين (وأقول كصحافيين وليس كصحفيين، تأكيد للمفهوم الدقيق)، وهذه بداهة أخرى بدورها، طبعاً، مثلما أنني لا ألغي وجود الصحافة الكردية مسبقاً، في الكم المتنوع فيها. ولكن أين هو موقع الصحافي الكردي المجاز، في مضمار تمثيل الحقيقة الأكثر حيوية في مجتمعه، وبالنسبة للأحداث التي نشهدها مجتمعياً وكردياً؟ من يتحدث باسم من، وأين هي حدود هذا الصحافي المجاز، وكيف هو وضعه الفعلي والمرصود من قبل أهليه قبل خلافهم (إنه أقل الأقل، في اعتباره موجوداً ومنبوذاً، أومهملاً)؟!
ثمة الكثير ممَّن يكتبون باسم الصحافي، وهذا من باب المجاز. وما أسهل أن يسمي أحدهم نفسه صحافياً، ويتحدث باسم الصحافي، كما هو شأن من يسمي نفسه شاعراً، وبسهولة فارطة، والإثنان في السهولة والاستسهال يتلاقيان مثلما يتبادلان المواقع، إما من الناحية القدحية أو المدحية. في الشوباشية، حين يحضر المديح، وفي التشويشية، حين يحضر القدح: الهجاء! لا بد من التمييز المهني هنا. إن التمثيل في الصحافة كردياً، مواز ٍ للتمثيل في الشعر، كلاهما يخصان اليومي والمستجد، كلاهما شديدا الخطورا كتجسيد للذاكرة اليومية والتاريخية، وفاعل حيوي في تنشيطها. إن مجمل الذين يتحدثون باسم الصحافي كردياً، لهو من باب فراغ الساحة، أو عدم وجود الصحافي المطلوب، ثمة خلط هنا. فأنا أكتب أحياناً كصحافي، ولكنني واقعاً لست صحافياً، وغالبية الكتابات الكردية، والإصدارات الصحفية الكردية، تشكلت خارج (الرحم الصحافي)، بدوافع شتى، لا تعدم أهدافاً نبيلة، ومساع حميدة، ولكنها، تظل ممهورة بسمات شخصية، واعتبارات نشر محددة، تكون دون التسمية الفعلية لما تشير إليه أو تكون قد أعلنت عنه بداية،وثمة من يصرعلى أنه صحافي، وهو أبعد ما يكون عن صنعة الصحافي في المتابعة، والإفصاح عن الحقيقة، وثمة من هو صحافي، ولكنه ناكث بعهده، خائنٌ القسمَ المقدادي، إن جاز التعبير، لحظة التذكير بالعهد الذي قطعه على نفسه، ضمناً، وهو أن يظل في خدمة قضايا شعبه، ورفع مستواه في الوعي بذاته وتاريخه. خائن ذاته، إذ يمكر بحقيقة المهنة، بالحقيقة العامة، إذ ينتحل الاسم دون التسمية. الصحافة الكردية، في الحالة هذه، تبحث عن اسمها التاريخي، اسمها الممثّل لها واقعاً!
أتحدث هنا، وبالخط العريض، عن “يوتوبيا الصحافة الكردية”، عن المكان اللامكان الذي يمكن أن يشهد وجودَ صحافة كردية، لا تكون أسيرة مناسبة، أو رهينة صوت هذا الزعيم أو ذاك، أو يستظل بظله، وهو منزوع الظل أو منقوعه، أو تابعة هذه الجهة التحزبية أو تلك، إمَّعاتية، أو متطفلة، تستخف باسمها، فيما تقدمه كمحتوى.
يحتاج الكرد، رغم أنهم ” يلوكون” مصطلح العولمة كثيراً، إلى مقداد من نوع آخر، متقن ِأكثر من لغة ، بالمعنى الثقافي والسياسي معاً، بعيداً عن التشويش من ذات ” الطينة” القومية، ليؤكدوا انتماءهم الفعلي إلى تاريخ الصراع على الحقيقة، إنما باسمها، ومن خلالها. وإلى حينه، لا بد أن تستمر شعائر العزاء في الخيمة المقدادية، بوجود النواحات والندابات” الذكور” قبل الإناث، كغيرهم من فحول مجاوريهم ومناوريهم، إلى أجل غير مسمى، وإلى حينه أيضاً، تكون البقية في حياة سواهم، طبعاً، أو بالتأكيد !