17/نيسان/2008
منذ القديم والبشر متشوّقون لمعرفة العالمِ حولهم، ومتلهفون لمعرفة ما يجري حولهم من أحداثِ ربما سَيكون لها تأثيراً سلبياً أو ايجابياً على حياتِهم. ويمكن تلمس صورة الفضول والقلقِ البشريين من خلال الحكايات الشفاهية المنتشرة بين الناس والتي كانت تنتقل من مكان إلى أخر عن طريق السفر، وهذه الحكايات بدورها تعكس الوجودِ الإنسانيِ وبعض من جوانب الصراع البشري.
إن الطرق المبكّرة لإرْسال الأخبارِ التي كانت تحتوي على معلومات يقولها الناسِ وينَقلونها إلى الآخرين بَدأتْ بالكلام المنقول. والدقة في الأخبارِ كانت تعتمد على مجالِ وصف الحدثِ ومدى صلته بالمستمعِ. فالحكوماتُ القديمة طوّرتْ طرق نَقْل التقاريرِ المكتوبةِ، بدءاً من يوليوس قيصر الإمبراطورية الرومانيةِ، واستمرت في تطورها حتى الآن. هذه التقارير أصبحت سجلاً يومياً مِنْ الأخبارِ والأَفْعالِ السياسيةِ التي كانت توزع إلى المستعمراتِ الرومانيةِ في ذلك الوقت. وبَعْدَ أَنْ إنهارتْ الإمبراطوريةَ، أصبح نشر الأخبار يعتمد على حكاياتِ المسافرين، والأغاني الشعبية، والرسائل، والإرساليات الحكومية. هذه التفاصيلِ كانت تزوّد بالمصادرِ المختلفةِ مِنْ الكلام المنقولِ المدون، والذي أصبحَ مصدراً موثقاً قابلاً للتحويل.
عصر النهضة وآلة الطباعة
إختراع آلةِ الطباعة من قبل يوهانز برغ Gutenberg في 1456، أدّى إلى النشرِ الواسع للتوراةِ والكُتُبِ المطبوعةِ الأخرى. فالصُحُف الأولى ظَهرتْ في أوروبا في القرن السابع عشرِ. والنشرة الدورية المطبوعة الأولى Mercurius Gallobelgicus كَانتْ مكتوبة باللغة اللاتينيةِ، ظَهرَت في 1594 في كولون Cologne الالمانية، ووُزّعَت على نحو واسع، كما وجدت طريقها إلى القرّاءِ في إنجلترا.
الصحيفة الإنجليزيةِ الأولى المَنْشُورة بإنتظام ( كانت تتكون من 8 صفحات إلى 24 صفحةِ) . أما جريدة أكسفورد الرسميةَ Oxford Gazette (لاحقاً جريدة لندن الرسمية London Gazette التي تنشر بشكل مستمر منذ ذلك الحين وحتى الأن)، بدأت بالظَهور في عام 1665.
الصحيفة اليومية الأولى، Daily Courant ظَهرت في 1702 ونشرت بشكل مستمر لأكثر مِنْ 30 سنة. محرّرها الأول هو إمرأة والتي تعد أيضاً الإمرأةَ الأولى في الصحافةِ ، بالرغم من أنّها إستبدلتْ بعد إسبوعين فقط. في هذا الوقت، البريطانيون تَبنّوا فعلَ التقييدِ الصحفيِ، الذي ينص على تضمين اسم الطابعةَ ومكان النشر في كل وثيقة مطبوعة.
ظهور الصحافة الكردية:
بعد أن قدمنا نبذة صغيرة عن ظهور الصحافة في الغرب، نأتي الأن إلى القاء الضوء على بدايات الصحافة لدى الكرد والظروف التي ساهمت في تأخير ميلادها.[1]
تختلف بدايات ظهور الصحافة بين الشعوب، وهذا يعود إلى أسباب سياسية واجتماعية وثقافية خاصة بكل شعب. رغم أن وصول المطبعة إلى الدولة العثمانية حدث في نهاية القرن الخامس عشر، إلا أن الطباعة بلغات الشعوب الإسلامية من العرب والترك والكرد تأخر كثيراً بسبب تخلف تلك الشعوب وكذلك بسبب سياسة التجهيل التي كان يمارسها السلاطين العثمانيين. فكانت القوانين تمنع طبع أي شيء باللغتين التركية والعربية. إلا أن التفوق الثقافي الاوربي والانجازات العلمية للغرب القت بظلالها على الامبراطورية العثمانية، ودفعت بالأقليات الدينية في الدولة العثمانية إلى تأسيس مطابعها، فقد أسس الأرمن صحافتهم القومية داخل الدولة العثمانية في وقت مبكر، وفي عام 1825 ظهرت أول صحيفة في مدينة أزمير العثمانية وكانت تنشر باللغة الفرنسية، وظهرت أول جريدة باللغة التركية عام 1832 باسم (تقويمي وقايع). هذه الخطوة اكتسبت أهمية كبيرة اذ مهدت الطريق لظهور صحافة الشعوب غير التركية، التي رأت في الصحافة وسيلة فعالة ومؤثرة في الصراع السياسي، فقد كان الارمن يصدرون في كل يوم صحيفة، وينشرون مجموعة مقالات وكتابا في كل يوم.
هذه العوامل أثرت في الحياة الثقافية والسياسية للشعب الكردي مما دفعت بمثقفيهم التفكير في إنشاء صحافة خاصة بهم. إلا أن التطور البطيء في نمو الطبقة المثقفة الكردية كانت السبب الأساسي في تأخير ظهور الصحافة الكردية بالمقارنة مع الشعوب المجاورة، ولكن مع مجيء النصف الثاني من القرن التاسع أولت الحركة الكردية اهتماماً كبيراً بالتعلم والتعليم، ولاسيما أن المدارس الدينية المنتشرة في كردستان في تلك الفترة كانت تتمتع بدور بارز في نمو الحياة الثقافية للشعب الكردي، اذ تخرج من هذه المدارس علماء و مثقفون بارزون يتمتعون بالحس القومي ، … وكان التعلم في المدن الكبيرة مثل دياربكر أكثر تقدماً، وخاصةً بعد أن توطدت علاقاتها الثقافية مع العاصمة، فأصبحت تتلقى أخبار التطورات التي تحدث في أوروبا الغربية وتصل أخبارها من العاصمة وهذا الأمر كان له تأثير كبير في الفئة المثقفة الحديثة النشوء في تلك المدن. وفي هذا الاثناء برز تجمعاً للمتعلمين الكرد في مدينة استنبول، يتكون من الموظفين والطلاب الذين يعملون في المراكز العلمية والعسكرية ومنهم من سافر الى أوروبا للدراسة أو للعمل في السلك الدبلوماسي .هذه الأحداث وضع الكرد في مسارات جديدة.
فقد كان نظام السلطان عبدالحميد يقمع بشدة الحركات التحررية الكردية وحركات الشعوب الأخرى، ويعارض الصحوة القومية للشعوب التي كانت تعيش داخل الدولة العثمانية. ((فكان السلطان عبدالحميد يريد ان يستغل مسلحي العشائر الكردية ويجعلها أداةً في يده لقمع خصومه، وكان هذا هو الدافع وراء تشكيل قوة (فرسان الحميدية) ليعارض بها كل من يقف ضد رغباته الهوجاء)). .لذا لم يبق أمام قوى المعارضة مخرجاً أخر سوى أن يستغل التناقضات الانكليزية- العثمانية التي خلقت ظروفاً مناسبة في مصر لاصدار جريدة تنطق بلغات شعوب الامبراطورية العثمانية وتعادي حكم السلطان عبدالحميد المتخلف. وعلى هذا الاساس أصبحت مصر مركزاً رئيسياً للنشاط الاعلامي للقوى المعارضة داخل الامبراطورية العثمانية، بما في ذلك الحركة الثورية التركية التي كانت تمثلها يومذاك جمعية الاتحاد والترقي. وجدير بالذكر أن جريدة (اجتهاد) كان يصدرها الدكتور عبدالله جودت الكردي الذي كان يعد أحد مؤسسي حركة (تركيا الفتاة). وفي هذا المسار تحرك الوطنيون الأرمن أيضاً، إذ كانوا يصدرون صحيفة خاصة بهم من مدينة القاهرة.
هذه الأمور، بالإضافة الى تعاظم النضال القومي وازدياد ضغوط السلطات العثمانية والقاجارية، أصبحت الصحافة سلاحاً فعالاً بأيدي الشعوب المجاورة للكرد، إذ مهدت الطريق لظهور الصحافة الكردية. لكن السلطة الدموية للسلطان عبدالحميد الثاني، وأسباباً أخرى منعت أن تكون ولادة الصحافة الكردية على أراضيها، لذا اختار الكرد مدينة القاهرة لإصدار أول صحيفة كردية في التاريخ. وفي يوم الخميس المصادف للثلاثين من (ذي القعدة) عام 1315 الهجرية- التاسع من نيسان عام 1314 حسب التقويم الرومي، الموافق لـ (22) من نيسان عام 1898 الميلادية أصدر مقداد مدحت بك بدرخان أول صحيفة كردية في مدينة القاهرة وقد طبعت في مطبعة (الهلال(.
((تحتل جريدة “كردستان” مكانة بارزة في تاريخ الصحافة الكردية لا لكونها أول صحيفة كردية فقط، بل كذلك لما تميزت به من طابع ديمقراطي متقدم واضح ولما عالجت من مواضيع حيوية مختلفة باسلوب سلس رصين)). ولو تصفحنا مضامينها، نجد أنها تؤكد حقيقة أن الصحافة الكردية منذ ولادتها في ظل التعسف العثماني قد اختارت لنفسها الطريق الصحيح للنضال باختيارها أسلوب تبادل الآراء منذ العدد الأول، وقد جعلت (كردستان) التوعية والحثّ على تعلم الصناعات المختلفة شعاراً لها، فقد كانت تقدر عالياً قيمة الثقافة وتدعو الشباب إلى التعلم أسوة بالشعوب المجاورة، وكانت غالبا ما تلجأ الى اقتباس الأحاديث النبوية لحث جماهير الشعب على التعلم وحب الوطن وتذكر كيف أن التعلم هو أساس تقدم الشعوب، واليكم بعض ما ورد فيها من أقوال:
“العلماء ورثــة الانبياء”
“العلم علمان – علم الابدان وعلم الاديان”
“اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد”
“طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة”
ففي العدد الخامس نجد أن المقال ينشر تحت عنوان ذو طابع ديني مثل ((فضيلة التعلم)، وفي العدد الثامن نقرأ مقال بعنوان “هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون”، وفي العدد التاسع ثمة مقال بعنوان “رتبـة العلم أعلــى الرتب”
وكذلك يحث على حب الوطن وفق العقيدة الدينية، إذ نقرأ عنوان:”حب الوطن من الايمان” و “علو الهمة من الايمان”. وفي العدد الحادي عشر نقرأ مقالاً يدعو إلى الاتحاد بعنوان: “واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا”
كما كانت تدعو الى الوحدة والاتفاق معتمدة على الأقوال المأثورة للشاعر الكردي الكبير أحمدي خاني. وما هو لافت أن جوانب أخرى كثيرة لجريدة كردستان كانت تدعو الى إثارة مشاعر الشعب الكردي بصورة ديمقراطية، ونقرأ فيها صفحات مطولة مخصصة للأدب والتاريخ الكردي، وكانت تزين صفحاتها بأبيات ذات مغزى من ملحمة (مم و زين) للشاعر احمدي خاني .
أننا إذ نذكر صحيفة (كردستان) ينبغي لنا أن نذكر موقفين مجيدين لها:
أولهما موقفها من الأرمن إذ شن الحكام العنصريون العثمانيون حملة شرسة ضد الأرمن في تسعينيات القرن التاسع عشر وكانوا يريدون أن تكون العشائر الكردية المسلحة أدوات بأيديهم من أجل تنفيذ هذه المهمة القذرة، ولم تكن فضح هذه السياسة مهمة سهلة إذ أن الكثيرين تلطخت أياديهم بدماء الأرمن وكانت بقية الناس تراقب وتريد الاحتفاظ بمصالحها، فانبرت صحيفة كردستان بإخلاص لدعوة الشعب الكردي الى تفهم النوايا الحقيقية للسلطان عبدالحميد وأن لا يكون الكرد سببا في إبادة الشعب الأرمني الجار القديم لهم، لأن الشعبين قد اكتويا كلاهما بنار السلطان عبدالحميد وزمرته.
والموقف الثاني هو موقفها بالنسبة لتلك المؤسسة العسكرية الرجعية التي أسسها السلطان عبدالحميد من مسلحي العشائر الكردية باسم (فرسان الحميدية). كما حثت الجريدة المناضلين العرب أيضاً على أن يقفوا ضد إنشاء قوة مماثلة لفرسان الحميدية في صفوف العشائر العربية المسلحة.
كان احد أسباب حقد السلطان عبدالحميد على عبدالرحمن بدرخان هو علاقته الوثيقة بجمعية تركيا الفتاة، وهذه العلاقة تبدو جلية في المقالات التي كانت تنشرها جريدة (كردستان). وكان عبدالرحمن بدرخان احد المشاركين في المؤتمر الأول لهذه الجمعية عام 1902 والذي عقد في باريس ، وكان عبدالرحمن بدرخان ينشر أيضاً مقالات في صحيفة (عثمانلي)” الناطقة بلسان الجمعية. وعلاوة على ذلك ، فإن أعداد جريدة (كردستان) التي نشرت في أوروبا طبعت في مطابع جمعية تركيا الفتاة ويظهر اسم المطبعة علناً على تلك الأعداد.
لاشك أن البدرخانيون قد استطاعوا إيصال صحيفة (كردستان) إلى رؤساء العشائر والمثقفين بالوسائل الممكنة، ويبدو من أعدادها أنها كانت تصل الى المناطق الكردية وأجزاء أخرى من الدولة العثمانية، مما سبب في بناء علاقة وثيقة بين الجريدة والمثقفين الكرد، ويشير مقداد مدحت بدرخان في العدد الثاني من (كردستان) إلى رسائل وصلته من ( بعض الأمراء والاغوات الأكراد يطلبون منه نشر أبحاث حول (الوضع الحالي للأدب الكردي). ونشرت في الأعداد التالية رسائل وردت الى (كردستان) من أهالي مدن ماردين ودياربكر والموصل وأماكن أخرى. ونشرت في الصفحة الرابعة من العدد 63 قائمة بالنقود التي أرسلها المشتركون في الصحيفة من مدن دياربكر والسليمانية وأدنه.
ويبدو ان صحيفة (كردستان) قد اكتسبت شهرة في الخارج أيضاً، ويذكر عبدالرحمن بدرخان في العدد الثالث عشر ما يأتي: (لقد اشترك في جريدتنا منذ صدورها أجانب مثل الألمان والنمساويين والإنكليز) ويضيف أن من بين المشتركين شخصاً ألمانياً اسمه (مارتن هارتمان) يجيد اغلب لغات الشرق، وأنه يريد تعلم اللغة الكردية بالتعاون معه ولا يستبعد ان تكون الأعداد (26) المحفوظة في مكتبة ماربورك الألمانية هي نفس الأعداد التي كانت قد أرسلت الى العالم المعروف هارتمان.
ويبدو جلياً من هذه البداية أن تطور الصحافة الكردية يعتمد إلى حد كبير على مقدار الحريات الديمقراطية التي تمنحها الحكومات التي يعيش في ظلها الشعب الكردي، وهذا أيضاً هو السبب في أن أية صحيفة كردية أخرى لم تصدر في تركيا إلى أن حدثت الثورة في تركيا في عام 1908.