من نوادر المرحوم (حسن مصروع)

     بقلم: علي الجزيري 

   من منا لم يسمع بـ (حسن مصروع) ، الذي ما زال يتردد صدى نوادره وطُرفه (أو مُلحه) في العديد من مجالس الأنس في القامشلي ، ليس من باب التفكه فحسب ، بل للإعتكاز عليها والتعبير عن مكنونات النفس أوتوظيفها في أغراض شتى ، بغية نقض منظومة القيم الايديولوجية المروجة للفساد أو تلك التي تدعو الى رفض الآخر ـ المختلف (أي الكردي) وتهميشه ، والتي  يُراد ترسيخها بأي ثمن.

   ولا بأس من العودة الى إرث المذكور ، وإقتطاف واحدة من طرفه التي ما زال الرواة يتناقلونها بشغف منقطع النظير ، لأنها لا تخلو من سرعة البداهة والذهن المتوقد والدلالات الموحية .
   يُحكى أن أحد الطلبة كاد أن يفصل من المدرسة لغيابه المتكرر عنها ، فأبلغه المدير بضرورة إحضار ولي الأمر في أسرع وقت للتباحث في أمره ، وحين تعذر على المسكين إبلاغ والده ، حيث كان يسكن في قرية نائية ، فاتح أحد زملائه بورطته تلك ، والتي لا تُحمد عقباها ، خصوصاً إذا ما تناهى الى مسامع الأب تلك الحكاية ، فأشار اليه زميله بضرورة الاستنجاد بحسن مصروع ، فهو بمثابة الدواء لكل داء  . عزم الصديقان على مفاتحته ومصاحبته الى إدارة المدرسة وتقديمه كولي للأمر ، وفوجئا بموافقته وطيبة قلبه ، ولما قابل حسن مصروع مدير المدرسة وسمع منه ما سمع ، وأبدى له المدير عن الغيظ الذي يكابده نتيجة تسلل الطالب خلسة من فوق سور المدرسة ، ردَ حسن مصروع بلهجة الواثق : الحق عليكم يا أستاذ …. فصعق المدير لإجابته ، وتساءل : وكيف يا عمي ؟.

   حينئذ أجابه حسن مصروع بكل هدوء : لأنكم تغلقون الأبواب ، فلا تستغربوا أن يتسلق الطلاب الأسوار ! ..
   ما من شك أن دلالة المروية السالفة الذكر ، توحي لكل ذي بصيرة ـ في ظل الوضع السائد ـ بوجود أزمة خانقة على أكثر من صعيد في واقعنا ، بحيث لا ينفع في ظلها لا الترقيع ولا الحلول الجزئية ، وبات الأمر يستدعي التخلي عن سياسة الاملاءات والتهميش ، التي تمارسها أجهزة الدولة الأمنية بحق المواطن ، وفي مقدمتهم أبناء شعبنا الكردي ، على الطالع والنازل .
   من هنا يمكن أن نفهم لماذا كانت النوادر أكثر حضوراً في الوعي الجمالي لعامة الناس وأكثر قدرة كجنس أدبي شفاهي في تصوير الواقع المزري ، فهي الوسيلة المثلى للتنفيس عن هموم الناس المقموعين وأوجاعهم ، في ظل الأنظمة الشمولية .
   أجل ، فإن ما لايمكن قوله علانية : [هو ما تتولى الحكاية التعامل معه ، ومن ثم فإن الحكايات مخزن نسقي مهم ، نجد فيها المضمر والمجاز الكلي ، لا الفردي ، ونجد فيها الخلاصة الثقافية بما في الثقافة من هواجس وما فيها من رغبات مقموعة] ( النقد الثقافي / قراءة في الأنساق الثقافية العربية ـ عبدالله الغذًامي ـ المركز الثقافي العربي ـ ط (1) عام 2000 م ـ المملكة المغربية / الدار البيضاء  و لبنان / بيروت ـ الصفحة 207) .
   قد يخطر ببال أحدهم تلك المقولة التي يرددها كالببغاء أصحاب الإمتيازات اليوم ، أعني 🙁 ضرورة إحترام القانون ) ، لكن ليس من شيم الرجال الخضوع للقوانين الجائرة كما يقول البارزاني الخالد . فأي قانون ذاك الذي يمنع أبناء شعبنا الكردي مثلاً أن يقرأوا أو يكتبوا بلغتهم الأم ، ثم يراد منهم أن يحتكموا بموجبه ، في حين ترى أقليات (كالسريان والأرمن) يُسمح لها بفتح مدارس بلغاتها القومية وإقامة مهرجانات أغانيها وأسابيعها الثقافية في المراكزالرسمية ، ناهيك عن فرقها ونواديها ومنتدياتها وصالاتها الرياضية ؟ .
   وأي منطق يقبل بأن يقوم (د . صلاح كناج) محافظ ريف دمشق بإفتتاح مركز تعليم اللغة الآرامية في معلولا  عام 2004 م ، ويمنع الكرد من مركز مماثل ؟ (جدير ذكره أن الآرامية لغة محكية في ثلاث قرى في ريف دمشق هي : معلولا وجبعدين والصرخة ، يقطنها ما يزيد عن 16 ألف نسمة) .
   أرجو ألا يفهم من كلامي بأنني ضد حقوق أخوتنا السريان والأرمن أو ضاق بي الصدر لإفتتاح المركز المذكور ، فقد عانى أولئك المسيحيون من محيطهم ما عانوه ، إنما المقصود مما ورد آنفاً أن ينال الكرد في سوريا حقوقهم القومية ، بما في ذلك الثقافية ، أسوة بالآخرين ، سيما وأن الكرد يشكلون القومية الثانية في البلاد ، وعددهم لا يقل عن ثلاثة ملايين على أقل تقدير .
   وأيَُ هراء هذا الذي يسمح بتدريس ( العبرية والتركية والفارسية والانكليزية والفرنسية والروسية والألمانية … الخ ) في الجامعات والمعاهد والمدارس ، ويمنع تدريس الكردية فيها ؟ .
   فالمقهورون الكرد ، من الصعوبة بمكان أن يستمروا في العيش على هذا النحو ، من هنا تراهم يخرقون تلك القوانين (أو القيود) البالية التي أكل عليها الدهر وشرب ، فيعقدون ندواتهم في الأقبية ، متحدين في ذلك حرمة القوانين الجائرة التي تحد من حريتهم ، وينكبون على دراسة تاريخهم ، ويتابعون القنوات الفضائية التي تتلمس معاناتهم بكل حرص ، ويكتبون في مواقع الإنترنيت حيث يتسنى لهم الوقت ، ويصدرون دورياتهم من جرائد ومجلات ، في ظل الحصار الذي تفرضه السلطة وفي ظل الصمت المزري للرأي العام العربي ، ولسان حالهم يقول : لا ، لن نقبر ولن نستكين لسياسة الأمر الواقع ، التي لا تنصاع لحقائق التاريخ ولا تتخذ منها العبر .
   أقول لكل من آثر الصمت أو إنساق وراء ايديولوجيا الوهم التي أسست لسلوك غير إنساني أو ديمقراطي  تجاه الكرد في سوريا ، إن حناجركم التي تهدر في الدفاع عن قضايا شعوب في مجاهل إفريقيا وآسيا وأمريكا اللآتينية ومآقيكم التي تذرف الدموع على إمرىء قضى نحبه في غابات الأمازون ، لن تشفع لكم حرصكم على إبداء هذا الصمت إزاء مأساة شعب عانى شظف العيش معكم على مدى قرون ! …      
15-2-2008
ciziri@gmail.com

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

دريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…