هلان روباري
انتهت كويستان من إعداد خبز التنور الشهي، وتجهيز طعام الإفطار لوالدها وأختها الصغرى، وانصرفت لترتيب ملابسها، فجلبت عباءتها السوداء، وضمته لحضنها، فهو آخر شيء يذكّرها بوالدتها التي توفيت قبل ثلاث سنوات في حادث قتل غامض.
انتهت كويستان من إعداد خبز التنور الشهي، وتجهيز طعام الإفطار لوالدها وأختها الصغرى، وانصرفت لترتيب ملابسها، فجلبت عباءتها السوداء، وضمته لحضنها، فهو آخر شيء يذكّرها بوالدتها التي توفيت قبل ثلاث سنوات في حادث قتل غامض.
تنهدت كويستان بحرقة، وحملت عباءتها متوجهة الى باب القلعة الكبير، حيث اعتادت الجلوس هناك كلما أحست بالضيق والحزن. راحت كويستان تتلمس بيديها الصغيرتين الحجارة التي بنيت منها هذه القلعة الشامخة المجاورة للمنارة القديمة، فكل حجرة منها لها ذكرى خاصة في قلبها، فقد قضت سبعة عشر عاماً بين جدران هذه القلعة التي لم تنقطع عنها الحياة أبداً.
وفجأة سمعت صوتاً مزعجاً قطع عليها خلوتها بنفسها، ولكنه صوت مألوف، إنه صوت بقرتهم العجوز، وها هو والدها المتعجرف الذي لم تشعر يوماً بحنانه وعطفه يجر البقرة خلفه، مبتعداً ومتجاوزاً أسوار القلعة، حتى إنه لم يلحظ وجود كويستان هناك، لقد خرج والدها مبكّراً اليوم، ولن يعود إلا مساءً كعادته، وهي أنهت جميع واجباتها. ومازال الوقت مبكّراً على استيقاظ أختها الصغرى.
عادت كويستان إلى المنزل، ووقفت أمام المرآة لبرهة تتأمل تقاسيم وجهها الطفولي وبشرتها الحنطية المائلة للسمرة، وتتلمس شعرها الأسود المسترسل، وتعيد النظر في عينيها البنيتين البراقتين، وفجأة خطرت ببالها فكرة، لماذا لا تخرج لرؤيه هيوا؟ فقد اشتاقت له كثيراً، ولم تره منذ أكثر من شهر.
قذفت كويستان حجراً صغيراً على سطح بيت هيوا الكائن في الجوار، فتلك هي العلامة المتفق عليها بينهما إذا رغبا في الالتقاء، فإن رد هيوا عليها بحجر مماثل فذلك يعني أنهما يستطيعان أن يلتقيا، جلست كويستان تنتظر الرد على أحر من الجمر، وما هي إلا دقائق واذا بحجر يقذف على سطح بيتها، كاد قلبها يطير من الفرح، وهرعت إلى الأسفل لتجهز نفسها، فكحلت عينيها، ووضعت بعضاً من أحمر الشفاه، ثم مسحت القليل منه بيدها، وأخيراً لفّت جسدها الطويل الممشوق بعباءتها السوداء، وفي طريق خروجها أخذت معها دلو ماء فارغاً.
أخذت كويستان تمضي في طريقها ونبضات قلبها تسبق خطاها، وما هي إلا دقائق حتى وصلت إلى بئر الماء، إنهما تعوّدا اللقاء هناك كلما سنحت لهما الفرصة، وتعمّدت أن تملأ الدلو وتفرغه عدة مرات ريثما يأتي هيوا، وما هي إلا ثوانٍ إذ بهيوا وصل أيضا وهو مبتسم وحامل لها في جعبته خبراً ساراً؛ فقد وافق أبوه أخيراً على أن يخطبها له حسب العادات والتقاليد.
ألقى هيوا التحية على كويستان، وتبادلا أطراف الحديث، وكانت وجنتا كويستان قد أحمرتا من شدة الخجل، ولربما من أشعة الشمس الحارقة، أخبرها هيوا أنه اشتاق إليها كثيرأ، وكان مشغولاً في الفترة الماضية بجمع بعض المال، كي يخفف عبء نفقات العرس عن والده قليلاً، وإنه لم يعد يطيق الانتظار.
وفجأة تغيرت ملامح كويستان، فهناك أحد ما يحمل دلواً ويتوجه إلى البئر، إنها جارتهم الثرثارة زريان، شهقت كويستان:
– يالهي!! أحدهم قادم!
– ماذا؟!
– انظر ها هي زريان قادمة! اذهب فوراً قبل أن تراك معي.
– لن أرحل حتى تعطيني وعداً بأن ألقاك اليوم ليلاً.. هناك أمر مهم أريد أن تعرفيه، ثم لا تنسي أنني اشتقت إليكِ كثيراً.
– اليوم؟!.. لكن كيف؟.. ومتى؟ –
– عند الثانية عشر ليلاً، سأنتظرك في الفناء الخلفي تحت شجرة التوت، وإن لم تأتي سأحزن كثيراً، ولربما سنفترق لا تنسي الثانيه عشرة، شجرة التوت.
عادت كويستان إلى المنزل وصوت هيوا لم يفارقها، وظلت طوال فترة الغداء تقَّلب فكرها للقاء هيوا – أألقاه أم لا؟ وماذا لو علم أبوها سوران المعروف بجبروته وقساوته! ولكن كيف له أن يعرف؟ إنه سيعود منهكاً وسينام باكراً كعادته. وهي لن تتأخر في لقاء هيوا كثيرأ، فقط عشر دقائق لا أكثر، ثم تراجعت كويستان عن الفكرة، وقالت مخاطبة نفسها: لن أذهب. وها قد حان وقت الغروب، واقتربت ساعة اللقاء وهي لم تقرر بعد.
وبسرعة خَيَّمَ الظلام على التلة التي تعتليها القلعة، وأوى السكان إلى بيوتهم، وأخلدوا للنوم بعد يوم شاق، وأصبح الجو هادئاً، وها هو ذا القمر يشعّ ببريقه على نباتات القصب الممشوقة وهي تتمايل على نسمات الهواء، إنه جو ساحر حقاً، والساعه تناهز الثانية عشرة، استجمعت كويستان قواها وقررت الذهاب للقاء هيوا، فألقت نظرة أخيرة على أبيها، فوجدته مستغرقاً في النوم، فجلبت لحافاً وغطته به، ثم تسللت بحذر وتركت الباب نصف مغلق، وتوجهت مسرعة إلى الفناء الخلفي بعد أن تأكدت من خلو الطريق، ودقات قلبها تتسارع من شدة الخوف، وهناك وجدت هيوا جالساً تحت شجرة التوت، ينتظرها وهو يقلب شيئاً بين يديه.
وصلت كويستان وهي تتنفس بصعوبة، وقالت:
– كاد قلبي يخرج من صدري، لقد خفت كثيراً.
– لا تقلقي يا حبيتي، لن نخاف بعد الآن.
وجلسا تحت ظلال شجرة التوت المعمّرة الكبيرة، ثم وضع هيوا شيئاً في يد كويستان، وأطبق يدها عليه، ومضت دقائق وكل منهما يتأمل الثاني في صمت هادئ، وتبادل العاشقان حديثاً طيباً بصوت خافت، ولم يشعرا بالوقت يمضي وكأنهما يعيشان في عالم آخر، وضعت كويستان رأسها على كتف هيوا وغفت قليلاً، ومرت عقارب الساعة بسرعة، فالساعة تناهز الرابعة صباحاً.
وفجأة استيقظت كويستان على صوت أبيها الشجي وهو يصرخ: كويستان!..كويستان!.. أين أنت أيتها البلهاء؟! إنه استيقظ ليصلي صلاة الفجر، وعلى صوته القوي استيقظ كل أهل الحي في القلعة، أحست كويستان أن قدميها لا تحملانها، وشلّت حركتها من كثرة الخوف، استجمعت قواها، لكن بعد فوات الآوان، فها هو مامْ سفين قد رآهما، وكذلك زوجته زريان الثرثارة.
وماهي إلا ثوان قليلة حتى وصل أبوها إلى الفناء الخلفي على صوت مشادة كلامية بين زريان وكويستان، وبدا أبوها وقد فقد السيطرة كلياً على نفسه:
– يا ابنة الـ…، ماذا تفعلين هنا في مثل هذا الوقت مع هذا السافل؟ أتريدين أن تلطخي شرفنا بالتراب أيتها الـ…؟! يا بنت اللئيمة، هذا ما ورثته من أمكِ الـ…؟! منذ متى وأنت تستغفلينني وتلتقين مع هذا الوغد؟
اقترب والدها منها، وانهال عليها بالضرب المبرّح، ثم شدها من شعرها وجرها خلفه، تماماً كما يجر بقرته العجوز، وحاول هيوا الاقتراب منه، وإنقاذ كويستان من قبضته، لكن الرجل الغاضب التقط حجراً من الأرض، وضربه به رأس الشاب العاشق وأفقده الوعي، ثم ألقى بكويستان في الحظيرة، وتوجه الى البيت، وجلب بارودة صيد، وماهي إلا ثوان حتى استقرت طلقة في قلب كويستان الصغير، وظلت تنزف حتى ساعات الصباح الأولى، وآخر ما فعلته أن فتحت يدها لترى الخاتم الذي وضعه هيوا في يدها، وأغمضت عينيها إلى الأبد.
عادت كويستان إلى المنزل، ووقفت أمام المرآة لبرهة تتأمل تقاسيم وجهها الطفولي وبشرتها الحنطية المائلة للسمرة، وتتلمس شعرها الأسود المسترسل، وتعيد النظر في عينيها البنيتين البراقتين، وفجأة خطرت ببالها فكرة، لماذا لا تخرج لرؤيه هيوا؟ فقد اشتاقت له كثيراً، ولم تره منذ أكثر من شهر.
قذفت كويستان حجراً صغيراً على سطح بيت هيوا الكائن في الجوار، فتلك هي العلامة المتفق عليها بينهما إذا رغبا في الالتقاء، فإن رد هيوا عليها بحجر مماثل فذلك يعني أنهما يستطيعان أن يلتقيا، جلست كويستان تنتظر الرد على أحر من الجمر، وما هي إلا دقائق واذا بحجر يقذف على سطح بيتها، كاد قلبها يطير من الفرح، وهرعت إلى الأسفل لتجهز نفسها، فكحلت عينيها، ووضعت بعضاً من أحمر الشفاه، ثم مسحت القليل منه بيدها، وأخيراً لفّت جسدها الطويل الممشوق بعباءتها السوداء، وفي طريق خروجها أخذت معها دلو ماء فارغاً.
أخذت كويستان تمضي في طريقها ونبضات قلبها تسبق خطاها، وما هي إلا دقائق حتى وصلت إلى بئر الماء، إنهما تعوّدا اللقاء هناك كلما سنحت لهما الفرصة، وتعمّدت أن تملأ الدلو وتفرغه عدة مرات ريثما يأتي هيوا، وما هي إلا ثوانٍ إذ بهيوا وصل أيضا وهو مبتسم وحامل لها في جعبته خبراً ساراً؛ فقد وافق أبوه أخيراً على أن يخطبها له حسب العادات والتقاليد.
ألقى هيوا التحية على كويستان، وتبادلا أطراف الحديث، وكانت وجنتا كويستان قد أحمرتا من شدة الخجل، ولربما من أشعة الشمس الحارقة، أخبرها هيوا أنه اشتاق إليها كثيرأ، وكان مشغولاً في الفترة الماضية بجمع بعض المال، كي يخفف عبء نفقات العرس عن والده قليلاً، وإنه لم يعد يطيق الانتظار.
وفجأة تغيرت ملامح كويستان، فهناك أحد ما يحمل دلواً ويتوجه إلى البئر، إنها جارتهم الثرثارة زريان، شهقت كويستان:
– يالهي!! أحدهم قادم!
– ماذا؟!
– انظر ها هي زريان قادمة! اذهب فوراً قبل أن تراك معي.
– لن أرحل حتى تعطيني وعداً بأن ألقاك اليوم ليلاً.. هناك أمر مهم أريد أن تعرفيه، ثم لا تنسي أنني اشتقت إليكِ كثيراً.
– اليوم؟!.. لكن كيف؟.. ومتى؟ –
– عند الثانية عشر ليلاً، سأنتظرك في الفناء الخلفي تحت شجرة التوت، وإن لم تأتي سأحزن كثيراً، ولربما سنفترق لا تنسي الثانيه عشرة، شجرة التوت.
عادت كويستان إلى المنزل وصوت هيوا لم يفارقها، وظلت طوال فترة الغداء تقَّلب فكرها للقاء هيوا – أألقاه أم لا؟ وماذا لو علم أبوها سوران المعروف بجبروته وقساوته! ولكن كيف له أن يعرف؟ إنه سيعود منهكاً وسينام باكراً كعادته. وهي لن تتأخر في لقاء هيوا كثيرأ، فقط عشر دقائق لا أكثر، ثم تراجعت كويستان عن الفكرة، وقالت مخاطبة نفسها: لن أذهب. وها قد حان وقت الغروب، واقتربت ساعة اللقاء وهي لم تقرر بعد.
وبسرعة خَيَّمَ الظلام على التلة التي تعتليها القلعة، وأوى السكان إلى بيوتهم، وأخلدوا للنوم بعد يوم شاق، وأصبح الجو هادئاً، وها هو ذا القمر يشعّ ببريقه على نباتات القصب الممشوقة وهي تتمايل على نسمات الهواء، إنه جو ساحر حقاً، والساعه تناهز الثانية عشرة، استجمعت كويستان قواها وقررت الذهاب للقاء هيوا، فألقت نظرة أخيرة على أبيها، فوجدته مستغرقاً في النوم، فجلبت لحافاً وغطته به، ثم تسللت بحذر وتركت الباب نصف مغلق، وتوجهت مسرعة إلى الفناء الخلفي بعد أن تأكدت من خلو الطريق، ودقات قلبها تتسارع من شدة الخوف، وهناك وجدت هيوا جالساً تحت شجرة التوت، ينتظرها وهو يقلب شيئاً بين يديه.
وصلت كويستان وهي تتنفس بصعوبة، وقالت:
– كاد قلبي يخرج من صدري، لقد خفت كثيراً.
– لا تقلقي يا حبيتي، لن نخاف بعد الآن.
وجلسا تحت ظلال شجرة التوت المعمّرة الكبيرة، ثم وضع هيوا شيئاً في يد كويستان، وأطبق يدها عليه، ومضت دقائق وكل منهما يتأمل الثاني في صمت هادئ، وتبادل العاشقان حديثاً طيباً بصوت خافت، ولم يشعرا بالوقت يمضي وكأنهما يعيشان في عالم آخر، وضعت كويستان رأسها على كتف هيوا وغفت قليلاً، ومرت عقارب الساعة بسرعة، فالساعة تناهز الرابعة صباحاً.
وفجأة استيقظت كويستان على صوت أبيها الشجي وهو يصرخ: كويستان!..كويستان!.. أين أنت أيتها البلهاء؟! إنه استيقظ ليصلي صلاة الفجر، وعلى صوته القوي استيقظ كل أهل الحي في القلعة، أحست كويستان أن قدميها لا تحملانها، وشلّت حركتها من كثرة الخوف، استجمعت قواها، لكن بعد فوات الآوان، فها هو مامْ سفين قد رآهما، وكذلك زوجته زريان الثرثارة.
وماهي إلا ثوان قليلة حتى وصل أبوها إلى الفناء الخلفي على صوت مشادة كلامية بين زريان وكويستان، وبدا أبوها وقد فقد السيطرة كلياً على نفسه:
– يا ابنة الـ…، ماذا تفعلين هنا في مثل هذا الوقت مع هذا السافل؟ أتريدين أن تلطخي شرفنا بالتراب أيتها الـ…؟! يا بنت اللئيمة، هذا ما ورثته من أمكِ الـ…؟! منذ متى وأنت تستغفلينني وتلتقين مع هذا الوغد؟
اقترب والدها منها، وانهال عليها بالضرب المبرّح، ثم شدها من شعرها وجرها خلفه، تماماً كما يجر بقرته العجوز، وحاول هيوا الاقتراب منه، وإنقاذ كويستان من قبضته، لكن الرجل الغاضب التقط حجراً من الأرض، وضربه به رأس الشاب العاشق وأفقده الوعي، ثم ألقى بكويستان في الحظيرة، وتوجه الى البيت، وجلب بارودة صيد، وماهي إلا ثوان حتى استقرت طلقة في قلب كويستان الصغير، وظلت تنزف حتى ساعات الصباح الأولى، وآخر ما فعلته أن فتحت يدها لترى الخاتم الذي وضعه هيوا في يدها، وأغمضت عينيها إلى الأبد.
* رحيل الملائكة: قصة قصيرة، نشرت في مجلة “الصوت الآخر” العدد: (215) 22/8/2008