عشر من أيلول المنصرم يقول الفنان الكردي مجو كندش أنه تعلم الغناء مع تعلمه الكلام! و هذا صحيح إلى حد كبير. فأنا و باعتباري من نفس المدينة التي نشأ فيها الفنان الكردي القدير مجو كندش أعرف أن الصوت الجميل كان موهبة متوارثة في العائلة و أعرف أن الفنان الراحل باران كندش و هو شقيق الفنان مجو كان لا يقل موهبة عن أخيه خاصة في الأغاني التي تحمل عبق التراث الكردي و سحر ملاحمه و أساطيره المغناة و المتوارثة جيلاً بعد جيل.
كان الصوت الجميل و العذب إذاً موهبة وراثية في العائلة تماماً مثل لون العينين و البشرة. و لم يغب عن سمع مجو كندش أبداً سماع أصوات غنائية رجالية لها مقامها و هيبتها و احترامها الكبير في سهل سروج الكبير الذي تشقه سكة الحديد التي تصدر عليها عجلات قطار الشرق السريع صريراً حاداً و هي متجهة إلى بغداد قادمة من اسطنبول في السحيق الغابر من زمان السكك الحديد. السكة الحديد استطاعت إذاً أن تشق ذلك السهل الفسيح كقطعة جبن طري إلى نصفين و تفصلهما بحقول من الألغام و الحرس و الأشباح التي تهرب التبغ و الشاي عبر الحدود. بطبيعة الحال لا ينسى المهربون من كل طرف أن يحملوا في جيوبهم اسطوانات لمغنين شعبيين من طينة باقي خدو و مشو بكه بوري و آخرين و يجلبونها معهم في كل رحلة تهريب. كانت الموسيقى و الأغاني أيضاً تهرب إذاً عبر الحدود لتصل إلى مسامع من يجب أن تصل إليهم فتصقل موهبتهم و تزيدهم إحساساً بجمال الأغنية الكردية التراثية.
كان في كوباني مجموعة من المغنين الأشبه بالشعراء الجوالة التروبادور الذين عجت بهم اسبانيا و بعض بلاد أوروبا في القرون الوسطى و كان لهؤلاء التروبادور الكوبانيين حظوة كبيرة لدى سادة كوباني و حكامها من سلالة آل شاهين فتصدروا مجالس الإمارة و ألهبوا خيال السامعين في ليالي كوباني بسلسلة من ملاحم الكرد مثل ممى آلان و سيامند و خجى و درويش عفدي إلخ…..
كان هؤلاء يقدمون فناً أصيلاً و لا يأبهون بمتاع الدنيا, لا يتقاضون مقابل الغناء شيئاً سوى ما يسمعونه من أفواه الرجال من صيحات استحسان(تاو….. تاو) تزيدهم وهجاً على وهج في ليالي الشتاء الطويلة.
في هذا المناخ الموسيقي و بالاتكاء على هذه التجارب الفذة نشأ الفنان مجو كندش و التقط بحسه المرهف الشيفرة السرية للغناء الأصيل. و بالرغم من غياب أي مبادرة جادة لدعم الغناء الكردي في وطن لا يأبه حتى بشيئ اسمه اللغة الكردية استطاع مجو كندش أن يشق طريقه بمفرده في الظلام! نعم في ظلام الأحزاب و متاهاتها و دهاليز السلطة القامعة للإبداع الأصيل و استطاع أن يحتل لنفسه موطئ قدم راسخة في الغناء الطربي مستفيداً من إقامته في مدينة حلب العريقة و الشهيرة بأنها منبع الطرب الأصيل. هناك مضى الفنان كندش قدماً فتعلم الغناء على أصوله و صقل موهبته أكثر فأكثر و عرف أن للموسيقى مقامات و أوزاناً تضبطها و طبق كل ذلك على صوته الشجي لتتراكم خبرته و معرفته أكثر و تختلط المخيلة الموسيقية بروحه المتمردة ليس على المجتمع فحسب بل على قوانين الغناء التي استلهمها من أسلافه في كوباني. فلم يستطع قبول أن يغني بمفرده مصحوباً بآلة واحدة مثلاً. بل اتجه إلى الغناء بصحبة أكثر من عازف و أكثر من آلة.
فرقة تختصر كردستان و احتفاء دولي:
و لما استقر به المقام في اوروبا استطاع أن يحقق حلمه في بناء فرقة موسيقية يشرف عليها و ترافقه في الغناء قتشكلت فرقته التي تجمع الطيف الكردي الموسيقي بكل تشظياته السياسية و تجمع الحلم الكردي الذي فرقته السياسة و حطمته الحدود فبات يرافقه على العود كوران كامل من كردستان العراق و كمال جيلان من كردستان تركيا يرافقه على آلة الصرناي و البالابان و فاروق سوران من كردستان العراق على الكمان و عباس بختياري من كردستان إيران على الدف . و بهذه الخلطة الموسيقية الكردستانية استطاع مجو كندش اختصار وطنه و توحيده و الوصول إلى أهم المهرجانات الموسيقية حاملاً اسم كردستان في قلبه و قلب فرقته فجال بفرقته و موسيقاه و اغانيه دولاً عدة من أهمها ألمانيا و أمريكا و اسبانيا و و فرنسا ليشارك باسم كردستان في هده المهرجانات و تمكن من الحصول على الجائزة الثانية في مسابقة الأغاني الدولية( بابل ميد) و استطاع بذلك أن يجمع ما فشل السياسيون في جمعه ليثبت قوة الموسيقى و سلطتها الخلاقة . و قد كان آخر نشاط موسيقي اشترك فيه الفنان مجو كندش بفرقته الكردستانية هذه أمسية موسيقية غنائية نظمتها بلدية باريس في السابع و العشرين من أيلول الفائت حيث لقيت الأغاني التي غناها الفنان كندش استحسانا كبيرا من الجمهور الفرنسي و ازدانت شوارع باريس بالافيشات و الملصقات التي تعلن عن الامسية و تحمل اسم كردستان و صدى الموسيقى لتلفت بال الجمهور إلى وطن يغني بالرغم من مآسيه و محنه . و باستطاعة القارئ سماع جزء من الأغاني في الروابط في حاشية المقال.
غياب محزن عن الساحة الكردستانية:
ما يحزن بالفعل هو غياب هذا الصوت الأصيل عن المهرجانات التي تنظمها القوى الكردية سواء في كردستان تركيا أو في كردستان العراق أو حتى في أوروبا حيث يعيش الفنان مجو كندش غير بعيد. فالمعروف أن كثيرين ممن يفتقدون الموهبة يدعون إلى تلك المهرجانات لمجرد علاقات شخصية تربطهم براعي المهرجان. و في اعتقادي فإن وجود فنان مثل كندش هو الذي سيعطي المهرجان قيمة إضافية و زخماً قوياً و سيضخ في شرايينه دماء كردية أصيلة و ليس العكس. ما يحزن هو صعود نجم الأغنية الهابطة التي تشمئز منها أسماعنا و نبقى مضطرين لسماعها و مشاهدة ما يرافقها من كليبات تافهة و متخلفة و ساقطة فنيا و المحزن بالفعل هو أن الصوت الأصيل يزاح جانباً لكي يتم إفساح المجال للإسفاف و الابتذال و هنا لا بد لنا من رفع الصوت مطالبين بحقنا في سماع ما هو نظيف و أصيل قبل أن تتلوث أرواحنا حتى الأعماق.
– هنا يمكن الاستماع إلى حوار مع كندش في راديو فرانس موزيك بالاضافة إلى حوار بالفرنسية. و في الروابط الأخرى عناوين يمكن سماع الأغاني من اليوتوب و الاطلاع على خبر الحصول على الجائزة الثانية من لجنة بابل ميد العالمية:
http://www.radiofrance.fr/francemusique/em/couleurs/emission.php?e_id=14
http://www.dock-des-suds.org/babelmedmusic2006/index_eng_2006.htm