استطاع الكثير من الكتاب المسرحيين، بدءاً بأسخيلوس ومسرحيته الفرس الرائدة في هذا المجال، وليس انتهاءً بالكتاب المعاصرين، تقديم مسرحيات تاريخية متفاوتة المستوى ،من ناحية البناء الفني والفكري.وذلك من خلال التقيد، أو مراعاة قواعد وشروط معينة مثل: الالتزام بالخطوط العامة للمادة التاريخية، ومماثلة المادة الممسرحة مع الواقع الحالي،أحداثاً وشخصيات،وعدم تزييف المادة التاريخية بقصد التزيين أو التشويه..
غير أن هذه الحرية، وحرية الكثير ممن أبدعوا في هذا المجال، اقتصرت على التخلص من هيمنة وسطوة التاريخ، لا التحرر من المادة التاريخية الحقيقية، كما تفعل المسرحية التاريخية المتخيلة- موضوع بحثنا- فهذا النوع من الكتابة المسرحية يأخذ من التاريخ شكله وطابعه، دون التزام بالحدث والشخصية التاريخية الحقيقية، ولا يقتصر الأمر هنا على غياب الشخصية التاريخية ،أو الحدث التاريخي الحقيقي، بل يتعداه إلى مكان الحدث وزمنه، فالزمن في المسرحية التاريخية المتخيلة معاصر، وواقعي بامتياز، بعكس الزمن في المسرحية التاريخية الذي يكون عادة مرتبطاً بالماضي ارتباطاً موثقاً، وحقيقياً، يشير إليه الكاتب صراحة في مقدمة العمل،أو يظهره في حوار النص بشكل يناسب وينسجم مع زمن الحدث والشخصية التاريخية الممسرحة، وذلك على الرغم من الحيوية التي يضفيها الكاتب عادة على عمله،بقصد ضمان تواصلها مع المتلقي المعاصر. وما ينطبق على الزمن ينطبق على المكان أيضاً، لأن المكان في المسرحية المتخيلة مكان غير محدد،أو لا مكان، إن صح التعبير، فهو مكان موح، أو رمزي، أو مشفر في المسرحية، وارتباطه بالمكان الجغرافي المعين مرتهن بموضوع ومقولة وأحداث العمل،وبالشخصيات وحواراتها أيضاً،التي تشير بطرف خفي إلى مكان واقعي وحقيقي،كما تشير،وتدل على زمنها،والذي هو ،كما أشرت،زمن غير سابق على زمن كتابتها، بل هو معاصر. و لعل لجوء هذا النوع من المسرحيات، الواقعية والمعاصرة، إلى ارتداء مسوح التاريخ، وطاقية الإخفاء التاريخية، يتعدى الجانب الجمالي، بقصد التجريب أو بقصد الإبهار،بل لكسب المزيد من الحرية للحراثة في حقول مزروعة بالألغام السياسية ، وغير السياسية.
وزيادة في الإيهام، الفكري والجمالي، يلجأ بعض الكتاب إلى تطعيم مسرحياتهم بأحداث، أو شخصيات تاريخية،أو تراثية حقيقية،مثل شخصية علي بابا في مسرحية علي بابا والأميرة شمس النهار للكاتب عبد الفتاح قلعجي. وجحا في مسرحية جحا باع حماره لعلي بدران.
وعلى الرغم من الجرأة التي تسم هذا النوع من الأعمال، ومعاصرتها، وتميز بعضها جمالياً، إلا أنها قلما تجد التجاوب المأمول الذي يسعى إليه الكاتب، وذلك بسبب التعامل المجرد مع الزمان والمكان والشخصيات، والتجريد في المسرح يتجاوز الرمزية التي يهدف إليها الكاتب، فيتحول إلى إبهام، والإبهام في المسرح، وفي كل الحقول الإبداعية، يعجز عن تحقيق الإيهام والتواصل مع المتلقي، على العكس من المسرحية الواقعية، الأقل جرأة منها، والمسرحية التاريخية الحقيقية، الأبعد زمناً عن زمن هذا النوع الإبداعي.
وسنتناول في هذا المقال أربع نصوص مسرحية من هذا النوع التاريخي المتخيل ، لبعض الكتاب السوريين،هم الكاتب والباحث :عبد الفتاح قلعجي،ود.علي سلطان و الدكتور حمدي موصللي والكاتب هيثم يحيى خواجة.
حفل خاص على شرف الوالي – للدكتور حمدي موصللي
في هذه مسرحيته (حفل خاص على شرف الوالي) يدعونا المؤلف إلى حضور حفل ختان الوالي زيدون ,والي بلاد كفرون, ليس من أجل تقديم التهاني, أو المشاركة في الغناء و(الطبل والزمر), بل لتأمل هذه المهزلة, التي تحدث في زمان ومكان شخصيات هذه الحكاية,والتي ما زالت تتناسل بازدياد, على الرغم من توهمنا بما تعانيه من عقم أو عنة.
حكاية المسرحية لا تتكئ على نص تاريخي معين, بل تنتمي إلى زمن تاريخي متخيل، و المسرحية موزعة على لوحة خاصة وثلاثة فصول، تعرض اللوحة الخاصة حفل ختان الوالي, كاشفة لنا نسيج العلاقات المهترئة التي تسود القصر,وتربط بين الشخصيات,والتي مهدت لوال عنين تبوأ كرسي الولاية, المرهون برضى زوجة الوالي نفسه؛ خاتون بنت خال السلطان عبدون بن عباد, وعينه على الوالي.يقود مهرج الوالي الصراع في الخفاء, فيسرق تمثال السلطان, ويبيح مستودعات الميرة للعامة, ويدس السم لماشية الوالي,الأمر الذي يثير غضب الوالي ويهز أركان سلطانه, بيد أن هذا الغضب لا يترجم إلى فعل, ويظل الوالي أسير شكوكه التي تدور حول المهرج مرة ،وحول أعوانه مرة أخرى, إلى أن يقتحم المهرج (المقنع) قاعة الوالي, ويسخر منه و يهدده ويعريه من شرواله و قمبازه وخاتم الولاية ثم يغادر المكان لتدخل الحاشية – أعوان الوالي – الوزير والقاضي وصاحب الشرطة، فتفاجأ بمنظر الوالي العاري, وقبل أن يعري ميمون كل واحد من هؤلاء بمكر ودهاء؛ تتبادل هذه الشخصيات الاتهامات الشنيعة, لتبعد شبهة العداء للوالي عن نفسها,وحين يعود المهرج مرة أخرى ويستلم شراويل هذه الشخصيات من نديم الوالي ميمون, تدخل خاتون وتعلن على الجميع المهرج – عشيقها في السر – والياً جديداً بدل زوجها زيدون العنين، وتكتمل هذه المهزلة بفرمان سلطاني يؤكد إعلان خاتون,بحجة أن البلاد في عهد زيدون قد كثرت فيها المصائب, وحل فيها الفساد,هذا الفرمان السلطاني يحيلنا إلى العهد العثماني,والنص لا يخلو من إشارات عديدة إلى هذه الفترة من : أسماء ومفردات ومرجعية سياسية. هذه الحكاية – المسخرة – كما يصفها المؤلف,داعياً إلى عدم تصديقها, تجري أحداثها في مكانين اثنين فقط,هما قصر الوالي وسراي الحكومة,هذا الاقتصار على هاتين المساحتين,هو للسخرية من شخصيات هذين المكانين, المؤلفة من علية القوم, على العكس من شروط أرسطو التي استبعدت شخصيات هذه الفئة عن الكوميديا, بيد أن هذه الدلالة السياسية والفكرية التي رمى إليها المؤلف, بعزله العامة عن ساحة الأحداث تماماً، والاكتفاء بشخصيات وأحداث وهموم المكانين المذكورين,لم تحقق الغاية نفسها درامياً, فالتواجد الدائم لشخصية الوالي في المشاهد كلها, غيب الطرف أو القطب الثاني للصراع,المتمثل بالعامة, أو من يمثلها فكرياً, وبالمهرج درامياً, وفوت علينا فرصة تعرفنا عليها من خلال أفعالها. أو مونولوجاتها, أو حواراتها، بعيداً عن شخصية الوالي. لذلك ظلت شخصية المقنع المجهولة الهوية بالنسبة إلى شخصيات المسرحية مجهولة بالنسبة إلينا أيضاً، على هذا المستوى أو ذاك, الأمر الذي غيب إلى حد غير هين – العلاقات الجدلية في النص-فإذا استثنينا شخصية خاتون (المدورة) والحيوية, فإننا نكاد لا نعثر على شخصية أخرى في النص، تتضارب إرادتها وتتباين مواقفها وتختلف وجهات نظرها ومصالحها مع الوالي, أو مع الشخصيات الأخرى, إلى المستوى الذي يطور الفعل ويبلور الصراع ويرتقي به. فشخصية شيخ الكار (المختلف) لم تستطيع أن تحقق إلا حضوراً باهتاً, وكذلك الوزير والقاضي وصاحب الشرطة.أما المهرج- الذي فاجأنا بما أقدم عليه من أفعال دون تبرير فكري أو درامي مقنع – لم يحدد المؤلف لشخصيته أية أبعاد نفسية واجتماعية وجسدية ،سوى تلميحات بسيطة أضمرها المؤلف في الحوار مع خاتون عشيقته؛ كما أن شخصية الوالي نفسها,لم تسلم من التناقص والاضطراب على مستوى الفعل والحوار، فهي ساذجة وعفوية تارة (المشهد 1-الفصل 1) وذكية وماكرة تارة ثانية (المشهد 1-الفصل 3) وهي عادلة وغير عادلة في الوقت نفسه، عادلة بنقدها تقرير الوزير المزور عن أحوال الرعية, وسخريتها من طلب السلطان بزيادة الهدايا, وغير عادلة , بل مستبدة بإرساله النساخ إلى الخازوق بسبب قراءته تقرير العامة, التي تشرح فيه أحوالها المزرية , هذا الأمر انعكس على الحوارات أيضاً , وعلى حوار الوالي خاصة , الذي ينزاح نحو العامية مرة،ونحو الرطانة التركية مرة ثانية( وي.وي.عفارم,أخو حفبانه..ص 36) إضافة إلى بعض السجع الوارد في بعض الحوارات..هذه الانزياحات ربما لجأ إليها المؤلف بغية إضفاء الحيوية والمرونة ومسحة من السخرية على الحوار،وربما قصد منها أيضاً إحداث التغريب اللفظي لكسر الإبهام والخروج عن إطار الحكاية, كما فعل في تعليقاته على مشاهد النص,هذه الانزياحات أخلِّت بهارمونية وانسجام الحوار في أكثر من مكان,وملاءمته للشخصية, والذي لم يصاحبه الفعل في بعض المشاهد ، بل وصفه وشرحه (المشهد 2-الفصل1) وإلى ما يشبه النقاش في مكان آخر (المشهد 1-الفصل 3) عدا ذلك فإننا نجد الحوار في المشاهد الأخرى حيوياً,والجملة مكثفة ومركزة.ذات نكهة ساخرة,من النوع الذي يسهل على الممثل نطقه.والمؤلف مدرك تماماً لهذا الجانب الهام ،فهو مخرج أيضاً, وصاحب تجارب إخراجية عديدة. في النص العديد من الرموز والدلالات الموظفة في نسيج النص بذكاء,ودون إقحام أو خلل درامي, كرباط الشراويل لدى حدوث أمر هام,وظاهرة تجسس الشخصيات على بعضها البعض كما هو الحال في الأنظمة المستبدة, وتحول الصراع في مجلس الأعيان إلى مهزلة نتف الشوراب، من أجل الحمير،لا من أجل الرعية والوطن. إنها مسخرة كما يصفها المؤلف, لا يسعنا إلا تصديقها,على الرغم من لا واقعيتها، لأنها ممكنة الحدوث في ولايات ولاتها لاهون عما يحدث لرعيتهم ،كالوالي زيدون . ما يلفت النظر في هذا النص أيضاً غناه بأجناس تعبيرية عديدة من :قصائد وأغان وأمثال شعبية ونصوص دينية,أفسحت لنا مساحة رحبة لتأمل هذه المهزلة في نص كوميدي طريف.
الكتاب : حفل خاص على شرف الوالي .
المؤلف : د. حمدي موصلي .م
منشورات : اتحاد الكتاب العرب سنة 2001 _
عدد الصفحات : 130 صفحة –قطع وسط
المدينة الموبوءة – للكاتب هيثم يحيى خواجة :
ما يزال صراع الحاكم والمحكوم العربي غائب في ساحة الإبداع، على الرغم من حضوره الفاعل، والمركزي في الساحات الحياتية الأخرى.وما يزال المبدع الذي يتجرأ على تناول هذا الصراع بالذات؛ يلجأ إلى إخفاء إبداعه ومقاصده بشتى الوسائل، أو الأساليب المموهة، كي ينجح في عبور حواجز الحاكم ويصل إلى المتلقي.ويمكننا تقسيم هذا النوع من الإبداعات إلى إبداعات مبهمة، وإبداعات أخرى أقل إبهاماً.
وتعتبر مسرحية (المدينة الموبوءة) للكاتب المسرحي هيثم يحيى الخواجة؛ التي تناولت هذا الصراع بجرأة، من الإبداعات الأقل إبهاماً إلى حدًّ ما. تعالج المسرحية حكاية مدينة أبتلي سكانها بوباء أشبه بتلك ا للعنة التي أصابت مدينة طيبة في مسرحية (أوديب ملكاً)، وهو خازوق يخترق أجسادهم الواحد تلو الأخر، يبدأ بالعامل والفلاح والموظف، ثم يستمر بالانتشار حتى يصيب الجميع –العامة والخاصة-دون أن يستثني حاكم المدينة نفسه. حكاية المسرحية تنتمي لزمن تاريخي متخيل، هو – في حقيقة أمره – الزمن العربي الوحيد الذي تتوفر فيه حرية التعبير بجرأة ووضوح. استمد الكاتب هذه الحكاية من قصة (الخازوق الداخل في السلطان) للكاتب التركي الساخر عزيز نسين.تتوزع المسرحية على لوحتين اثنتين: تبدأ اللوحة الأولى بحوار يدور بين عامل ومسؤول وهما داخل مصعد يدوي، يعلو المصعد ويهبط بشكل يتناغم ومضمون حوار هما المشحون بتوتر درامي وفكري يشي بانفجار قادم:
المسؤول : لماذا تفعل ذلك ؟
المسؤول : لأنك لا تثق بي ، سأريك من أنا .
العامل: أرأيت ؟ تريد استخدام سلطتك
المسؤول : عليكم الخضوع لأوامرنا ما دمنا مسؤولين . (ص 8)
ويستمر هذا الحوار على الرغم من انتهاء هذه اللوحة، لتكمله هاتان الشخصيتان في نهاية المسرحية، وإن بتوتر وصراع أقل .وتبدأ اللوحة الثانية بمشهد يضم الراوي ورجلين اثنين(رجل 1ورجل 2)، يرسم الحوار الدائر بينهم ملامح الجو غير الصحي الذي يسود قاع المدينة من: كذب، وتفاهة، وإذلال.. وهو مشهد درامي منفصل عن نسيج حكاية المسرحية، أراد به المؤلف تعميق فكرة العمل، وعصرنتها. تبدأ حكاية المسرحية بدخول الرواة الذين يشاركون الراوي رواية حكاية المدينة التي أصابها الوباء، والتي نسي التاريخ اسمها، أو غابت عن ذاكرته –حسب وصف الراوي والعامل والفلاح والموظف –رواة الحكاية، وأولى ضحايا وباء الاستبداد. وقد حقق الكاتب بهذا المشهد هدفين: فكري، وفني، وبأسلوب جدلي منسجم، تجسد في اختياره رواة حكاية المسرحية من أبناء الطبقة الاجتماعية المسحوقة، وفي دمجه زمني الحكاية والرواية: الزمن الماضي والزمن الحاضر. وهي لعبة درامية ذكية وموفقة، وذلك بالرغم من الإرباك الذي أصاب حوار هذا المشهد. تبدأ حكاية المسرحية بدخول العامل وهو يصرخ ويستنجد من ألم خازوق اخترق جسمه، فيلتقي بالفلاح الذي يستغرب –بداية- ادعاء العامل، ويرفض تصديقه، ثم يرفع هو الأخر صوته بالشكوى من ألم المصاب نفسه، ويتكرر هذا مع الموظف والحارس، والمسؤول… وتستمر عدوى الخوزقة بالانتقال من مواطن إلى آخر حتى تصل إلى علية القوم، وحاكم المدينة أيضاً، الذي يتهم كل من يجهر بما أصابه من ألم؛ بالمؤامرة، والتمرد، لا يفرق في ذلك بين خاصة، أو عامة، وعندما يخترق جسده الخازوق نفسه، لا يجد سوى أهل المدينة يطلب منهم المساعدة. لا شك أن فكرة المسرحية جريئة، وحيوية، وهي تأخذ منحىً ديمقراطياً، وتؤكد على مفهوم مُغيب هو: لا وطن حر إلا بمواطنين أحرار– حسب فولتير – وعلى حقيقة أخرى مفادها: إن السلطة التي تقهر مواطنها، ستجد من يقهرها، أو(يخوزقها). لقد سعى الكاتب من أجل إبراز هذه الفكرة الحيوية، والمعاصرة، إلى التركيز بشكل رئيس على الحدث، واختزال الشخصيات إلى أنماط، بلا اسم، أو أبعاد(عامل.حارس عالم..) بقصد إبعاد المتلقي عن الإيهام، و الاندماج في عالم الحكاية وشخصياتها، وإفساح المجال له للتأمل والتفكير، ولقد كان استخدام الراوي، وكتابة مقدمة وخاتمة
دراميتين؛ محاولة لتحقيق هذا الهدف، والتي لم تؤت ثمارها كاملة، بسبب التزام الكاتب بترتيب الأحداث، وتنسيقها، وانتقالاتها وفق النسق الخاص بتقنية القص، إلى جانب استخدامه رمزاً مستهلكاً مثل الخازوق، والاكتفاء به قطباً وحيداً في معادلة الصراع: بحركته الواحدة، والمستقيمة، والآلية، دون عناية بالقطب الأخر في هذه المعادلة، والمتمثل بالشعب، الأمر الذي دفع بالكاتب إلى الاستعاضة عن هذا العنصر المركزي؛ بصرا عات صغيرة اتخذت شكل انتقالات، وقفزات سريعة، مما كان له الأثر الواضح على وحدة الصراع في المسرحية، وعلى فكرة العمل أيضاً. إذا كان تنميط الشخصيات هو ما يلجأ إليه مسرح يعنى بالحدث، فأن ذلك لا يعني تحويلها إلى مجرد أصوات، أو رجع صدى لأفكار الكاتب، الأمر الذي نلاحظه في تكوين بعض الشخصيات، مثل شخصية المرأة التي تتحدث بمنطق لا يناسبها:
هدار: أين هو الآن ؟
امرأة: ينظف القاع من البشر، يريد أن يغتصب الأرض ويذيب الأدمغة.
هدار: قلت لك أين هو ؟
امرأة : في الشمال والجنوب والشرق والغرب ،في كل مكان ،لم يعد يقنع بالمكان الذي هو قيه..(ص 51)
ونجد ذلك أيضاً في شخصية الرجل التي تدخل في نهاية المسرحية، وتحاور الحاكم المستبد بجرأة غير مسبوقة، طالبة منه أن يتعرى، وينتقد نفسه. كشرط لتخليصه ومدينته من ألم الخازوق. دون أن يشير الكاتب إلى هوية هذه الشخصية المجهولة، والمعجزة، والتي تدخل وتخرج بشكل غير مبرر. ومن الملفت للانتباه تشابه هذا المشهد، والحوار الدائر بين الحاكم وهذه الشخصية، مع مشهد أوديب والعراف تريسياس، في مسرحية –أوديب ملكاً– لسوفوكليس:
هدار: من المعيب أن تطلب تعرية إنسان.
الرجل: قف فوق هذا المرتفع –يقف- وأعلن عن تاريخك، وسيرتك، وأفعالك،
(ساخراً ) وهذا يكفينا.
هدار: لا تهمكم سيرتي. فأنا لست من هنا. (؟؟)
المجموعة : لست من هنا ؟
الرجل : صار ضرورياً أن تتعرى ، إنها الطريق إلى معرفة مصدر الوباء. (ص56 )
لاشك أن الاستفادة عملية مشروعة في مجال الإبداع، شريطة اندغام المادة المقتبسة في نسيج العمل الإبداعي، الأمر الذي غفل عنه كاتبنا في هذا المشهد بالذات فذهب في استفادته من مشهد أوديب والعراف إلى الحد الأقصى، ودرجة المطابقة التامة، ويظهر ذلك من خلال اعتراف هدار للرجل بأنه ليس من هنا، وهي حقيقة لم تشر إليها المسرحية قط. ويشكل ذكرها، والإقرار بها: إساءة، وتشويهاً لمقولة العمل، التي تدين استبداد الحاكم المحلي، وليس اغتصاب واستعمار الأجنبي.ولا يقتصر اضطراب الكاتب على هذا الأمر، بل يشمل الدور المزدوج، والمتناقض،للحرب، التي أشعلها وحش، طغى، وبغى –كما تذكر المرأة لهدار –و يأكل أكباد الأطفال (ص51) وهي نفسها (تطهر) المدينة من وباء الاستبداد، أو الخازوق. لا شك أن المسرحية تستحق وقفة أطول من هذه العجالة،لحيوية موضوعها وجرأتها. إنها عمل إبداعي آخر يحدث ثقباً في جدار الصمت العربي.
الكتاب: المدينة الموبوءة
الكاتب: هيثم يحيى الخواجة
الناشر: دار الثقافة والأعلام .الشارقة
الطبعة الأولى 2003
مسرحية جزيرة الليل الأحمر – للدكتور علي سلطان :
في صياغته للعنوان،لا يكتفي المبدع عادة بما يعبر عن مضمون نصه، أو يوحي به بتكثيف وتركيز شديدين،بل يحاول ربط دال العنوان بمدلوله الموجود في ذهن وأفق توقع المتلقي.في هذه العملية،أو اللعبة التي باتت مكشوفة وآلية لدى بعض المبدعين، يحدث أن يوسم مبدع ما نصه بعنوان دال على مضمون مخالف،وربما مناقض لمدلوله التقليدي الكائن في وعي المتلقي، وذلك بقصد يتجاوز الإبهار والفذلكة ،إلى هدف يسعى إلى خلخلة،وتحريك ما هو ثابت وساكن في الذهن،على هذا الصعيد، يمكن اعتبار مسرحية (جزيرة الليل الأحمر) للدكتور علي سلطان واحدة من النصوص التي يلعب العنوان فيها دوراً تغريبياً،وصادماً،يخالف داله الذي ارتبط في ذهن المتلقي بما هو ماجن (الجزيرة كمكان منعزل وجميل،والليل كزمن لفعل ما هو مخالف، والأحمر كصفة لكل ما هو مثير) مضمون المسرحية الأخلاقي-الوطني.ترتكز هذه المسرحية الفانتازية ذات النمط التاريخي المتخيل-مكاناً وزماناً وشخصيات-على حكايتين اثنتين،تنفصلان زمنياً بداية،وترتبطان فيما بعد، وتتزامنان في علاقة منطقية ودرامية محكمة،تمهد الأولى للثانية في انتقال من العاطفي إلى السياسي على مستوى الحكاية،والداخلي إلى الخارجي على مستوى الموضوع ومقولة النص.بعد تمهيد مناسب للإطار التقليدي للمسرحية الموزعة على ثلاثة فصول،يتم من خلاله التعرف على حياة جزيرة فرداس الفاضلة، التي يسودها العدل والرفاه والإخاء،وعن سبب تبديل اسمها إلى جزيرة الليل الأحمر،وذلك في احتفال يقيمه القصر بمناسبة حلول الذكرى الثامنة عشرة لهبوط النور الأحمر، وميلاد الأميرة ريمين ابنة ميراس ملك الجزيرة،وشباب آخرين (سيرين و روزين ابنتا سجاس, وسومار ابن الصياد ناسار) الجيل الجديد الذي ولد في هذا اليوم التاريخي والمبارك، والذي أثار حدوثه المفاجئ هلع جميع أهالي الجزيرة،أعقبه خير عميم.بعد هذا التمهيد،وفور انتهاء الحفل،تبدأ الحكاية الأولى،حكاية حب سومار وسيرين، بطلب سومار سيرين خطيبة له،وبرفض هذا الطلب من قبل جميع أفراد الحاشية الملكية،باستثناء آجاد القاضي العادل والذكي، بحجة الفارق الطبقي والاجتماعي الكبير الذي يفصل بين عائلة سيرين الغنية والمقربة من الملك،وعائلة سومار الفقيرة،غافلين عما جمع تاريخ الجزيرة الجديد بين الحبيبين من وحدة حال تتجاوز الفارق الطبقي، هذا الخرق من قبل القصر،سيمهد ويؤسس لتجاوز آخر أشد خطورة،لا يقتصر على الجانب العاطفي،أو الطبقي ،بل سيشمل أمن ووجود الجزيرة نفسها، وذلك في علاقة درامية ومنطقية مدروسة يرتبط السبب فيها بالنتيجة، ولن يكتفي القصر بهذا الظلم ، بل سيستمر من خلال فعل الأميرة ريمين ابنة الملك، التي ستنسج خيوط مأساة العاشقين، بتدابير ومكائد ترسخ الفصل بينهما، تبدأ بتزويج سيرين،وعلى يد الملك، من شاراد رئيس الشرطة في البلاط الملكي،وإرغام سومار على التسلل كل ليلة إلى جناحها في قصر والدها الملك، الأمر الذي سيحصر دائرة الصراع في هذه الحكاية في فعل الثلاثي المؤلف من (سومار، وسيرين، وريمين) مثلث زواياه وأضلاعه في حالة دائمة من التجاذب والتنافر،يمثل فيه سومار ابن الشعب القطب المركزي بالنسبة للضلعين الآخرين، أو الزاوية التي تنحرف تارة بحب نحو هذا الضلع ، وتنحرف تارة أخرى بخوف وريبة نحو الضلع الآخر، تتجاوز بعدها مأساة العاشقين مساحة هذا المثلث لتشمل الجزيرة كلها، العامة من سكانها بشكل خاص، المغيبة في الحكاية،والغائبة قولاً وفعلاً في النص، فحين تصاب هذه العامة بلعنة التفكك والانحلال غير المسبوقين في تاريخها،لا تتجلى هذه اللعنة في أفعال وأقوال من يمثلها في النص، مثل سومار، أو والده ناسار، بل ترد كخبر على لسان الشخصيات الملكية،وحديث القاضي أجاد،الذي يجيب عن سؤال الملك الأوديبي عن سبب هذا اللعنة، بشجاعة العراف تريسياس وبصيرة زرقاء اليمامة:
آجاد:.. إن هذه الأمور غير الطبيعية التي نراها تحدث الآن فقد بدأت تظهر بعد زواج سيرين بشاراد،أرجو ألا تغضبوا، لقد شاع منذ ذلك اليوم بين الناس إن ظلماً قد وقع على سيرين وسومار، وإن هذا الظلم قد فرضه مولاي الملك، والملوك والحكام مرايا كبيرة يظهر عليها أقل غبار،ولذا فإن الناس يرتضون لأنفسهم ما ارتضاه الحكام والملوك، والأمر الخطير هنا،إن كل الناس يقلدون ملوكهم وحكامهم، فخطيئتهم تُعد بأكثر من ألف خطيئة، وهكذا تشيع اللامبالاة والظلم والخصومة، وإذا استمر الحال ازداد التفكك حتى درجة الانحلال)ص92
بهذه الإجابة، أو التقويل الذي سيتكرر على لسان هذه الشخصية، يختزل الكاتب فلسفة الحكم، أو علاقة المحكوم بالحاكم، بربط صلاحية المحكومين،أو فسادهم، بسياسة وطبيعة شخصية الحاكم،يتجلى ذلك هنا، في اكتفاء الملك الذي عرف حقيقة ما حدث، بتوبة ابنته غير الصادقة، أو المخلصة، وعدم فقء عينيها أو نفيها خارج المملكة، حرصاً على سلامة العرش من التشويه، أو الضياع، واللجوء إلى عدالة شاعرية توفيقية، ساوت بين الجاني والمجني عليه، بين فعل الأميرة ريمين المسيء، والظالم، وفعل سومار المقهور، والمغلوب على أمره، وذلك بفعل يناسب شخصية الملوك واقعياً، ولا يناسب شخصية هذا الملك درامياً ، لما تتصف به شخصيته المركزية والرئيسية من: سماحة وطيبة وعدالة ولافاعلية، بل وسذاجة،تجلت بشكل جلي في أفعالها وأقوالها، وقد لعب هذا التناقض، إضافة إلى مونولوجاتها الطويلة، دوره في إضعاف البناء الدرامي للحكاية والشخصية على حد سواء،،وأفقد الصراع الدرامي قدرته على تطوير الحدث،وتفاعل الشخصيات، وإدامة التشويق ونجدده، وذلك على الرغم من التوتر الدرامي الذي استثمره الكاتب بشكل مناسب في أكثر من موضع من هذه الحكاية، التي سيخفت لهيبها وتتوارى ، دون انتهاء، أمام الظهور القوي للحكاية الثانية، التي سيكسبها اختلاف أماكنها، وتناقض إرادات وأهداف شخصياتها، وضوحاً وتمايزاً وغنى.
تتحدث الحكاية الثانية عن سفينة غريبة كانت قد رست منذ زمن على شاطئ الجزيرة، فلم يولها الملك وحاشيته الاهتمام اللازم، بسبب طغيان أحداث الحكاية الأولى من ناحية، واعتياد الجميع على مثل هذه الزيارات من ناحية أخرى، تكشف هذه السفينة عن وجود ثلاث شخصيات(الأب هاد، والابن رادن، والابنة جيلار) تزعم أنها عائلة ذات أصول ملوكية قديمة، فيدعوها الملك إلى الهبوط على أرض الجزيرة، وزيارة قصره، يلبي الأب هاد والابن رادن هذه الدعوة، وتبقى الابنة جيلار في السفينة، ويبرر الأب هاد ذلك للملك بخوف ابنته من كل ما يتعلق بالنار من لون، أو اسم، مصدره حريق، أو محرقة قديمة، شاهدتها الابنة في صغرها وهي تلتهم أخاها، وقد تلتهمها في المستقبل حسب نبوءة عرافة عجوز، وتدعم جيلار هذا الإدعاء بحركات وانفعالات مصطنعة تظهرها أمام الملك وحاشيته كلما أتى أحدهم على ذكر اللون الأحمر، الأمر الذي يدفع الملك الذي صدق هذه الحكاية الملفقة، و تعاطف مع الفتاة الجميلة، وأغرم بها، إلى إصدار فرمان يقضي بالتخلي المؤقت، ثم الدائم، عن اسم الليل الأحمر،والعودة إلى استخدام فرداس، اسم الجزيرة القديم، بمباركة وتأييد جميع أفراد الحاشية، واعتراض القاضي آجاد،الذي يرفع صوته باعتراض غير مسموع.
آجاد: لم يعد (الليل الأحمر) مجرد اسم، بل أصبح تاريخاً لنا، لا يمكن التخلي عنه، وأصبح لنا إيماناً عميقاً بتاريخ ومصير هذه الجزيرة وسكانها، وأصبح ناظراً لحياتنا وعاداتنا و تقدمنا وخيرنا، فإن تخلينا عنه فقد تضيع قيمنا، وتفلت من أيدينا الأمور، لأن من يتخلى عن إيمانه مهما صغر فهو لا يتمسك بإيمان آخر مهما كان ومهما كبر، ولا ننسى إن الناس يعلمون كل شيء، فإذا ما عرفوا إننا تخلينا عن الليل الأحمر أدركوا على الفور قلة إخلاصنا لهذا الإيمان والنظام والتاريخ.(ص147-147)
ولا يلقى تحذير آجاد، مثل زرقاء اليمامة،سوى سخرية القوم، بعدها تبدأ خيوط مؤامرة هذه العائلة بالوضوح، متوسلة المال والنساء والخداع (وسائل وادعاءات، وممارسات ، وأسماء.. تشير بوضوح إلى اليهود والتاريخ الحديث لفرداس، أو فلسطين) ومستفيدة من أحداث الحكاية الأولى النائمة ، ومن القهر الذي أصاب أبطالها، فتوقظها، وتدفع شخصياتها نحو أزمات ومصائر تخدم أهدافها،تبدأ بعدها الأحداث بالتعمق من خلال صراع درامي يتحدد ويتبلور بشكل أكثر وضوحاً وفعالية مما كان عليه في الحكاية الأولى- شخصيات وأمكنة، حيث كانت السفينة مقابل القصر، ثم الجزيرة مقابل شاطئ البحر- صراعاً داخلياً لم يتجاوز شاطئ البحر ليتحول في الحكاية الثانية إلى صراع داخلي-خارجي يزداد خطورة عندما يتم استثمار الثغرات الداخلية من قبل ما هو خارجي، كانت البداية بتخلي الملك وحاشيته عن اسم الجزيرة الجديد والمبارك، ثم اتجه نحو شخصيات الداخل المأزومة، ضحايا الحكاية الأولى التي ترتب لها هذه العائلة لقاء مدبراً-يجمع في السفينة بين العاشقين سومار وسيرين، دون اتفاق، أو معرفة مسبقة من قبلهما، يُستدعى بعدها، وبدهاء، شاراد زوج سيرين ليشاهد هذا اللقاء المدبر، وتنجح المؤامرة في الإيقاع بالجميع ، ويكون الملك الذي أحسن الظن بالدخلاء وأساء إلى العاشقين في الحكاية الأولى، الضحية الأولى لهذه المؤامرة، فيُقتل على يد شاراد زوج سيرين ورئيس الشرطة في الجزيرة، وذلك بعد أن أوهمته جيلار، التي تزوجها الملك، بحبها العاصف له، وبهدف استثمار هذه الجريمة تعرض على القاتل التعاون مع عائلتها لحين استقدام دخلاء جدد لاحتلال وامتلاك الجزيرة. يحدث ذلك كله في حركة فعل سريعة وإيقاع مدروسين، يصاحب الحوار الفعل، على الرغم مما يشوبه من سردية،وطول،ويتعمق الحدث بلغة أنيقة قابلة للتمثيل، لما توفره هذه اللغة من إمكانية الحركة والتعبير عن الشخصيات، يتعمق ذلك كله، ويتسارع أكثر،حين تكتشف الأميرة ريمين، التي كانت قد تزوجت برادن ابن هاد ، جريمة قتل والدها على يد شاراد ، وبتحريض من زوجته جيلار وعائلتها الدخيلة، فتفر من باب الحب الذي كان يدخل منه، أو يتسلل إلى جناحها الشاب سومار، الباب الذي يضمن لها النجاة، في ربط واضح بين الحب والنجاة، وبنجاة ريمين ووصولها إلى القاضي آجاد، يقرر هذا القاضي العادل والمخلص الهجوم على القصر وتحريره من الدخلاء بدعم من الصيادين الفقراء ، الذين يتغلب الهم الوطني لديهم على الهم الطبقي. بهذه الروح الوطنية، وبفضل وعي آجاد ، ينتصر سكان الجزيرة، وتتحقق العدالة المنشودة،الضمانة الوحيدة لسلامة وحماية الوطن، فيتم حل مجلس الملك القديم، وتعيين آخر مكانه، مؤلف من الصيادين هذه المرة، وليس من السادة، لأن الصيادين، وحسب قول آجاد: (هم كل شيء، الأول والأخير) وتعود سيرين إلى حبيبها سومار، ويتم تنصيب هذا القاضي العادل ملكاً على الجزيرة ،التي يعود إليها اسمها القديم والمبارك، جزيرة الليل الأحمر، بعد أن كادت تفقد أمنها ووجودها بسبب فقد القصر، الذي ضحى بالعدالة والتاريخ والنظام، تواصله مع من يمثله من سكان الجزيرة ، ومع كل ما يجعل منه مركزاً لها، وبالمقابل انتصرت الجزيرة على أعداء الخارج حين انتصرت لهذه القيم والثوابت.. في تأكيد على علاقة جدلية سليمة بين ما هو داخل الوطن وخارجه.
اسم الكتاب: جزيرة الليل الأحمر.
الكاتب :د. علي سلطان.
دار المسيرة-بيروت-1978
علي بابا والأميرة شمس النهار- للكاتب : عبد الفتاح رواس قلعه جي :
ما يزال الكثير مما يكتب للطفل من صنوف الإبداع أسير عقلية اجتماعية متخلفة، تُعيد إنتاج تخلفها من خلال تربية وصائية، وعظية، تلقينية، لا ترى في الطفل سوى بعده الفيزيولوجي الصغير. وإذا كان هذا النوع من الإبداع قد استطاع الاستمرار حتى اليوم في بعض المجتمعات المقهورة خاصة، فذلك لأن الطفل فيها ما يزال ذلك الكائن الصغير، والتابع ، والعبد لمن يلقنه حرفاً . غير أن تبدل الأزمان، قد غيَّر الأحوال، فأصبح التوجه نحو الطفل- تربية وإبداعاً- يحتاج إلى معرفة طبيعة شخصيته، واحترام خصوصيتها. هذه الحقيقة التي يتجاهلها العديد من مبدعي أدب الطفل، استطاع المسرحي السوري المعروف عبد الفتاح قلعه جي أن يمتلكها ويطوعها باقتدار في مسرحيته (علي بابا والأميرة شمس النهار) بأسلوب ممتع ومقنع.
تتحدث حكاية المسرحية عن أزمة تعيشها مملكة الأسرار التي يحكمها ملك لاه وشره اختطف وحش اسمه (الدردبيس) ابنته الأميرة شمس النهار ليزوجها لابنه (كسيلون)، فيغرق القصر ومن فيه في حزن مظلم وكئيب، وتخفق محاولات الملك لإنقاذ ابنته، وذلك بسبب اعتماده على قادة جبناء لا تظهر بطولاتهم إلا أمام أبناء شعب المملكة المقهور. ويأتي الحل على يد الفتى علي ويأتي الحل على يد الفتى علي بابا،ابن الشعب الذي ينتصر على العدو، ويحرر الأميرة من الأسر ،بفضل ما تسلح به من علم ومعرفة، إضافة إلى إخلاصه لشعبه، وحبه للأميرة شمس النهار. لقد ساهم استخدام الكاتب لشخصيات وأشياء مستمدة من عالم التراث مثل: شخصية علي بابا والملك والمهرج ، والمارد، والغول، والقمقم ..الخ، التي تعتبر من أهم مكونات عالم الطفل الحكائي،ساهم في بناء حكاية مسرحية قادرة على استيعاب ومعالجة موضوع كبير بحجم الصراع العربي – الإسرائيلي،والذي يُدين فيه الكاتب طرفي الصراع ،الحاكم العربي المستهتر وأعوانه الظلمة :الملك(شهرمان) والقائدان (دندان، وعقربان) ، والعدو الغاصب :الوحش (دردبيس) وابنه (كسيلون). ولقد توسل الكاتب لتحقيق غرضه هذا بعض عناصر الإبهار والتشويق المحببة للطفل مثل: الألعاب، والأغاني، والأحاجي..وغيرها، التي لعبت دوراً في إيصال المعلومات المفيدة عن بعض الحيوانات مثل: الجمل، والقطة، والغنمة، والحمار.. مثال ذلك ما جاء على لسان زيزونة في وصف الغنمة:
زيزونة: ماع..ماع.. أنا الغنمة..ومن صوفي
أرد البرد عن أحبابي الصغار
وأرعى في مراعيكم ومن ثدييَّ
أقدم خير ألباني على الإفطار
ماع..ماع.. أنا الغنمة.. ص (12)
كما لعبت هذه العناصر دورها في كسر الإيهام في بعض الأماكن بغية إفساح المجال أمام الطفل كي يفكر،ومن ثم يحكم ويتخذ الموقف المناسب مما يعرض عليه من أحداث وقضايا، إضافة إلى ذلك فقد حوت هذه العناصر على قيم تربوية، ووطنية، وعلمية هامة، جاءت في سياق حبكة مسرحية متحركة، بنت أحداثها، ورتبتها، وقدمتها بشكل منطقي ودرامي، الإيهام فيها ينكسر ويستمر بشكل مدروس ، من خلال صراع حي، وصاعد، تقوده شخصيات متمايزة، وواضحة
يتجلى ذلك من خلال أسمائها الموحية: كسيلون، شمس النهار،عقربان..الخ.وأفعالها : استهتار، قمع، تضحية، بساطة، تهريج..الخ، وعلاقاتها ، وحواراتها، وصفاتها، وإن بدرجات تراوحت بين نمطية ذات بعد واحد غني يفي بالغرض والهدف، ونمطية جامدة من ذلك النوع الذي عُرف في المسرح باسم -الكركتر- والتي تميزت بها الشخصيات الشريرة خاصة، مثل شخصية الدردبيس التي تمثل ، أو ترمز إلى أمريكا ،وشخصية كسيلون التي تمثل ، أو ترمز إلى إسرائيل ، وكذلك شخصية الملك التي تمثل الحاكم العربي وترمز إليه بوضوح ، حيث تم بناؤها بانتقائية نابعة من رغبة الكاتب وانفعالاته تجاه ما تمثله من سلبية وشر في الحياة الواقعية، غير أن الجمع بين صفات غير منسجمة مثل : الدموية ، والغباء، والجبن..في شخصية واحدة مثل شخصية كسيلون (إسرائيل) قد لا تحقق الهدف المتمثل في إبراز سلبيتها، وبالتالي إدانتها من قبل الطفل ، لعدم دقة الرمز ، وضعف علاقته بالمرموز الذي أصبح الطفل يتعرف على حقيقته، وينطبق القول نفسه على شخصية الدردبيس (أمريكا) وشخصية الملك شهرمان (الحاكم العربي) المستهتر والساذج والقامع في الوقت نفسه،وقد كان لهذا الخلل في بناء هذه الشخصيات (الرئيسة) خاصة، أثره في مجريات الأحداث ،ومصير الصراع في نهاية المسرحية، التي جاءت كلها متناغمة مع توجه الكاتب ورغبته في تحويل الوحش إلى ورق.
وفي الاتجاه نفسه يشكل استخدام الدردبيس-الوحش الشرير- لأحجية حلبية بقصد الإيقاع بعلي بابا –فتى الشعب-إشارة استفهام واضحة، تقول الأحجية التي جوابها (رمانة):
طاسة طنطراسة
في البحر غطاسة
داخلها لولو خارجها الماسة ص(46 )
وإشارة استفهام أخرى سيضعها المتلقي أمام استخدام الكاتب للقلب الأحمر الكبير الذي يُخرجه زيزون ، مهرج القصر، من البئر،كناية عن قلبه المولع بحب زميلته المهرجة زيزونة، وهو رمز مستهلك، وغير مبرر درامياً، ناهيك عما قد يثيره هذا الغرض في العرض المسرحي من نفور أو خوف لدى الأطفال الصغار، خاصة أن المسرحية موجهة إلى أطفال المرحلة الدنيا والعليا على حدًّ سواء، والتي أحسن الكاتب صياغتها بمهارة فائقة، هذه المهارة التي برزت بشكل متألق في استخدامه الجديد والموفق- أيما توفيق-للقمقم وساكنه المارد سمسم ،الذي أصبح فناناً ومثقفاً نتيجة استغلا له الجيد للوقت الذي أمضاه داخل القمقم ، وهو لا يظهر إلا للمجدين من أمثال غلي بابا المجتهد، والمحب للناس، ليساعدهم ويشدَّ أزرهم، وقد استطاع علي بابا الاستفادة من المارد والقمقم رمز العقل في صراعه مع عدوه الوحش. لا شك أن هذا الاستخدام المجدد لعنصر قديم في الحكايات الشعبية ، زاد المسرحية متعة وأغناها فكراً. قد لا نغالي إذا قلنا إن مسرحية علي بابا والأميرة شمس النهار وجبة مسرحية نموذجية،بما حوته من عناصر فنية ،وفكرية شهية وغنية،تُضاف إلى مائدة عبد الفتاح قلعجي المسرحية العامرة دائماً.
-مسرحية علي بابا والأميرة شمس النهار: منشورات:وزارة الثقافة سنة2004
– الطبعة الأولى –قطع وسط