التحامل على الشعراء

جميل داري

على الرغم من مرور أكثر من نصف قرن على قصيدة التفعيلة ما زال بعض الكتاب يثير هذه القضية ويؤجج في تفاصيلها المضجرة من جديد…. وذلك لعدم حاجتنا للعودة الى هذه الحلقة المفرغة.. فالساحة الثقافية بعامة والشعرية بخاصة مملوءة بمعارك طازجة وطاحنة حول الحداثة وما بعدها وقصيدة النثر والغزو الثقافي وهيمنة التكنولوجيا والصراع العلني والمخفي بين الأنماط الفكرية والاتجاهات الشعرية المعاصرة…
لقد قرأت مؤخرا مقالا لناقد عراقي اسمه “محمد مبارك ” يتحدث فيه عن الريادة في حركة الشعر العربي الحديث.. فينظر دون أن يأتي بجديد.. متكئا على عكازة الآراء النظرية ليشن حربا دونكيشوتيةعلى “السياب” رافعا راية “البياتي”.. فيقارن بين قصائد رديئة “للسياب” وقصائد جيدة ” للبياتي” من وجهة نظره القاصر.. ما يولد في النفس الشك في تذوقه الأدبي وغير الأدبي وفي أحكامه الجاهزة.. حيث يعبر عن إعجابه الشديد بست عبارات شعرية باهتة” للبياتي” ويرى فيها الشعر الحلال والبيان الزلال… وهذه العبارات هي:” زرعوا فلم نأكل..ونزرع صاغرين فيأكلون..”  هذه العبارات كما أرى لا تحمل أي قيمة فنية وجمالية شكلا أو مضمونا.. وكان الأحرى بالكاتب أن يستشهد بمقاطع شعرية حقيقية للبياتي.. ليؤكد صحة ما ذهب اليه….
أقول:هل تجوز هذه المقارنة العشوائية والسمجة بين قصيدة وقصيدة بهدف الحط من قيمة السياب لغاية في نفس يعقوب..؟
إن التحامل على رموز الشعر قديم قدم الشعرنفسه…. فقديما هوجم أبو تمام وأبو نواس وأبوالعلاء المعري وأبو الطيب المتنبي وكل الآباء الآخرين.. ثم زال التحامل وبقي الشعر شاهدا على تهافت كل تحامل… فمثل هذا التحامل لم يخدم القضية الأدبية قط…وحديثا ماذا أفاد تحامل نعيمة على جبران… والبياتي على السياب.. وكذلك التحامل على شوقي و نزار قباني ويوسف الخال وأدونيس ..؟ حتى ” الأخطل الصغير”  لم ينج من هذه الزوبعةالتحاملية… حيث تآمر عليه “عصبة العشرة” ولكنه واجههم جميعا ورجمهم ببعض الأبيات منها:

درة صاغها الذي ترك الحساد تجري.. ولا تطيق لحاقا
كلما أطبق الغبار عليهم   حشرجوا تحته وماتوا اختناقا

علينا الاعتراف أن ثمة ظروفا عامة وأرضا خصبة هيأت الأجواء لميلاد قصيدة التفعيلة… فمن منا يستطيع إنكار دور جبران ولويس عوض والريحاني وباكثير وغيرهم..؟
أجل..إن رواد الحداثة جميعهم أسهموا في إخراج الشعر العربي من النفق الذي صار فيه… كل واحد منهم قد أضاء شموعا شعرية… ومسألة الفروق الفردية موجودة بين كل شعراء الكون قديما وحديثا..لا بل عند الشاعر نفسه ما بين قصيدة وأخرى…
لا أخفي أنني أحب قراءة شعر الرواد بين حين وآخر من دون القدرة على المفاضلة الجازمة بين هذا وذاك ..كما أستأنس أيضا بآراء كبار الشعراء من رواد الحداثة… وبودي أن أستشهد بأقوال بعض الشعراء في” البياتي” الذي فضله الكاتب على السياب وغيره:

يوسف الخال يرى في الشكل الشعري عند” البياتي” نثرامسجعا موزونا يتميز بالسهولة والتكرار كما يؤكد أن” البياتي” انصرف إلى قلمه كوسيلة لاكتساب الرزق وذلك على الرغم من إعجابه بالبياتي الذي حمل قضية الشعر العربي الحديث في قلبه وحقيبته من غربة الى غربة…

منذ فترة قرأت حوارا مع محمود درويش الذي قال عن البياتي:” إنني لم أقرأ للبياتي منذ عشرين سنة تقريبا وعندما مات شعرت بتأنيب ضمير وعندما أعدت الاطلاع على شعره وجدت البياتي يثقف قصيدته بالإحالة إلى عناوين ثقافية.. أي إنه يسمي ” طواسين الحلاج “مثلا.. وعندما أدقق في القصيدة لا أجد مبررا جماليا دائما لهذا التوظيف”   والسؤال : لماذا لم يقرأ درويش البياتي منذ عشرين عاما؟ وكلي اعتقاد أن درويش متابع دؤوب لحركة الشعر العربي..؟  إذا هناك شعراء ينتهي مفعولهم الشعري… حيث يكررون أنفسهم الى درجة الملل.. وهذا ما حصل لنزار قباني.. فقصائده في السنوات الأخيرة من حياته خطابات رنانة وجمل إنشائية طنانة لا تمت إلى الشعر بصلة.. ولا يشفع له إلا تاريخه الشعري الغزلي عندما كان الغزل من الموبقات المنكرات
لهذا من الأفضل للشاعر ألا يتبجح ويكابر ويأخذنا إلى برق السراب بعد أن يغيض ماء الشعر وتقلع سماؤه عن المطر.. ثم يأتي في آخر الزمان من يسبح بحمد هذا الشاعر أو ذاك…

وقد قرأت حوارا آخر مع” أدونيس” في إحدى المجلات حيث يقول: ” مع بدر شاكر السياب” تبدأ الحداثة أو القصيدة الحرة.. في قصائده على الأخص” النهر والموت” و ” المسيح بعد الصلب” و” المعبد الغريق”  مثل هذه القصائد أنا شخصيا أعدها بداية بالمعنى الفني الشعري لتأسيس حساسية جديدة ومقاربة جديدة للأشياء وللعالم  “

أعود إلى بداية هذا الكلام:
لا ما نع من تدبيج المديح لشاعر ما… ولكن ليس على حساب غيره.. ألا يبنى مجد شاعر إلا بتقويض مجد شاعر آخر..؟ كل شاعر له جمالياته وسماجاته.. مناقبه ومثالبه.. وليس عبثا قول البحتري: ” أبو تمام جيده أفضل من جيدي ورديئي أفضل من رديئه ” أما المعري فكان له رأي آخر في الأمر حيث قال:”أبو تمام والمتنبي حكيمان والشاعر البحتري”  أما ابن المعتز فقد قال عن البحتري:” لو لم يكن للبحتري إلا قصيدتاه في بركة المتوكل وإيوان كسرى لكان أشعر الناس”  وقصة النابغة مع الأعشى والخنساء معروفة ولا داعي لذكرها….

ألا نستطيع القول أيضا: لو لم يكن للسياب إلا قصيدته ” أنشودة المطر” لكان أشعر الرواد…؟

نقد الشعراء بحب وذوق وموضوعية أمر حسن وطيب.. والناقد إذا خلا من الحب فقد خلا من الموضوعية كما قيل… من هنا فإن رواد الحداثة- صانعي مجد التفعيلة- لهم منا ألف رحمة… وألف تحية…. والسلام ختام…

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

سيماڤ خالد محمد

مررتُ ذات مرةٍ بسؤالٍ على إحدى صفحات التواصل الإجتماعي، بدا بسيطاً في صياغته لكنه كان عميقاً في معناه، سؤالاً لا يُطرح ليُجاب عنه سريعاً بل ليبقى معلّقاً في الداخل: لماذا نولد بوجوهٍ، ولماذا نولد بقلوب؟

لم أبحث عن إجابة جاهزة تركت السؤال يقودني بهدوء إلى الذاكرة، إلى الإحساس الأول…

خالد بهلوي

بحضور جمهور غفير من الأخوات والإخوة الكتّاب والشعراء والسياسيين والمثقفين المهتمين بالأدب والشعر، أقام الاتحاد العام للكتّاب والصحفيين الكُرد في سوريا واتحاد كردستان سوريا، بتاريخ 20 كانون الأول 2025، في مدينة إيسين الألمانية، ندوةً بمناسبة الذكرى الخمسين لرحيل الأديب الشاعر سيدايي ملا أحمد نامي.

أدار الجلسة الأخ علوان شفان، ثم ألقى كلمة الاتحاد الأخ/ …

فراس حج محمد| فلسطين

لست أدري كم سيلزمني لأعبر شطّها الممتدّ إيغالاً إلى الصحراءْ
من سيمسك بي لأرى طريقي؟
من سيسقيني قطرة ماء في حرّ ذاك الصيف؟
من سيوصلني إلى شجرة الحور والطلع والنخلة السامقةْ؟
من سيطعمني رطباً على سغب طويلْ؟
من سيقرأ في ذاك الخراب ملامحي؟
من سيمحو آخر حرف من حروفي الأربعةْ؟
أو سيمحو أوّل حرفها لتصير مثل الزوبعة؟
من سيفتح آخر…

حاوره: طه خلو

 

يدخل آلان كيكاني الرواية من منطقة التماس الحاد بين المعرفة والألم، حيث تتحوّل التجربة الإنسانية، كما عاينها طبيباً وكاتباً، إلى سؤال مفتوح على النفس والمجتمع. من هذا الحدّ الفاصل بين ما يُختبر في الممارسة الطبية وما يترسّب في الذاكرة، تتشكّل كتابته بوصفها مسار تأمل طويل في هشاشة الإنسان، وفي التصدّعات التي تتركها الصدمة،…