إنها الحرب يا أبي….!.

 ابراهيم اليوسف
 
إنها الحرب…..!
إنها الحرب يا أبتاه…!.
في عدتها الموعودة
لعلك عشتها أكثر مني…..!
لا ، لم أشرب من كوز النسيان
أعرف الطريق إلى التلة الصغيرة
جيداً
أتقصى أثر خطاك في الأزقة 
كما دربتني طويلاً
أصداء وصاياك في دمي وأذني
وأعرف أن شاهدة ضريحك امَّحت
بعد أن أيقظتك ذات ليلة قنبلة ذلك الداعشي
-أتذكر؟ . كان ذلك حين هتفت إليك
بعد أن  فرَّ حراس المقبرة بعيداً
الملتحون منهم
وذوو الخوذات 
على حد من العار سواء 
-لم تكن لتصدق الأمر بسهولة-
أعرف أن الورود التي طلبتها
قد تيبست أعواد سيقانها
حين هزتها يد الخريف ضمن دائرتها الواسعة
لم أسقها السنة إلا الحبر
لم أسقها السنة الفائتة إلا الحبر
لم أسقها منذ خمس سنوات ونصف إلا الحبر
-لا شيء يفعله الحبر أمام الدم –
أعرف أنك لم تنس زيارتي الأخيرة لك
حين قرفصت 
في المكان الذي علمتني أن أقف فيه 
كي تسمعني جيداً
استأذنتك
شرحت لك وجهتي وسط تلك الزوبعة الأولى
لا، لم أعد منذ ذلك اليوم…!
الرسالة التي تصلك كل صباح مني
تنقلت بين أكثر من عنوان
ها أنا في مكان لطالما قلت لك:
لن أغامر بالسفر إليه
لن تغامر بالسفر ذريتك إليه
لكننا سافرنا
وظللنا هناك قرب كيس الوصايا
قرب مكتبتك التي لم تقلبها أصابع بعدك
ليس في الأمر عقوق ما
ولا نكث بعهد
إنها الحرب يا أبي
لقد ابتعدت عنك
كي أقترب
ثمة بذور جديدة للورد اقتنيتها السنة أيضاً
-أعرف أنك تحب الأشجار والورد كثيراً-
لكن هاتيك البذور أزرعها في تراب آخر
مرة أخرى
لن أنسى سآتيك بالكثير منها
عندما أعود
-وهل حقاً أعود؟-
أعرف أن ترانيم أصبوحات الأمس
وعصرونياتها
لم تعد تنزل من الغيمة القريبة
أعرف أن الغبار تيبس على أمداء الإسفلت المتعب
توتياء أبواب الحوانيت مودعة إلى الأقفال المترددة
لا شيء كما كان
إلا اسماكما: القرية وأنت
كما أطلقهما عليكما أبوك
:تل معروف..!.
إنها الحرب يا أبي…!.
لطالما قلت لك:
لن تمرَّ  من هنا
وكنت ترد:
لا طريق مسدوداً في وجهها
كنت أخلد إلى حبر الجريدة
بينما كنت تقرأ خطوط النار المؤجلة
لم تكن خارج ذلك الَّلفح
ولم أكن كذلك
مسافة الأمان تكذب علي
ما زلت أستيقظ في بيتنا الكبير
ما زلت أستيقظ على قصائد أحمدي خاني وملايي جزيري
ما زلت أستيقظ على رائحة شاي أمي ورذاذ أصابعها
ما زلت أستيقظ على زقزقات عصافير شجرة النارنج
ما زلت أنام  تحت ظل صورتيكما
ما زلت هنالك في “تل أفندي” و” طوبو” و”قامشلو”
ألتقط كل يوم فوارغ رصاصات القناصة
أرمي كناسات الرجل  المفخخ بعيداً
وأقرع على دفٍّ طالما أنفتَه بأصابع مستفزة
ما زلت أفتح كلتا عيني وسط ذلك الدخان الداكن
أتقرَّى البيوت والوجوه الجديدة
لما أتذكر كل شيء..َ
أرسم ذلك الخيط الإهليلجي
على ضوء كواكب مصادرة
أعرف الطريق إليك، ولا أعود، الآن..!
أعرف الطريق إليك، وأعود، الآن..!
إنها الحرب….!
لا تنتهي بحبر أو حب
لا تنتهي بدم
لا تنتهي  بمقبرة من وطن
لا تنتهي بمصافحة
لا تنتهي بنشيد أو راية
لا تنتهي بكتاب لمؤرخ  مزور
أو بطل كاذب
إنها الحرب يا أبتاه
لا بأس
كرَّ  حبات سبحتك
في دورة  جديدة
-كل مرة-
مادامت الحرب طويلة
مادام الأفق مسافات من سخام وخوف
نم، قليلاً، إذاً
أعرف أنك لا تنام 
نم قليلاً، لا حافلة تذهب إلى خزنة 
في منتصف هذه النار
ثمة جلسة أخرى معقودة
يتذكرونك هناك، ويعدون لك إبريق الشاي
إلى أن تصل
قبل أن تنتهي الحرب
قبل أن تتواصل الحرب
قبل أن نلتقي هناك 
قبل أن آتيك بالكتاب
أقرؤه عليك كما أردت..!.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

كاوا عبد الرحمن درويش

 

شهرٌ كاملٌ مرَّ اليوم على اجرائي عملية استئصال المرارة، شهرٌ مرَّ على مفارقة جسدي لقطعةٍ صغيرةٍ في حجمها، جبارةٍ عظيمةٍ في عملها.

عشت قبل توديعها صراعاً مريراً مع الألم الذي اعتدت على زياراته الثقيلة كضيفٍ غير مرغوبٍ فيه، لا يطرق أبواب مضيفه إلا بعد انتصاف الليل على مدار سنواتٍ عديدةٍ بلا رحمة ولاهوادة.

كنت…

أصدر الكاتب والشاعر والمترجم الكردي السوري عبدالرحمن عفيف مجموعة قصصية جديدة بعنوان “جمال العالم الموجود”، عن دار نشر “سامح” في السويد 2025، بتصميم غلاف من إبداع الفنان الكردي لقمان أحمد. المجموعة، التي تضم أكثر من ٣٠ قصة قصيرة، تأخذ القارئ في رحلة عبر تفاصيل الحياة اليومية في بلدة عامودا السورية ومحيطها، حيث تلتقي الشخصيات العادية…

عبدالوهاب پيراني

 

(عتيقة انت

كأنك رصيف في مدينة مهجورة

تركه المطر ليجف وحده

وترك لك خطوات الراحلين مثل آثار نوم

حين كتبتك

نزف القلم عطرا

وغصت الورقة بأسمائك القديمة

كان الزمان واقفا

يراجع ذاكرته

 

اعترف

لم اعد احتاجك

لكنني اشتاقك كما يشتاق الباب صوت الطرق

وكما تشتاق المرايا

ملامح من رحلوا

تظنينني نسيت

لكنني ما زلت اخبئك

في درج السرير

بين تذكرة قديمة)

 

في عالم تغلفه أنسجة الغربة والشتات، يخاطبنا لوركا پيراني بنص…

عبدالوهاب پيراني

 

تعد نضال سواس إحدى الوجوه السورية الفنية المبدعة التي رسمت بجرأة ملامح الألم والأمل في آن واحد، المعتزة بجذورها، حيث ولدت وعاشت ورسمت وكتبت، وازدادت قلقاً في ظل معاناة الوطن من الحرب والدمار، التي تركت بصمات لا تمحى ،وارهقت ذاكراتها البصرية واللونية، وحملتها الظروف إلى دروب الاغتراب، حيث فرض الواقع البارد للصقيع الاجتماعي…