ملحمة العروس الزرادشتية

زهرة احمد قاسم
 في كل صباح ومع إشراقة يائسة للحياة تقف الأم التي أثقل المأساة كاهلها في حضن شنكال، تحكي للجبال قصتها المؤلمة ، تئن, تناجي …..تحفر على صخوره اسم ابنتها تارا …..تنسج من خيوط الشمس الباهتة أملا بعودتها …..تعيد سرد الأحداث بتفاصيلها المؤلمة …….لترسم صورة تارا في قلبها وفي نظرات الشمس اليائسة …….. صرخة ابنتها ترسم في مخيلتها ألف قصة وقصة بنهاياتها المخيفة ……..يوم أسود في تاريخ حياتها وحياة ملتها ………سهام تجرح قلبها وتدمي تفكيرها الكهل عندما تفكر بمصير تارا مع تلك الوحوش التي تستلذ حتى بأكل لحوم البشر …… لتصرخ باسمها تااااااارا …..كأنها تزيح بذلك تلك التصورات التي ستكتب نهاية عائلتها بسواد العار …….صدى صوتها يشق صدر السماء ……يسابق الرياح والأفلاك ……..لتسجد الجبال خشوعا وألما…..ولتذرف الشمس دموع الخجل وتختفي وراء الأفق . 
عند الغروب تغادر الأم وتترك آثار أنينها لتستعيدها كل صباح وقد ازدادت ألما …..وكعادتها تحكي قصتها لجبالها التي لم تجد خليلاً لها سواها من غدر الزمان ….. تصلي صلاة الشروق وترتل باسم الله القدس الرحيم الجميل يا رب أنك أنت الموجود وأنا العدم أنت الغفور وأنا المذنب أنت الداء وأنت الدواء بحق اسمك يا رب يسر أمورنا “
في ليلة سوداء حالكة …..كئيبة كالقلوب الثكلى …ثقيلة كهموم الأم …..وفي ثنايا السكون الخجول إيحاءات تنذر بعاصفة للقدر ….الصمت ينقشع شيئا فشيئا على قرع طبول الموت ….القمر الشاحب بغير عادته يرسم بين طياته نهاية ليالي السمر وذبول أزهار الربيع ….لفحات محرقة كالجحيم تصفع وجه الأفق المسالم ….لتكون بداية النهاية لمهرجان الحياة في قرية صغيرة آمنة بحضن الجبال …….تحتمي به من غدر الايام تقاسمه شموخه وكبرياء تاريخه …..تنام بحضنه بأمان حتى داهمها الموت الأسود ليلوث نقاء هواءها وتستفيق الإنسانية على صرخة لأجل الحياة ….لالش تتألم على مجد داسه الأنجاس وعابثي الحرمات ….لوثوا طهارة المعتقد والتاريخ ، قتلوا الرضيع والشيخ والمعاق ، حرقوا الشجر واغتالوا الأمل ، هدموا التاريخ ونحروا الذكريات ودنسوا قداسة الصلوات .
على وقع صرخة الأزهار من سموم الأشواك جرح كبرياء الإنسان ،فاهتزت الجبال تمردا وألما . صرخة قطفت خيوط الحياة من قلب أم تستفيق على صرخة ابنتها، الأم التي حملت أولادها وزوجها المعاق بعيدا لتحتمي بالجبال هاربة من الموت القادم مع غدر التاريخ ،في غمرة الألم والصراع مع الموت تاهت عن ابنتها ذي السبعة عشرة ربيعاً النائمة في سكون الغرفة المجاورة, تلك الصرخة المدوية والممزوجة بأنين الهارب من سعير الموت، حاولت الأم أن تعود لتنقذ ابنتها لكن الرصاص المنهمر على إنسانية الإنسان منعها حين أصابت إحداها ابنها في ساقه لتتوقف ويضمد جراحه غير منتبهة إلى أن الزمن يسابقها ليغدر بها تاركة لها جرحاً اكبر في قلبها تتجاوز قدرة جسدها حيث ترهل تحت ثقل العار ، لتردد “لقد انتهينا وانتهى تاريخ عائلتنا” ، قالتها بشغف الأم المتأملة برؤية ابنتها العفيفة من جديد, الدموع تمتزج بدماء ابنها لترسم تاريخ الإنسانية من تحت الأنقاض .  
شنكال يجمع شتات الذكريات المنسية ……يحضن حروف الرحيل الأزلي ….منارة للقضية ……. لم يتوانى عن مداواة أحلام جرحتها أعداء الانسانية ….ليرسم بشموخه تاريخ من المآسي المرافق لإرادة البقاء والخلود الأبدي ……ليكون شاهدا على مآسي التاريخ ……حضن أجسام بريئة ودموع الأمهات وآهات ملة كنقوش خالدة عصية على النسيان …..قاوم هدر الطغاة لإنسانيتها وإبادة الاستبداد لابتسامة أبناءها …….ناضل في وجه النكبات المتكررة ليزداد بذلك صلابة وشموخا وليكون ابدا ملاذا آمنا لأبنائه الأبرياء . أين أنت يازرادشت الحكيم : كن شاهدا على مأساة شنكال وإبادة الإنسان …. ابنتي أسيرة ….لالش محاصر بالنجاسة ……ولا أملك سوى الدموع والصلاة …..وخوفي من أن يتلوث” كانيا سبي” ويتلوث تاريخنا بسواد الإرهاب . قالتها وهي تحاكي الجبال, شنكال قصة كل يوم بكل تفاصيل الألم والدموع …….تسجد لإشراقة الشمس لعله يحمل معه إشراقة الأمل بعودة تارا . تارا …..الفتاة الإيزيدية الصامدة كالجبال ترسم بداية النهاية للمأساة …..ومن روحها تضيف نورا لتاريخ الخلود . عندما قررت إنقاذ عفتها وبراءتها من براثن وحوش الظلام ،وحوش احترفوا الاعتداء على إنسانية الإنسان ليتجاوزوا بذلك كل الشرائع التي يتسترون بها ويجعلونها ذريعة لجرائمهم البشعة …لكنها بقيت صامدة مدافعة عن ذاتها عن عفتها عن إنسانيتها مستمدة قوة إرادتها من ضعف جسدها ……. 
تراءت أمامها صورة والدها المعاق وهو يتوسل إليها باكيا ….وصرخة أمها ما تزال تأجج نارا في قلبها …وجملتها التي جرحت بحروفها كبرياءها الطاهر ” انتهى تاريخ عائلتنا ” ……وتتذكر قريتها وعشقها لأنفاس الربيع وأحلامها الخضراء وقصة زهرة نيسان التي كانت بداية قصة عشق ابدي قادم إلى المجهول يخلد بخلود روحها الطاهر ….. صراخ أمها المستمر أيقظها من ترددها لتنهي ذلك الصراع الرهيب لتنير ربيع أهلها مشرقا بنور لالش بإطفاء شمعة حياتها ….. حررت روحها من جسدها لتبقى بريئة طاهرة كما كانت تصنع من النرجس تاجا وتسابق ضفائرها نسمات الخلود …….وتصبح زهرة من النور تنافس نيسان وجمال أزهاره وأنفاسه . زغاريد ممزوجة بالألم ارتسمت على وجه الأم حينما سمعت بإخبار ابنتها المحافظة على شرف عائلتها والمنتصرة لبراءتها وقداسة أخلاقها.
سجدت كعادتها وقبلت التراب ورفعت يديها إلى السماء مرتلة : يا آلهة الجمال والطهارة الأبدية …..غابت شمس حبيبتي الصغيرة …..لترفرف روحها في سماء لالش خالدة تشع بنوره المقدس, ثم أكملت ترتيلها على روحها الطاهرة  : “هذه الدنيا كخان العباد والبشر, غادرها البعض والبعض ولد من جديد, ابن آدم لو تُعمر ألف عام وتقلد إمارة الشرق إلى الشام لا بد أن تجرع من كأس الموت لا محال ” أيتها الجميلة بألوان الطاووس …….الطاهرة بروح القداسة ……أضفت نورا للحياة وعبقا أبديا لأزهار نيسان ……زينتي صباحات النفس بأنشودة النقاء …….فلترقد روحك بسلام دموع تهدي أنينا لشنكال ….ترسم صفحات كئيبة  بلون مأساة اللاجىء الى عالم التشرد…….تضيء أرشيف الذكريات الأليمة ……..ترسم على جبين الشمس الزردشتية معاناة نيسان الأزلية ……..لالش يئن بصمته المشرق……….يضيء بنوره مأساة الوطن …..فتتوه تراتيل الصباح بدموع نيسان …….لترسم بروحها تاريخ شعب صامد ……وتصبح حروفها أبجدية الخلود ……وتكون تارا عروسة نيسان …….ونرجسة لالش يعطر ملحمة الخلود .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

بدعوة من لجنة الأنشطة في الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في سوريا، وبالتعاون مع ممثلية اتحاد كتاب كردستان، احتضنت قاعة كاريتاس اليوم١٧-٨-٢٥ في مدينة إيسن ندوة نقدية موسعة حول رواية “كريستال أفريقي” للروائي هيثم حسين.

أدار الندوة التي حضرها جمهور نخاوي من الكتاب والشعراء والصحفيين ومتابعي الأمشطة الثقافية
الناقد صبري رسول، وشارك فيها عدد من الأدباء والنقاد…

بهرين أوسي

تقف الأديبة الشاعرة الكردية مزكين حسكو في فضاء الشعر الكردي الحديث، شاهدة على قوة الكلمة في مواجهة تشتت الجغرافيا. جبل شامخ كآرارات وجودي لم تنل منه رياح التغيير القسرية.

شاعرة كرّست قلمها لرسم جماليات الهوية الكردية من منفى اختاره القدر، فنسجت قصائدها بلغة أمّها كوطن بديل يحمل عبق تلال كردستان ووجعها. كما تقول في إحدى…

عبدالرزاق محمود عبدالرحمن

كان في صدري شرفة تطل على سماوات بعيدة،
أعلق عليها أمنياتي كفوانيس صغيرة،
حتى وإن كانت الحياة ضيقة، كنت أزيّنها بخيوط من الأمل،
أجمع فتات الفرح، وأصنع منه أحلامًا تكفيني لأبتسم.
كنت أعيش على فكرة التغيير، أتنفسها كل صباح،
وأخطط، وأتخيل، وأصدق أن الغد قد يجيء أجمل.

أما الآن…
فالنوافذ مغلقة، والستائر مثقلة بغبار الخيبات،
وألواني باهتة، وفرشاتي صارت ثقيلة بين…

عِصْمَتْ شَاهِينْ اَلدُّوسَكِي

وَدَعَتُ فِي نَفْسِي ضِيقَ الْحَيَاة

وَأَلَمَّ الْأحْزْانِ والْجِرَاحَات

أَذْرُفُ الدُّمُوعَ بِصَمْتٍ

كَأَنِّي أَعْرِفُ وَجَعَ الْعَبَرَات

أُصِيغُ مِنْ الْغُرْبَةِ وَحْدَتِي

بَيْنَ الْجُدْرَانِ أَرْسُمُ الْغُرْبَات

 

**********

يَا حِرمَاني الْمُكَوَّرِ فِي ظَلَامي

يَا حُلُمي التَّائِهِ فِي الْحَيَاة

كَمْ أشْتَاقُ إلَيْكَ وَالشَّوْقُ يُعَذِّبُنِي

آَهٍ مِنْ شَوْقٍ فِيه عَذَابَات

لَا تَلَّومْ عَاشِقَاً أَمْضَى بَيْن سَرَابٍ

وَتَرَكَ وَرَاءَهُ أَجْمَلَ الذِّكْرَيَات

**********

أَنَا الْمَلِكُ بِلَا تَاجٍ

أَنَا الرَّاهِبُ بِلَا بَلَاطٍ

أَنَا الْأَرْضُ بِلَا سَمَوَات

وَجَعِي مَدُّ الْبَحْرِ…