رسائل إلى روشن بدرخان

مروة بريم
الرسالة الأولى
عزيزتي روشن بدرخان:
 قد يبدو غريباً أن نتخاطب من عالمين مختلفين، وإنه ليشرفني أن أكون أول من خطت إليك بينما تعومين في عالم الروح…
لأرسم لك بعض ملامح الزمن و ربما لأبوح بما أثقل كاهلي و أصطحبك حيث يأخذني قلمي… فأنصتي يا عزيزتي لصريره وهو يعدو على هذه الصفحات بقلق.
آمل أن أكون قلبك النابض هنا, وشوقك الأبدي لكردستان, وأتمنى أن يسعفني قلمي لأخبرك بالتفصيل عن كل شيء ينبض حولي, علّنا بهذه الرسائل يا أميرتي نصغي لقلوب بعضنا البعض….
ها قد تأبط كانون دفاتره و أقلامه الرمادية ليكتب في حجر هذه الغانية أناشيده الماطرة التي تفوح من مفرداتها رائحة عشق عتيق لهذه الذُرى…. تئن المدفأة قربي, تتقاتل في أحشائها ألسنة اللهب كما تحتدم المعركة في رأسي و قلبي المشتعل لحلكة هذه الليلة الكانونية الباردة في عفرين.
ليتني أستطيع أن أطفئ هذه الأضواء لبرهة لأحصي كم نجمة تتلألأ في قبعتها السوداء… منذ آلاف السنين, هنا و في قلب العتمة, أنجبت السماء درب التبان…
بماذا أدثرك بعد يا عفرين ؟
أبعرائش الياسمين و رائحة ليمونك المغتال بأيدي التجار ؟ أم بأوشحة القمر؟!!
أذكر.. كلما كان يجتاحني الحنين للشمال.. أستقل حافلة من حلب, ألصق وجهي بنافذتها و عيناي معلقتان أبداً بالشمال, وما أن يلوح تاج أمانوس الأبيض في الأفق كنت أدرك أن سارقة القلوب على المشارف… فالسفر في أيام الشتاء كان شغفي, كنت أراها متشحة بالضباب يرتعش على خاصرتها حزام طيني مطرز بأزهار الدفلى..
يرفّ قلبي لهذه الحسناء الناهد, أبتسم قائلة لنفسي:
عفرين مدينة الدفلى الزهرية و البيضاء فما أطيب سكناك و ما أحلى عناق الصنوبر في رباك!!
إن لزيتونك حكايا, ولموائد قمر الدين المفروشة بين كرومك أساطير بلون الغسق.. أما الآن …. كم يؤلمني أنين الدفلى تحت وطأة هذا التراب الذي يصفع وجهها البض الجميل و يعتدي على عبقها الأخاذ ويسلب الخضرة من قاماتها.. أتأمل بحرقة رتلها الذي يتوسط هذا الطريق الصاعد لاهثاً نحو الهضبة.
كفرشيلة.. كيف أزيح هذا الوحش الرمادي الذي يحجب وجهك عني؟! اعتدت أن أستمتع ببريقك تحت الشمس وهي تجرّ خلفها ضفائر الأرجوان مودعة السماء, ليلقي المساء تعويذة السكينة على حقول القمح.
ترى كم من العمر تبقى لقميصك الأخضر يا كفرشيلة ؟
عفواً.. عفواً..
عفواً عفرين…
تعالي اسكنيني يا حبيبتي…فقد و الله طفح كيلي..
 عندما جئنا لنسكن رحابك, كان حرياً بنا أن نزيل الاسمنت عن قلوبنا, لنعاملك برقة, وأن نسير حفاة في حرمك المقدس الأخضر و ننحني أمام كل زهرة دفلى معتذرين.. وكل شارع و حقل وعصفور اعتاد النوم على صدرك, لعلك تسامحينا على طريقتنا الحمقاء في التحضر.
إن التحدث عما يؤرق هذه الأنثى متشعب و طويل, لن ينتهي برسالة, و لو بقيت أكتب في رسائلي إليك ما تبقى من عمري عن عفرين لما وفيتها حقها…
و بين صدى الأمس و هدير الحاضر أتألم معها و لأجلها, صور من مواسم  زيتونها.. صوت النورس فوق البيادر أسواقها العتيقة.. حوانيتها العشوائية..
خيم القصب المنتظرة مواسم البساتين فوق ضفاف نهرها.. سوقها الشعبي.. العجائز الذين اعتادوا ارتياد هذا المكان و سرد قصصهم تحت فوانيسها المعلقة ترقب كل شيء كأنها أولياء باتت مزاراً مقدساً في ذاكرتي…
و أتساءل مرة أخرى و بمرارة: هل حقاً نحن نبني عفرين أم نقتلها؟ و لماذا لا نرحمها…؟
و يا عزيزتي إلى أن ترتدي غاليتي مريولها الأحمر في نيسان ستكون لنا رسائل أخرى.. 
* مع فائق حبي و احترامي *
11- 12 – 2014
من منشورات جريدة روشن- العدد الثامن

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إلى أنيس حنا مديواية، ذي المئة سنة، صاحب أقدم مكتبة في الجزيرة
إبراهيم اليوسف

ننتمي إلى ذلك الجيل الذي كانت فيه الكتابة أمضى من السيف، لا، بل كانت السيف ذاته. لم تكن ترفًا، ولا وسيلة للتسلية، بل كانت فعلًا وجوديًا، حاسمًا، مزلزلًا. فما إن يُنشر كتاب، أو بحث، أو مقال مهم لأحد الأسماء، حتى نبادر إلى قراءته،…

أصدرت منشورات رامينا في لندن رواية “مزامير التجانيّ” للجزائريّ محمد فتيلينه الذي يقدّم عملاً سردياً معقّداً وشاسعاً يتوزّع على خمسة أجزاء، تحمل عناوين دالّة: “مرزوق بن حمو، العتمة والنور، الزبد والبحر، الليل والنهار، عودٌ على بدء. “.

في رحلة البحث عن الملاذ وعن طريق الحرية، تتقاطع مصائر العديد من الشخوص الروائية داخل عوالم رواية “مزامير التجاني”،…

الترجمة عن الكردية : إبراهيم محمود

تقديم : البارحة اتحاد الكتاب الكُرد- دهوك، الثلاثاء، 8-4- 2025، والساعة الخامسة، كانت أربعينية الكاتبة والشاعرة الكردية ” ديا جوان ” التي رحلت في ” 26 شباط 2025 ” حيث احتفي بها رسمياً وشعبياً، وبهذه المناسبة وزّع ديوانها: زكاة الحب Zikata evînê، الصادر عن مركز ” خاني “للثقافة والإعلام، دهوك،…

فواز عبدي

 

في نقّارة، قريتي العالقة في زاوية القلب كقصيدة تنتظر إنهاء قافيتها، لم يكن العيد يأتي… بل كان يستيقظ. ينفض الغبار عن روحه، يتسلل من التنّور، من رائحة الطحين والرماد، من ضحكةٍ انبعثت ذات فجرٍ دافئ ولم تعد ، من ذاكرة عمّتي نوره التي كانت كلما نفخت على الجمر اشتعلت معها الذكريات..

تنّورها الطيني الكبير، ذاك…