أحمد اسماعيل اسماعيل
بانتظار البلم :
وأخيراً وصل إلى النقطة؛ الاسم الذي كان يردده المهرب طوال الطريق: ممر صغير وسط أشجار كثيفة ينتهي إلى شاطئ البحر في منطقة نائية بعيدة عن أعين الأمن التركي وخفر السواحل، وذلك بعد ثلاثة أيام من المناورات التي كان فيها واحداً من القطيع الذي يقوده ليلاً مهربون قساة الوجوه والقسمات، داخل مدينة أزمير التركية ومن ثم خارجها، محشور وجمع كبير من اللاجئين داخل حافلة صغيرة، حتى ظن أنه واحد من المخطوفين في فلم بوليسي.
كان الوقت نهار والجو بارد ومتبلد بالغيوم، وكان هو أيضاً متبلد الأحاسيس، تتناهبه مشاعر متناقضة، فرح بالوصول وخوف من المغامرة، مغامرة غير عادية، بل جنونية كما كان يصفها لنفسه، إذ كيف سيركب البحر وهو الذي لم يسبق له أن خاض في مياه نهر، سباحة أو غير سباحة، حتى مياه نهر جقجق الصغير الذي يقسم مدينته النائية في أقصى الشمال الشرقي من وطنه، كان يكتفي في صباه بمشاهدة رفاقه وهم يخوضون مياه هذا النهير طولاً وعرضاً، بحسرة وخجل، دون أن يتورع على مجاراتهم ولو بالسباحة قريباً من الحافة.
هي لحظة استثنائية في حياته، لم يصادف مثلها طوال عمره الذي بلغ الربع قرن، كما كان يحلو له القول حين يحدد عمره، ويردف : لقد هَرِمنا.
ما أن وقف على شاطئ بحر إيجه بانتظار المركب المطاطي، ذو المحرك الصغير، والذي يُطلق عليه اسم البلم، ليقله ومجموعة من اللاجئين إلى الطرف الآخر من شاطئ البحر، حيث جزيرة ميليت اليونانية التي كانت تلوح له عن بعد من مكانه حيث يقف؛ سجادة حائلة اللون ممدودة على عتبة البحر، ما أن وصل إلى هناك ووقف غير بعيد عن الشاطئ؛ حتى هاله منظر هذا المد الأزرق الذي يفصل بين الشاطئين، إذ لم يسبق له، هو ابن منطقة معروفة بأراضيها السهلية المنبسطة، ونهيرها الممسوخ إلى ساقية للمياه الآسنة بفعل عصا الساسة، أن شاهد مياهاً بهذه الوفرة، بالعين المجردة لا من خلال الصور وشاشات التلفزيون.
كانت الجهات المترامية أمامه، وبدءاً من نهاية الأفق وحتى موطئ قدميه، سماء مقلوبة، وبساط مياه زرقاء، تزين سطحها طيات وفقاقيع وأمواج صغيرة، ينبعث منه صوت غريب، عميق وغامض. انتابه الذهول، وأحسَّ بأنه في عالم ينتمي إلى الحكايات والأساطير، وأن ما يراه الآن لا يمكن أن يكون واقعياً، وحارَ في التعبير عما يجيش في داخله وهو أمام هذا المشهد العظيم، الجديد عليه تماماً.
يذكر أن أول صورة للبحر شاهدها كانت في كتاب قراءة لصف ابتدائي، في الصورة ثمة جنود وبحر وسفن تحترق خلف فارس يُشهر سيفاً وقد فتح فمه بغضب، لم يثبت في ذاكرته من ذلك الدرس سوى صورة الفارس وعبارة: العدو من أمامكم والبحر من خلفكم.. فأين المفر؟ هذه العبارة التي كان يرددها، ومنذ الصغر، وكلما وقعت عيناه على صورة للبحر. كرّر الكلمة مرة ثانية وثالثة، ثم راح يعيد صياغتها بشكل مختلف: العدو من وراءكم والبحر من أمامكم ولا مفر لكم سوى الهرب. أعجبته الجملة، فراح يردد في سرّه بانتشاء:
الجماعات المسلحة من وراءكم والبحر من أمامكم ولا مفر لكم سوى البلم..
الموت من وراءكم والبحر من أمامكم ولا مفر لكم إلا الهجرة ..
البراميل المنفجرة من فوقكم والبحر من أمامكم. ولا مفر لكم سوى إلى ألمانيا.
فرعون من وراءكم والبحر من أمامكم .. ولا مفر لكم سوى إلى ماما ميركل
وتناسلت العبارات الواحدة تلو الأخرى حتى جاءه صوت من داخله آمراً: كفى.
فصمت، ودام صمته للحظات، نهضت خلال ذلك في مخيلته مشاهد لمراكب مطاطية تحمل لاجئين من مختلف الأجناس والأعمار، وهي في عرض البحر، وأخرى لحظة انقلابها وقد انتثرت حولها أجساد ترتدي سترات انقاذ، أجساد صغيرة وكبيرة، نحيفة وسمينة، ووجوه انطبع عليها تعبير واحد: الهلع.
وقفزت إلى مخيلته صورة الطفل ايلان، التي ملأت صحف الدنيا وشغلت أوربا، وفيها يظهر هذا الطفل وقد أسند رأسه إلى رمل الشاطئ وأدار ظهره للعالم، واستحضر تلك الضجة التي أثارتها تلك الصورة، فسرت في أوصاله رعدة راحت تكبر وهي تتدحرج في داخله، وتخيل نفسه في تلك الحالة وهو ملقى على الشاطئ وحوله صحافيون يلتقطون له صوراً من مختلف الزوايا، فنهضت أمامه صورة منفرة غير تلك التي ظهرت للطفل الغريق في القنوات الفضائية، وذلك حين برز شكل مؤخرته بحجمها الكبير الذي أفسد شاعرية الصورة المتخيلة، والتي ستقلب التعاطف معه إلى سخرية، وخاصة من قبل أبناء حيه، هذا الحي الشعبي المشهود لأهله، رغم الفقر الذي وسم حياتهم بميسه الناري، وشقاوة ابنائه، بروح السخرية اللاذعة، فما كان منه، وهو يستحضر تعليقاتهم الساخرة، إلا أن يتخيل مؤخرته وقد أصبحت مادة للإبداع، مثل لوحة المؤخرة التي كان لإظهارها فتحة الشرج مغطاة بخيوط العنكبوت أثرها المدهش على تلقي الجمهور في معرض أقيم في بلد غربي حسب خبر كان قد قرأه منذ زمن في صحيفة محلية، وتساءل في داخله: من يدري؟ إنه عالم مجنون، فمن كان يتخيل أن يحدث في بلدي الآمن ما يحدث له الآن من قتل وتمثيل بالجثث وتدمير مدن و..باسم الربيع؟
كتم ضحكة ساخرة وهو يتابع المشهد الناهض في خياله: جمع من الصحافيين يتسابقون لالتقاط الصور لمؤخرته، الصور منشورة على صدر الصفحات الأولى لكبريات الصحف في العالم، بل وعلى الشاشات الفضية الصغيرة، وأناس يحملقون فيها مندهشين، متعاطفين ومُعجبين، رسام مشهور منهمك في رسمها في لوحة سريالية أو واقعية..أو جدارية.. وتساءل بفضول: لكن بماذا سيُعنْون اللّوحة؟
نقَل نظراته إلى مؤخرات اللاجئين: النساء والرجال وحتى الأطفال، وأخذ يجري مقارنة بينها وبين مؤخرته: هذه كبيرة وتلك صغيرة وأمّا تلك فمدورة و ثقيلة..
ودفعه الفضول إلى معرفة أصحاب كل واحدة منها، فنقل نظره إلى وجوههم، وراح يتأملها واحدة واحدة: وجوه كالحة وأخرى مستبشرة وغيرها حائرة.. وتدفقت الأسئلة في داخله وهو يتغلغل في دواخلهم: هذه المرأة الشابة بماذا تفكر؟ وما الذي دفعها لركوب البحر رغم أنها ضعيفة البنية لا تجيد السباحة، لابدّ أنها سمعت بالقصص التي تروى عن غرق اللاجئين في البحر، ماذا ستفعل واحدة مثلها في ألمانيا؟ هل البحث عن الأمان هو السبب الوحيد يا ترى؟
وهذا الرجل الذي يقبض على يد وَلَده وإلى جانبه تجلس امرأته. ألا يخشى من الغرق كما حدث لعائلة إيلان، ابن مدينة كوباني السورية؟ وماذا لو تكررت تلك المأساة معه هذه المرة، أم انه يظن نفسه استثناءً؟ وإن عزرائيل سيكون رحيماً هذه المرة، وأن الموت لايكرر نفسه، مثل التاريخ، كما يكرر صديقه التقدمي بمناسبة وبدون مناسبة في الآونة الأخيرة، مُذ بدأ هذا الربيع الدامي.
نهض أمام عينيه مشهد الزوجين وهما يتحاوران بعصبية في بيتهما، كانت المرأة تبكي فيه وهي تضم ولدها إليها بقوة والرجل يحاول إقناعها، ثم وجد هذا الرجل وهو يضع ثمن بينه الذي باعه في يد مهرب له شكل مخيف: وجه ذئب وجسم إنسان. وهذه المرأة العجوز؛ يا إلهي! تساءل في نفسه باستغراب وهو يتأمل عجوزاً في العقد السابع من عمرها تسير بتثاقل على الشاطئ ثم تجلس قرب البحر وهي تتأمل هذا المدَّ الشاسع من الأزرق المخيف، دقق النظرَ في كل حركاتها المتثاقلة: ما الذي دفعك إلى هذه المغامرة يا جدة، ماذا ستفعلين هناك؛ في بلاد الغربة، وكم بقيّ لك من العمر كي تبحثي عن الراحة والسعادة؟ وتذكر أن العجائز مثلها كنَّ حين يسافرن خارج الوطن أيام زمان، بل خارج مدنهم، كان الحج هو قبلتهن الوحيدة، وهذه العجوز، هل تظن نفسها ذاهبة إلى الحج، أم أن أولادها الذين هاجروا قبلها قد أرسلوا في طلبها للتخلص من بكائها المتواصل على السكايب، ومن تقريع الناس، وكاد أن يطلق ضحكة عالية وهو يبني مشهد العجوز وهي تتحدث عبر الهاتف النقال والسكايب بفمها الأدرد.
ووجد نفسه ينسل داخل كل فرد ممن حوله وهو يتكهن: هذه هربت من الجوع ولسان حالها يقول: الجوع كافر، وذاك من القذائف التي كانت تهطل على حيه كحبات البرد، وتلك للحاق بأهلها أو حسداً من جاراتها اللواتي وصلن إلى بلاد ماما ميركل.. وهؤلاء الشبان الذين ينفثون الدخان من سجائر مختلفة الأنواع، ويتبادلون الأحاديث القصيرة، ويتجولون في المكان بقلق، لابدّ أنهم هربوا من الجندية أو من الجماعات المسلحة والموت المجاني، مثله تماماً، وقد يكون بينهم من شارك مثله في المظاهرات الأولى، تلك الني كانت أشبه بأعراس الحرية، وحين راحت الأجهزة الأمنية تتصب له الفخاخ كي تصطاده.. هرب بجلده. وقد تكون صور رفاق وأصدقاء لهم في الفيسبوك هي السبب، صور أعتاد شباب وصلوا للتو إلى أوربا على التقاطها أمام الكامب وفي المخيمات والكتابة تحتها: لقد وصلت إلى ألمانيا، باركوا لي يا شباب لقد وصلت، وأخيراً وصلنا…عبارات وجمل وصور ألتقطت في أشكال وزوايا مختلفة، تفعل فعلها المثير للحماس والغيرة لدى غالبية الشباب، بل والفتيات والنساء أيضاً.
وقفزت إلى سطح ذاكرته صور أمه وأختيه اللواتي تركهن خلفه في بلاد الغربة، في الجارة تركيا، بعيداً عن مدينته الواقعة على تخوم هذا البلد، حيث لا أهل ولا أصدقاء أوفياء، فانقبض قلبه، وازداد انقباضاً حين تخيل مصيرهما لو انقلب هذا البلم وسط البحر وغرق مع من غرق من هؤلاء اللاجئين؟
نهض أمامه مشهد الغرق بكامل رعبه، كائنات لها وجوه صفراء وعيون كبيرة مفتوحة على أتساعها وأفواه كبيرة تنبعث منها حشرجات وصيحات استغاثة.. وأجساد تتقافز في كل اتجاه، وأذرع تمتد وتُلّوح وتقبض على بعضها بعضاً ثم تختفي فجأة وتغوص في الأعماق، ليظهر بعضها ويختفي بعضها الآخر بعد لحظات، وقد انطبع على الوجوه المطلة من تحت المياه تعبير رعب مخيف..تماماً كما في مشهد غرق سفينة التيتانيك في الفلم الذي حمل اسم السفينة، أو في مشاهد غرق أبناء بلده على الشاشات الصغيرة، وعلى صفحات التواصل الاجتماعي، ورأى نفسه وسط هذا المشهد، ليس كجاك في الفلم وهو يموت بشهامة وبطولة من أجل إنقاذ حبيبته روز، بل كائناً مرعوباً يضرب المياه بكفيه وهو يحاول الإمساك بأي شيء، حتى ولو كان هذا الشيء قشة كما يقول المثل، ثم وهو يبتلع المياه حين لا يعثر على تلك القشة، ويهبط إلى الأسفل ويستقر جسده في قعر البحر، وتجتمع حوله الأسماك وهي فاتحة أفواهها؛ أسماك كبيرة وصغيرة شبيهة بتلك التي كان يشاهدها مرصوفة في سوق الخضار في مدينته، وقد غُطت بقطع الثلج منعاً من أن يصيبها الفساد والتفسخ من شدة الحرّ في صيف مدينته، فكان لا يلتفت نحوها، لأنه لا يحسن تناول لحمها وتجريده من الحسك بعناية فائقة، وهو ما لم يكن يطيق صبراً على فعله، لأنه شخص يزدرد الطعام قبل أن ينتهي من طحنه جيداً في فمه، ولقد أساءت إليه هذه العادة كثيراً، وفي أكثر من مناسبة أو دعوة إلى الطعام. وتمنى على الأسماك أن تذكر له هذا الصنيع ولا تلتهمه، وخشي أن هي التهمته، تصبح يوماً طعاماً لأمه وأختيه، وذلك بعد أن يصطادها أحدهم ويحملها إلى بلده، وأحس بنفسه داخل فم أمه أو أختيه، يمضغن لحمه مع لحم السمك بتمهل ولذة، ثم يبدأن بعد شرب الشاي بلطم أنفسهن وهن يتمنين العثور على جسده الذي غرق في البحر، وقد تتقيأ الأم ما تناولته مباشرة، فمعدة الأم أيضاً، مثل قلبها، دليلها، وتخيل النسوة من الجارات اللواتي سيحطنّ بأمه وأختيه وهن يشاركنهنْ البكاء، لا حزناً عليه، بل على عزيز فقدنه.. وتساءل بقلب منقبض عمن سيقوم بواجب العزاء من الرجال، وخدمة المعزين تحت الخيمة التي ستُنصب في الشارع، فيقدم للمعزين القهوة والماء. فخاله الوحيد رجل عجوز وأولاده أيضاً غادروا البلد، إلى بلاد أوربا وماما ميركل، وأولاد عمته مازالوا صغاراً، وأحسَّ بقلبه يعتصر حين تجسدت خيمة العزاء أمام ناظريه خالية من المعزين إلا من بعض الجيران، ثم الاكتفاء بدفنه على عجل وكأنه حيوان أجرب بدون نصب خيمة صغيرة، إذ قلما يحظى موت فقير بمجلس عزاء تحت خيمة كبيرة وغير مهلهلة، وإذا حدث واستدان أهله تكاليف العزاء، فإن الأمر سيكون كحفلة زواج الفقير ناد وسط البلد؛ مثار سخرية المعزين كما المهنئين، همز ولمز وتعليقات الجميع وهم يغادرون المكان: الحفل وخيمة العزاء، وكاد يبكي حظه العاثر لولا صوت قوي انبعث من خلفه:
– اهرب يا حمار، الأمن التركي سيعتقلك..اهرب بسرعة.
نزع نظراته وروحه من مشهد العزاء المتخيل، وراح يمسح بهما المكان المحيط به، فشاهد عناصر من دورية الأمن التركي وهي تقبض على بعض اللاجئين وتلاحق الفارين منهم.
وقبل أن يؤتي بحركة ويطلق ساقيه للريح، مثلما فعل أكثر من شاب، وجد نفسه أسير قبضات قوية راحت تجره نحو سيارة كبيرة وتدفعه إلى جوفها، ليشاهد نفسه مع أفراد المجموعة التي كانت على الشاطئ.
حين انطلقت السيارة بهم، وابتعدت عن الشاطئ، داخله شعور سار وهو يشيَّع البحر الذي راح ينأى عنه بنظرات الارتياح، شعور راح يمازج مشاعر وأحاسيس أخرى مختلفة، همس صوت بالقرب من أذنه مطمئناً، وذلك حين وجد وجهه سماء لغيوم متلبدة:
-لا تخش شيئاَ، سنعاود الكرة غداً، فالأمن التركي لن يحتفظ بنا سوى لساعات.
لم تنقشع الغيوم عن سماء روحه، وازداد وجهه تجهماً وهو يشاهد تلك الأسماك، الصغيرة والكبيرة، تعاود نهش جسده المسجى في قاع البحر، قطعة قطعة.
في عرض البحر:
في فجر اليوم الثاني، وبينما الليل يحزم حقائبه ويهم بمغادرة السماء، إيذاناً بقدوم الصباح الذي سيمسح عن الأشياء ما علق بها من سواد، مصحوباً بنسائم الخريف الرخية، والتي لم يجد فيها، الآن، ما كان يتحدث عنه الشعراء والعشاق: أمواج بحر ونسائم رخية وصباح يتنفس.. بل وجد نفسه مع جمع من اللاجئين على متن هذا القارب المطاطي المعروف باسم البلم وهو يترنح على سطح مياه البحر كسكير، لم يصدق أن ما هو فيه الآن حقيقة واقعة وليس حلماً أو كابوساً.
بدأ الأمر حين أمرهم المهرب بالنزول إلى البلم، حاول أن يرفع صوته بالرفض لمخالفة المهرب شروط الاتفاق الذي ينص على ألا يتجاوز عدد الركاب أربعين شخصاً، والابحار أثناء طلوع الصبح لا قبيل الفجر، لضمان امكانية رؤيتهم من قبل خفر السواحل لو حدث لهم ما يخشى حدوثه، ولتهدأ الأمواج التي تكون أكثر هياجاً أثناء الليل، ولكنه تردد، ولم يرفع صوته إلا حين سمع أصوات بعض الشباب المحتج، فمزج صوته في أصواتهم التي لم تكن مفهومة، وصمت حين صمت الجميع أمام زجر مسلحين كانوا برفقة المهرب، وتلويحهم بالمسدسات، واستسلم مثل الجميع لدفعه إلى وسط البلم كالأغنام. عَلَت الأصوات بالتذمر حين غادر المركب المطاطي الشاطئ، وراحت تنادي المهرب مستغيثة وراجية، سرعان ما تحولت إلى شتائم حين ابتعد البلم عن الشاطئ، وهبط طائر الخوف على المركب حين فوجئ الجميع بأن قائد البلم ليس سوى واحد منهم، ولم يسبق له أن قاد قارباً، غير أن ذلك لم يجد نفعاً، فالبلم ابتعد عن الشاطئ والمهرب ومرافقاه غادراه بسرعة.
تحولت الشنائم وكلمات التذمر إلى توجيهات وتحذيرات للقبطان وللركاب بالتزام الهدوء وعدم الإتيان بأية حركة، فأية حركة قد تفقد هذا القارب المطاطي الخفيف توازنه وتقلبه بمن فيه، ثم بدأت الأيدي ترتفع إلى السماء برجاء والأصوات بترتيل بعض الآيات القرآنية..أعقب ذلك صمت ثقيل، انكمش الجميع على أنفسهم وتجمدت وجوههم في تعبير رعب وذهول، وكأنها وجه واحد كبير، أو وجوه عديدة لوجه واحد وقد انعكست في مرايا غير مستوية.
لم يشاركهم هياجهم، كان الذهول قد أحاله إلى كتلة جامدة، أشبه بتمثال، تمثال تضج في داخله أمواج الأسئلة وتصطخب: فكل شيء جائز، انقلاب القارب أو ظهور سمك القرش وإحداثه ثقب فيه أو..حتى ظهور وحش من الأعماق فجأة، وحش غريب الشكل شبيه بذلك الذي كان يخرج في مسلسل سندباد الموجه للأطفال، يشق صفحة المياه فجأة وهو يقهقه بصوت مجلجل، لم لا؟ هجس هاجس في داخله: فالبحر عالم غريب، وفي داخله كائنات غريبة: مخيفة ومتوحشة.
سرعان ما سخر من هذا الهاجس بعد أن حاول جاهداً استحضار وتذكر حادثة واقعية مثل هذه التي تجول في رأسه فلم يفلح، فراح يعدُّ الركاب المحتشدين كالبهائم على القارب، والشبيهة بقطعان الغنم المتدافعة في عربات القطار والشاحنات التي كان يراها في محطة تل زيوان القديمة التي بناه في مدينته المحتل الفرنسي، فحرضه ذلك على أن يطلق خواراً أو ثغاء، سخرية لا تقليداً، كما كان يفعل أيام زمان، هو ورفاقه الذين كانوا بذهبون إلى المحطة للدراسة أيام الامتحانات، هرباً من ضجة الأطفال والكبار في بيوتهم الطينية الصغيرة، ولكنه امتنع عن ذلك في اللحظة الأخيرة، خشية أن يتحول هو إلى مادة للسخرية، فحوّل هذه الرغبة إلى الغناء، دندن قليلاً، ثم علا صوته حتى وصل إلى مسامع الجميع:
“مركب ينده عالبحرية.. يا بحرية هيلا هيلا..”
وعلى الفور علا أكثر من صوت بغضب ينهره ويأمره بالتزام الصمت:”ما هذا يا أفندي..هل أنت سكران يا معلم.. هل هذا وقت الغناء، تغني بدل أن تقرأ آية وتدعو ربك طالباً لنا ولك السلامة؟”
وكلمات من هذا القبيل، فصمت وأخذ ينصت للأدعية والآيات القصيرة التي بدأت الأفواه ترددها بتضرع، تحوقل وتبسمل في تمتمات وهمهمات بأعين نصف مغمضة، وأخرى مفتوحة على اتساعها في حملقة في المدى الأزرق، حيث شريط الشاطئ اليوناني يلوح من بعيد، كحبل نجاة، فتحول الجميع أمام ناظريه إلى مشيعين، والقارب إلى جنازة، فازداد خوفه وحاول أن يكرر ما حفظ من آيات قصيرة، فلم يتم أي آية منها، كما كان يحدث معه في كل مجلس عزاء.
ساد صمت ثقيل بعد لحظات، وراحت العيون تنظر بأمل إلى البعيد، تضيق وتنفتح وهي تطل من كل الزوايا: ممن جلسوا في قاع البلم، وممن جلسوا في الزوايا والأطراف..الصغار والكبار، النساء والرجال والشباب.
يذكر أنه، وقبل أن ينطلق نحو أزمير التركية لعبور البحر إلى اليونان، وجه له بعض أصدقائه جملة من النصائح والتوجيهات، كانت نصيحة : ألا ينظر إلى مياه البحر أثناء سير المركب، أكثرها تكراراً، غير أن الفضول الذي يُعد أحد أهم صفاته، دفعه إلى الحملقة في المياه التي كانت هادئة على غير عادتها في مثل هذا الوقت من فصل الخريف، وذلك بعد تردد ومقاومة فاشلة لقوة فضوله، فوجد نفسه ينظر إلى الأسفل، ويغوص بنظراته عميقاً في هذا السائل الأزرق الكثيف الذي يهدر بغضب مكتوم، حتى وصلت إلى قعر البحر حيث أسراب من الأسماك وهي تحوم في المكان، وتنظر نحوه بأفواه مفتوحة، فداخله إحساس مخيف راح يكبر وهو يشاهد سمك قرش يطرد تلك الأسماك المتكاثرة، ثم يوجه نحوه نظرات شرهة، أحس أنه مسلوب الإرادة وكأن سحراً ما قد مسَّه وجعله ينجذب نحو ذلك الكائن البحري الذي طالما سمع عن شراسته وشاهدها في الأفلام، وأطلق شهقة رعب مكتومة وهو يشاهد هذا الوحش يصعد نحوه فاتحاً فماً مليئاً بالأسنان الكبيرة والمسننة، لم يدر كم من الوقت مضى وهو في مكانه في قعر البحر، إذ وجد نفسه وقد جفل فجأة حين مسَّه أحد الركاب، وخصه بنظرة عتب قاسية، تنفس الصعداء، ونقل نظراته بين الوجوه الواجمة، والنظرات المتسمرة على البعيد، استقرت نظراته على وجه تلك العجوز صاحبة الفم الأدرد، والتي وجدها تمتم وهي ترفع يديها إلى السماء، فأحس بالراحة منها، وقال في نفسه : من يدري، فقد يمدُّ الله يد المساعدة لنا كرمى هذه العجوز، وتمنى عليها في سرّه أن تستمر في التضرع والدعاء. وحين مسح وجوه الركاب بنظرة سريعة، كما يحدث لمن يستيقظ من كابوس، أدهشه التبدل الطارئ الذي حدث لوجوه الركاب التي اكتست سيماء الطيبة والتقوى، ونظرات الأمل والرجاء تشع من عيونهم، فأحس وكأنه في حضرة حشد من المتعبدين الخُلّص، صوفيين ورهبان، على عكس ما كانت عليه هذه الوجوه حين كان أصحابها هناك، على الشاطئ.
داخله أحساس سار، ونظر إلى البعيد، إلى حيث تقع جزيرة ميليت اليونانية، ولمّا وجدها ما تزال بعيدة، تكاد لا تبين، عاد إلى النظر في مرآة البحر، والتي بدأت تعكس على صفحتها صور وجوه وأشكالاً غريبة، بل وأحداثاً كانت قد وقعت له في زمن مضى، وأخرى ستقع في المستقبل، فأحس بأنه عرّاف، وأن البحر فنجانه.
كانت صورة بيته في مدينته أول ما ظهرت له: بيت يقع في حي شعبي قديم سمي باسم رجل اقطاعي كبير: قدوربك، ثلاث غرف طينية واطئة الأسقف، يطل باب كل منها على باحة غير كبيرة، وغير بعيد عن هذه الغرف ثمة مطبخ صغير وحمام، وبعيد عنه، وبالقرب من باب الدار، يقع المرحاض، كما هي العادة في أغلب البيوت الواقعة في الأحياء الشعبية من مدينته نصف الريفية كما كان يصفها مقارنة بالعاصمة دمشق أو مدينة كبيرة مثل حلب؛ في هذه الدار قضى طفولته السعيدة، وحتى شبابه، قبل أن يضطر إلى بيعه لتأمين تكاليف هذه الرحلة. تواردت ذكريات كثيرة إلى مخيلته، حتى وجد في واحدة منها والده المتوفي وهو في وسط الدار يحلق ذقنه، فيما كان هو الطفل المدلل يلعب بالكرة، ثم وهو يحمل وثيقة النجاح ويقتحم باب الدار ويصيح بأعلى صوته معلناً نجاحه، فتطلق الأم زغرودة طويلة، ويضمه والده إلى صدره بقوة ومن ثم يرقص وسط الدار على وقع موسيقى شعبية صاخبة
وأخذت الصور تتوالى، لتقف على صورة أمه وهي تلطم وجهها وتنادي أبيه الممدد جثة هامدة في صحن الدار والناس حولها في حالة شفقة وحزن، بوجوه بليدة وحزينة و حيادية.
وظهرت له صورة أمه وهي تنظر إليه برجاء، وشباب غرباء يعترضون طريق أختيه وهم يضحكون ساخرين عابثين.
وتوالت أمام ناظريه أحداث وصور وأشكال غريبة لوجوه: مخيفة ومطاطية، وهي تولول وتضحك وتدمدم.
بدأ صوت لهاثه يعلو شيئاً فشيئاً، وصدرت عنه صيحة فزع كمن هبَّ من كابوس. فامسك به أحدهم. وبدأ ينظر إليه بتعاطف، وحدجته بعض العيون بنظرات اللوم والغضب، وسمع من يطمئنه ويطلب منه ألا يخاف ويضع ثقته بالله.
هدأ قليلاً، ثم داخله احساس بالراحة وهو يجد نفسه مايزال حياً، وأن القارب يسير بهدوء، ومياه البحر هادئة، فاستبشر خيراً، وبأن الوصول إلى اليونان ثم ألمانيا قد أصبح قاب قوسين، وأن الحصول على الإقامة أيضاً سيتم بهذه السرعة، حينها سيرسل في طلب أمه وأختيه، ثم تذكر أن ذلك صعب، فلم الشمل يقتصر على الزوجة والأولاد، وخاصة ممن هم تحت السن القانونية، فاستبدل الفكرة بأخرى، إذ سيعمل هناك، ويرسل النقود إلى أمه، أو يعود إلى وطنه حين تضع الحرب أوزارها، وبعود المسلحون، المعارضون منهم والموالون إلى بيوتهم، والغرباء منهم إلى أوطانهم، ويشتري بيتاً، أو يسترجع بيته، الذي سيرتفع سعره إلى اكثر من الضعف، وسيقيم زفافه في هذا البيت، في صحن داره، وسينجب طفلاً شقياً سيلعب في صحن الدار، ويحطم مرآته التي كان ينظر إليها وهو يحلق، كما حدث له ذات مرة حين حطم مرآة والده حين كان ينظر إليها وهو يحلق ذقنه، وسيركض خلف ولده ويناديه متصنعاً الغضب كما فعل والده في ذلك اليوم البعيد.. وفجأة نهض من مكانه وبدأ يناديه وهو يضحك.
توجهت العيون كلها نحوه، واتسعت رعباً، ودبّ الذعر بين سكان المركب الذي زلزال زلزاله، وتحول الجميع، أولئك الذين كاتوا قبل قليل كائنات وديعة، لها وجوه سمحة وأذرع ضارعة، إلى كائنات غريبة، لها وجوه وعيون مستطيلة ومربعة ودائرية..وأذرع شوكية وفولاذية، وأصوات أشبه بعزيف الجن، ونباح الكلاب، كان وجه تلك العجوز أول ما وقعت عليه نظراته: وجه مرعب يحدق فيه بحقد ويصيح من فم أجوف وكبير بأمر، حتى النساء والأطفال لم تعد وجوههم كما كانت عليه من قبل، جميلة ووديعة وقلقة، كل شيء تحول في لمحة بصر إلى كابوس، ومشهد في الجحيم، فلم يعبأ بذلك، وهمّ بملاحقة ولده الشقي، والإمساك به وطبع قبلة على وجهه.. وفجأة، وكما يحدث في الكوابيس التي كان يشاهدها كثيراً في الأونة الأخيرة، مِذ علت أصوات النيران في سماء وطنه، وغطت الرايات السود اللافتات الملونة التي كانت تزين كل مظاهرة، وجد نفسه مقذوفاً في الفضاء، وصيحة جماعية تنبعث من أفواه الجميع، مثل كورس من كائنات متوحشة، صيحة هادرة ومرعبة، ترافق سقوطه في البحر.
وكما يحدث أمام عرض سينمائي قاس، كانت العيون التي امتلأت بالرعب والغضب، تتابع بذهول كائناً يتخبط في البحر، يعلو ويهبط وهو يضرب الماء بذراعين ضارعتين ووجه يطلق صيحات مبهمة وقوية وهو يتربع ويستطيل ويستدير.
لم يدم الأمر طويلاً، إذ، ما هي إلا صيحة واحدة انطلقت من وسط الركاب، مجلجلة وفرحة، تحولت تلك العيون عنه، واتجهت، ونظرات حلوة تبرق منها، صوب المكان الذي راح اسمه يتردد في سماء البحر بفرح طاغ:
-ميليت
اسطنبول شتاء 2015
كاتب من سوريا يقيم في ألمانيا
* نشرت في مجلة الجديد اللندنية عدد نيسان 2016