الدرامية في التراث الكردي

أحمد اسماعيل اسماعيل 
ما أن يُذكر الكُردَ، أو الكردي، حتى تقفز إلى ذهن من يجهل هذا الشعب، عدا اسم القائد التاريخي صلاح الدين الأيوبي، صورة رجل جبلي في ثياب فضفاضة، يعتمر كوفية، ويعلق على كتفه بندقية، يُطلق عليه اسم غامض هو “البشمركة”، أو اسم آخر برز حديثاً في الشمال الشرقي من سوريا ويدعى ” قوات الحماية الشعبية”، يحدث ذلك عادة كلما نشب نزاع في المنطقة، مسلح أو سياسي، حتى بات ذكر الكردي لدى كثير من أبناء المنطقة مرتبط بحالة الحرب والنزاعات في المنطقة، أما في حالة السلم، فتكاد صورة الكردي تكون غائمة، بل مُغيبة، وذلك رغم كل ما يشهد لهذا الشعب من جنوح للسلم وعشق للفرح. ناهيك عن حضور قوي في المشهد الإبداعي في كل مربع تواجدهم الجغرافي الذي مزقته الأسلاك والسياسات الشائكة: سليم بركات وبلند الحيدري وأسماء أخرى غير معاصرة مثل: أحمد شوقي والعائلة التيمورية ومن قبلهم أبناء الكُثير وابن خلكان .. والروائي والسينمائي يلماز غوني والروائي يشار كمال في تركيا والمخرج السينمائي بهمن قوباي مؤخراً في إيران..ناهيك عمن كتب ويكتب بالكردية، قديماً وحديثاً.   
التراث ووعي الفنان:
لم يقطع المسرح عبر تاريخه الطويل الذي يعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد حبل السرة مع التراث الذي ولد من رحمه، ليس وفاءً وطاعة، فلا شيء يفقد المسرح كينونته بقدر اتصافه بهاتين الصفتين أو الخصلتين، بل حاجةً إلى الأصالة والتغذية المستمرة رغم تعدد المصادر الذي ينهل منها مواضيعه وصيغه الفنية، وهو ما أدركه المسرح منذ البدايات الأولى له، وقد عبر أسخيلوس أبو الدراما عن ذلك بقوله (إني أقنع بما يتساقط عن مائدة هوميروس من فتات) ومنذ ذلك التاريخ، ورغم ازدياد الموائد الحافلة بالمواد المختلفة، الشهية إبداعياً، حرص المسرح على عدم الابتعاد عن مائدة التراث العامرة بكل ما هو أسطوري وشعبي وديني وتاريخي، يأخذ منه ما يفيد حاضره وقضيته، ويضيف إليه أبعاداً جديدة من خلال رؤية معاصرة، تتجاوز التصور السكوني للتراث، المتحفي والمقدس، دون اقتصار على نقل المعارف ومضامين المادة التراثية، تحقيقاً لما يخدم الحاضر والمستقبل في صيغة جمالية نابعة من ذاكرة الناس الجمعية. ومعبرة عن وجدانهم. 
– غنى التراث الكردي وبؤس حال صاحبه:
قد لا يملك الكُرد، وهم شعب عريق وأصيل في المنطقة، شيئاً مميزاً وثرياً يؤكد أصالتهم كأمة وهويتهم كشعب قدر امتلاكهم للتراث، فقد وضع هذا الشعب كل مدّخراته الروحية من حكايات وأمثال وملاحم وغناء وأشكال فرجة في وعاء التراث وخابيته، ومازال الكرد يثرون تراثهم غناءً ورقصاً وحكايات في زمن كفَّتْ فيه غالبية شعوب المعمورة التي غادرت الماضي عن فعل ذلك، في تفرد ناتج عما يشبه التعويض عن النقص الحاصل في حياة هذا الشعب، فبغياب أو تغييب الكلمة المكتوبة ومؤسساتها لم يجد الكُرد وسيلة أفضل من التراث بكل مفرداته وحقوله للتعبير عن أفراحهم وأحزانهم وأحلامهم. 
غير أن هذا الغنى، كماً وكيفاً، لم يجد من يحفظه كتابة وأرشفة ودراسة؛ أو يستثمره في حقول إبداعية مثل الشعر والقصة والرواية، أو يحسن صياغته في مجالات فنية مثل الرسم والنحت والمسرح والسينما.  
لا يتسع المجال هنا لذكر المواد التراثية الكردية القابلة للاستلهام، من حكايات وملاحم وأساطير وأغان، مثل حكاية درويشي عفدي، ومم آلان، وأسطورة كوماربي، وهارباك، ورشو داري. وقلعة دمدم. أو بعض أشكال الفرجة الجنينية التي يمكن الاستفادة منها في الصيغة الجمالية للعرض المسرحي. كأسلوب أداء بعض المهرجين من أمثال نادو ولطو وحليمو القريبة الشبه بفن المونودراما. ولعبة العريس الحاكم وكثير من مسامرات القرويين. 
-سيامند سليفي:
تمتاز ملحمة سيامند سليفي، أو سيامند وخجي، الشعبية التي رويت بأكثر من شكل عن مأساة فتى يتيم وفقير يخطف الفتاة الجميلة خجي متحدياً أخوتها السبعة وكل أبناء قريتها، تمتاز هذه الملحمة بأنها تستوفي مراحل حياة البطل في السير والملاحم الشعبية، بدءاً بمرحلة التكوين التي تدور حول حياته وما يلاقيه من ضروب الظلم في مجتمعه؛ حيث تكون البداية في بيت عمه الذي يلقى فيه قسوة امرأة العم خاصة، حتى يأتي اليوم الذي يقرر فيه الانتقام منها ومن عمه ومن كل أهالي قريته. وتكون البداية بخدعة تجعل امرأة عمه تنحر الجاموسة الوحيدة التي يملكها العم وتطبخ لحمها على نار خشب سقف البيت وذلك حسب رغبة العم الذي أوصلها سيامند كذباً وبهتاناً. وتكون النتيجة، بعد كشف هذه الخدعة، طرد سيامند من البيت ومن القرية أيضاً. وفي البرية التي يتخذها مسكناً له؛ يستمر سيامند في ممارسة الشقاوة، فيقطع آذان الحمير ويجدع أنوف البقر ويكسر قرون الماعز، ويضيق أهل القرية ذرعاً به وبأفعاله، ويقررون ملاحقته في الجبل، ويشتد حصارهم للفتى، وهنا يزوره سيدنا خضر في المنام ويطلب منه مغادرة القرية، مؤكداً له ومطمئناً أنه لن يموت على يد مخلوق بشري، فيغادر هذا الشقي القرية وقد ازداد شقاوة وثقة بالنفس، ليقترف جريمة في أول قرية يحل بها؛ ويتطور الأمر معه ويرتقي مستوى الصراع حين يقاتل محمد أغا جابي ضرائب السلطان العثماني، ويستولي على قافلته، فيدين له الجميع بالولاء، وكل ذلك في دائرة المرحلة الأسطورية التي يتجاوز فيها البطل المرحلة الأولى التي يتخلص فيها مما هو فردي وذاتي؛ وتتحول الشقاوة والثقة بالنفس إلى بطش وغرور. يتعرف بعدها على صياد عصافير ويعقد معه علاقة صداقة متينة أساسها الاستمرار في ممارسة الشقاوة وإيقاع الأذى بالآخرين، يقاتل القدر فلك ( المؤنث كردياً) وينتصر عليها، ثم يقاتل أخوة خجي السبعة وينتصر عليهم. وبكل هذه الانجازات والفوز على كل من تصدى لهذا البطل، ومن ثم وصوله إلى جبل سيبان خلاتي، ترافقه خجي، تكون المرحلة الثالثة من ملحمية هذه الحكاية قد تبلورت واكتملت، وفي أعلى الجبل، وأثناء نوم سيامند الذي يتوسد فخذ خجي، تشاهد هذه الحبيبة وعلاً هزيلاً قميء المنظر يهاجم سبعة أيائل وينتزع واحدة منها من وسطهم ويفر بها، فتطفر دمعة تأثر من عيني الفتاة وتسقط على وجه سيامند الذي ينهض فجأة ويطلب تفسيراً لبكائها ويكثر من الإلحاح، فتضطر خجي لرواية ما شاهدته وأحست به، الأمر الذي يجعله يستشيط غضباً ويقرر ملاحقة الوعل وقتله، لا لأنه، وحسب تفسير غالبية قراء الملحمة، كان السبب في بكاء حبيبته؛ وانقباض قلبها، بل لأن هذه الحبيبة وجدت في وعل هزيل وسيء المنظر شبيهاً له، وهو من هو، بطل قومه وفريد زمنه، وفي الجبل، وبعد طول بحث، يعثر سيامند على خصمه، وينشب بينهما صراع طويل وقاس، تكون النتيجة بفوز البطل الذي يذبح الوعل، غير أن ذلك لم تكن النهاية كما يتوهم سيامند ويتيه غروراً بأنه قتل من يمكن أن يكون نداً له وشبيهاً، حتى ولو كان حيواناً، فتحين من الحيوان الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة حركة ويوجه ركلة لسيامند تدفع به من أعلى قمة جبل سيباني خلات إلى أسفله، حيث واد عميق، وشجرة يسقط عليها، فتمزق أغصانها جسده. لترمي خجي نفسها عليه، وتقاسمه مصيره، وذلك بعد حوار مؤثر يدور بينها وبين سيامند، الذي يرتقي لدى بعض الرواة إلى مصاف قصيدة غنائية. وبهذه الخاتمة المفجعة تكتمل هذه المرحلة الملحمية: السقوط من الأعلى إلى الأسفل. وإن في نهاية غريبة وغير متوقعة شبيهة بما يحدث لأبطال الملاحم والأساطير أمثال: هرقل وأوديب وآخيل والمهلهل.   
بعد كل ما حدث وما مرت به الملحمة من مراحل، تأتي المرحلة الأخيرة لمسيرة بطل الملحمة، هي مرحلة الامتداد التي تبدأ بعد موته الجسدي، وفي تجاوز له، لتمتد عبر الزمان والمكان،  مشبعة بأعمال وقيم وبطولات، هي في حقيقة أمرها من عنديات شعبه، عاكسة معاناته وتطلعاته وأحلامه. تماماً كما هو الحال بالنسبة لسيرة عنترة العبسي، وسيرة أبو زيد الهلالي. 
مقاربة:
إن قراءة متأنية لهذه الملحمة التي أولى المتلقي، الكردي، جانب الحب فيها، تسمية وقيمة، اهتمامه الأكبر في قراءة غير دقيقة لأحداثها ومعانيها، تمكننا من استخلاص كثير من أفكار وقيم مبثوثة في تضاعيف هذه الملحمة الشعبية. ناهيك عن بناء الملحمة الفني، إذ أن الشخصية الرئيسية فيها ليست نمطية، بل نامية وحية بكل ما فيها من تناقضات، طيبة وعنف، إخلاص للصديق وشك فيه، شرف وفسوق، وعشق كبير لخجي وقتل لأخوتها. حسب روايات، أو إذلالهم حسب روايات أخرى. إضافة إلى ثقافة وقيم المجتمع الذي نما وترعرع فيه، والذي لا يخلو من تناقضات؛ لا تقتصر على زمن سيامند ووقوع أحداث الملحمة، بل تحتوي على قيم مرحلة الامتداد في روايات متواترة عبر الأزمان، والتي تتجلى هنا في  الدين مثلاً،  وطريقة التعامل معه، والمتمثل هتا برمزين دينين معروفين هما: القدر وسيدنا خضر، إذ يحارب سيامند الأول، القدر المؤنث كردياً، رغم استحالة ذلك إسلامياً، إذ التسليم به ركن أساسي من أركان دين أبطال ورواة الملحمة، وإن في عملية التفاف لجعل القدر أنثى، وهذا بحد ذاته يحتاج إلى وقفة ودراسة، ويطيع الثاني “سيدنا الخضر” الذي تنبأ له بعدم الموت على يد مخلوق بشري. وبمغادرة وطنه القرية.
 إنها ملحمة تدور حول رجل دفعه الظلم إلى الشقاوة ودفعته الشقاوة إلى ظلم الآخرين ودفعه جبروته إلى الغرور وأوصله الغرور إلى السقوط من أعلى وتمزيق جسده بفعل ركلة حيوان وهو البطل الذي لا مثيل له. في التفاتة ذكية من الراوي الشعبي لتحديد مصير من يتجاوز شرطه الإنساني، ويتشبه بالإلهة، تماماً كما فعلت الميثولوجيا الإغريقية التي منحت مورس ،أو القدر، سلطة عليا تفوق سلطة زوس “رب الأرباب نفسه”. ليتدخل في النهاية ويعاقب كل من يصاب بعلة الغرور، أوديب نموذجاً.
-الأفكار والقيم الرئيسية:
 إذا كان من الخطأ تقديم أي حكاية أو مادة فولكلورية في شكلها الخام، دون تدخل من المسرحي، وهو ما فعله الرواة والمغنيون الشعبيون، فإن ملحمة سيامند تحوي مجموعة من الأفكار والأحداث والقيم من أبرزها:
-التربية القاسية تنج طفلاً شقياً، والطفل الشقي مشروع رجل متطرف أو قائد ظالم.  
– الغرور علة لا تسيء إلى المجتمع فقط بل تقتل صاحبها ، كما حدث لأوديب.
– الانتقام ليس الخيار الوحيد والناجح في رد المظالم.
– مساهمة المجتمع في إفساد الفرد. 
– هامشية المرأة الكردية والقهر الممارس بحقها رغم إخلاصها وتفوق الرجل عليها حتى لو امتلكت قدرات خارقة مثل القدر” فلك”.
  وأهداف ومقولات أخرى كثيرة ستحدد للمبدع الحدث أو الأحداث المناسبة لها،  ورغم توفر أنواع كثيرة من الصراعات: عامودية وأفقية وداخلية وعفوية، والتي تتمثل في مواجهة العفوية البشرية للقدر، وإبراز ذلك كله من خلال حوارات لا تلتزم بالضرورة بما هو وارد في النص الأصلي لمناسبته لزمن الحكاية وليس الزمن الحالي الذي يكتب المبدع له ومن أجله.
  بعض أشكال الفرجة:
     إذا كان ابتداع الصيغة الجمالية حالة ملازمة للمادة الترائية من حكاية أو لعبة أو مثل شعبي.. فقد حوى التراث الكردي في سوريا مثلاً الكثير من الصيغ الجمالية التي يمكن الاستفادة من بعضها فنياً وتوظيفها في عروض مسرحية بهدف إكسابها طابعاً له خصوصيته المحلية والقومية.
     كان من عادة الكرد في الماضي اللجوء إلى ممارسة بعض الألعاب طلباً للتسلية وتزجية أوقات الفراغ في فصل الشتاء خاصة، فتتحول القرية إلى مسرحاً للعبة، وأهلها إلى ممثلين؛ لعبة قد يطول زمنها أو يقصر. ففي لعبة التجارة مثلاً، حيث المكان هو مضافة القرية، والمؤدون أو اللاعبون هم من أبناء القرية أو شبابها، إضافة إلى ضيف غريب لا يمكن أن تكتمل اللعبة بدونه. تكون البداية حين يبادر رجال القرية في اتفاق مسبق أشبه بالمكيدة إلى اقتراح أداء جملة من الألعاب بقصد تزجية أوقات الفراغ، وبعد الاتفاق على القيام بلعبة التجارة مثلاً, وتوزيع الأدوار: التاجر، القصاب، السمسار “الدلال”، صاحب الغنم، والقطيع المؤلف من مجموعة من الشباب، شريطة أن يكون الضيف واحداً من أفراد القطيع، وذلك بتدبير مقصود ومخطط له، يعلم به الجميع ويجهله الضيف. تبدأ اللعبة بإعلان السمسار “الدلال” عن بيع القطيع (الشباب) ويشتري التاجر هذا القطيع بمبلغ معين، وبعد حوار ارتجالي يخفي في طياته الضحك المكتوم الذي يتصاعد مع الحدث الجاري، يعاين القصاب الخِراف لاختيار أفضل خروف لذبحه، ويقع الاختيار على الخروف (الضيف) وهو اختيار مقصود يعرفه الجميع ويجهله الضيف, حينها يقوم القصاب بتمثيل عملية الذبح والسلخ، إلى أن تُرفَعُ قدم الغريب ويُسكب الماء البارد في فتحة سرواله. الأمر الذي يثير جفلة الغريب، ويطلق ضحك الجميع. ومن الملاحظ قرب الشبه بين مثل هذه المسامرة والمسامرات المصرية التي استلهم المسرحي المصري محمود دياب واحدة منها في مسرحيته المائزة “ليالي الحصاد” والتي نحى بها كاتبها منحىً تجاوز هذا المقصد إلى تراجيديا مصرية شعبية استثمر فيها كل ما في هذه المسامرة من طاقة درامية.
    وفي لعبة (سرقة التاجر) التي يكون البطل فيها، والضحية، هو الضيف. تبدأ اللعبة بإعلان أحد رجال القرية عن نزول تاجر في بيت أحد سكان القرية، وحين يقترح آخر سرقته لسبب يجتهد كي يكون وجيهاً ومبرراً, يوافق جميع من في المضافة على القيام بالعملية، ويبدأ اللعب(السرقة) باستئذان الآغا المشارك في اللعب للبدء بالعملية, وذلك بعد إقناع الغريب الذاهل بالانضمام إليهم, ويخرج الجميع قاصدين الهدف، حيث لا تاجر ولا أكياس ملأى بالذهب, بل فخ وشرك للغريب وأكياس محشوة بالحجارة والعصي والمهملات, وعندما يعودون بالمسروقات إلى المضافة ويخفونها في غرفة ما, يتبعهم صاحب البيت المسروق مفتعلاً حالة الغضب, فيرغد ويزبد مطالباً الآغا باسترجاع ما تمت سرقته حالاً ومعاقبة السارق, فيتوعد الآغا الفاعل بأشد العقوبات, وينبري الحضور إلى إعلان تبرئة أنفسهم، مؤكدين، جميعاً، على استحالة صدور مثل هذا الفعل الشنيع عن أهل القرية، أو عن أي واحد منهم، وذلك في اتهام مبطن للضيف الغريب، وهنا تبدأ حبكة اللعبة بالتأزم, وتتأزم الشخصية المضحوك منها وهي تنكمش على نفسها في حيرة وخجل، وبعد حوار يطول أو يقصر, يتم إحضار المسروقات التي سرعان ما يتعرف عليها صاحب البيت، وحين تُفرغ الأكياس المسروقة أمام أعين الجميع، حينها فقط يدرك الضيف الذي شارك في هذه المغامرة، وهو يرى هذه المحتويات التي لم تكن سوى أحجار وعصي، أنه كان ضحية مقلب، ويطلق الجميع الضحكات التي كتموها طوال مدة اللعبة المقلب.  
ولعل الصيغة الفنية الأجمل أو الدرامية التي قدمها تراث الكرد في هذه المنطقة تتمثل في ” العريس الحاكم” وهو تقليد كان متبعاً في بعض المناطق وله امتداده في مناطق كردية أخرى خارج الجغرافية السورية، يحددها الموضوع المختار لها من قبل العريس والذي يرتبط بطبيعة شخصية العريس.
الزمن: ليلة زفاف مدتها محددة بدخول العريس على عروسه.
المكان : قرية كردية
الحدث: ليلة زواج
الشخصيات: العريس. وهو حاكم مطلق الصلاحية يأمر فيطاع. أصدقاء العريس وهم بمثابة المعاونون ورجال من داخل القرية وربما من خارجها.
الصراع: يحدد العريس أطرافه ( غني وفقير، ظالم ومظلوم ..)     
الحل أو الخاتمة: وترتبط بدخول العريس على عروسه.
تذكرنا هذه اللعبة بتقنية المسرح داخل المسرح للكاتب الإيطالي لويجي بيرانديلو. وخاصة في رائعته : ست شخصيات تبحث عن مؤلف. وإن بشكلها الجنيني والبسيط.
ويؤكد كثيرون حدوث طرائف وقصص في أعراس لجأت إلى هذه اللعبة، قد تفيد في تعميق هذه التقنية أو الصيغة الجمالية، مثلما حدث حين صادف شاه، أو أحد رجالات السلطان عرساً كردياً، وذلك أثناء مرور قافلته من قرية كردية يقام فيها عرساً، وكما فعل الملك في مسرحية سعد الله ونوس الملك هو الملك التي أرتشفها من ألف ليلة وليلة، دخلت الشخصية في اللعبة، فما كان من العريس الذي منحه العُرف سلطاناً مطلقاً، ويطلب من هذه الشخصية الكبيرة القيام بأفعال والإدلاء بكلام لا يناسب مقامها، وتنفذ الشخصية الأوامر نزولاً عند قانون العُرف، وإن على كره وغضب،  بانتظار دخول العريس على عروسه، الفعل الذي سيسقط، وحسب العرف، سلطانه، ولذلك فإن العريس، وإدراكاً منه لذلك، وتجنباً لانتقام هذه الشخصية المرموقة، امتنع عن الدخول على عروسه زمناً طال أكثر من سنة، وحين تعلم تلك الشخصية التي قررت محاسبة العريس لتطاوله على مقامها، بامتناع العريس على عروسه خشية من انتقامها ومحاسبتها له،  تغفر له تصرفه. وتطاوله، حينها فقط يتمكن العريس من الدخول على عروسه. 
لا شك أن مائدة الكرد التراثية عامرة بما هو إبداعي إلى حدِّ الإدهاش، وتكاد تكون وليمة لكوكبة من المبدعين، غير أن أسباباً يطول شرحها حالت دون تلبية المبدعين الدعوة لهذه الوليمة والجلوس إلى هذه المائدة العامرة.   
كاتب سوري يقيم في ألمانيا  
     مراجع : 
1– رمضاني – مصطفى. توظيف التراث وإشكالية التأصيل في المسرح العربي. مجلة عالم الفكر الكويتية. المجلد السابع عشر. العدد الرابع.1987)
2-سيامند وخجي( رواية شفاهية مغناة للمغنيين الشعبيين( دمر علي، وأحمد كوه لف) أشرطة كاسيت.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ألمانيا- إيسن – في حدث أدبي يثري المكتبة الكردية، صدرت حديثاً رواية “Piştî Çi? (بعد.. ماذا؟)” للكاتب الكردي عباس عباس، أحد أصحاب الأقلام في مجال الأدب الكردي منذ السبعينيات. الرواية صدرت في قامشلي وهي مكتوبة باللغة الكردية الأم، تقع في 200 صفحة من القطع المتوسط، وبطباعة أنيقة وغلاف جميل وسميك، وقدّم لها الناقد برزو محمود بمقدمة…

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…