جــودت هوشيار
لم أكن أتوقع قط أن يثير مقالي الأخير ” عبد الوهاب البياتي في موسكو … ملاحظات وإنطباعات ” كل هذه التعقيبات ، التي وصلتني على بريدي الألكتروني من كتاب وشعراء وصحفيين وخاصة من زملاء الدراسة في موسكو ، الذين يبدو أنني أثرت أشجانهم . وسأشير هنا الى بعض هذه التعقيبات مع ملاحظاتي حولها ، وهي كلها جديرة بالتدوين ،وربما سيستفيد منها من سيكتب الجديد عن سيرة البياتي وشعره المثير للجدل , لأنها تتعلق بشاعر احاط نفسه طوال عشرات السنين بهالة دعائية صنعها بمهارة لا نظير لها في تأريخ الشعر العربي .
قالت كاتبة صحفية أنني كنت قاسياً على البياتي ، ووصفت تفضيلي دراسة الهندسة بأنها بلوى . فقلت:
– لو قرأت يا سيدتي ، ما كتبه الشاعر رشيد ياسين في كتابه ” الثعلب الذي فقد ظله ” عن مهاجمة البياتي العنيفة لجميع الشعراء العراقيين والعرب, وعن الحجم الحقيقي لموهبته الشعرية ، وما كتبه الأستاذ الدكتور عبد الآله الصائغ عن بعض تجاربه المريرة مع البياتي ، لو قرأت كل ذلك ، لما كتبتِ هذا الكلام ، فمقالي عن البياتي ناعم بالمقارنة مع ذكريات الآخرين عن هذا الشاعر الذي ملأ الفضاء الثقافي والأعلامي العربي ضجيجا عن نفسه وشعره عندما كان على قيد الحياة ، ولم يعد أحد يهتم به اليوم أو يقرأ شعره.
ووصفت هذه الكاتبة – التي اكن لها الأحترام – تفضيلي دراسة الهندسة بدلا من الادب بأنها بلوى ابتلينا بها في العراق . ولا أدري لماذا تكون الهندسة بلوى ، والدول تبنى ، والشعوب تتقدم بالعلوم والتكنولوجيا . أما الأبداع الأدبي فأن الأنسان يتعلّمه من محاولاته وتجاربه في الممارسة الدؤوبة لعملية الخلق الفني ومن امعان النظر في تجارب كبار الكتاب في العالم ، وليس عن طريق الدراسة الأكاديمية . كما أن العمل في مهنة أخرى يتيح للكاتب أن يكون في خضم الحياة ، ويكتسب تجارب حياتية تثري نتاجاته الأدبية ، ويؤمن له مستوى لائقاً من المعيشة ، وأن يكتب بحرية كما يشاء .ولا أدري لماذا قفزت الى ذهني – وانا اقرأ هذا التعليق – إحدى طرائف الشَّاعر الفيلسوف جميل صُدقي الزَّهاوي في مجلس «المبعوثان» العثماني، الذي كان يناقش مسألة جباية الضَّرائب، وكانت أُوقفت أوقاف تمنح غلتها للأئمة الذين يقرأون «صحيح البخاري» في البواخر. وعلق الزهاوي على هذه المناقشات قائلاً : «إننا نعرف أن البواخر تسير بالبخار لا بالبخاري، فلماذا لا تُنفق تلك الواردات على نشر التَّعليم ليتقن النَّاس استعمال البخار ما دام هو الذي يُسيّر البواخر، بدل أن ننفقها على قراءة البُخاري، الذي ليس له في تسييرها منفعة» .
وكتب لي شاعر عراقي مغترب يقول : ” لقد كشفت الوجه الثاني للبياتي ” وكانت اجابتي ان البياتي كان له وجه واحد لا وجهين . وجه عابس لا يعرف البسمة ،، فهو متجهم أبداً من دون سبب ، وهذا ما كان يلحظه على الفور كل من خالطه أوالتقى به ولو مرة واحدة في الحياة . واشك إن كان له في الحياة صديق مقرب حقاً. هذا هو الأنطباع العام عن البياتي لكل من عرفه. و الهالة التي احاط نفسه بها كرائد مجدد في الشعر العربي الحديث ، تبددت بعد رحيله ، لأنها كانت هالة خلقتها العلاقات النفعية المتبادلة بينه وبين النقاد المحيطين به ، وصغار الشعراء المقلدين له . لم أقرأ حتى الآن ، رغم مرور حوالي 17 عاما على رحيله مقالاً ايجابيا واحداً عنه .
وقال شاعر عراقي مغترب: أن البياتي كان دائما يركب الموجة السياسية والأيديولوجية الرائجة ، بما يعزز مكانته الشعرية وذيوع اسمه . وكانت اجابتي لهذا الشاعر : ” أنا أفهم أن يغيّر الأنسان قناعاته الفكرية واتجاهه السياسي أوالآيديولوجي بعد ظهور حقائق جديدة تعمّق وعيه ، وتزيل الغشاوة عن عينيه. وهذا لا يحدث في العادة بين ليلة وضحاها ، بل تدريجيا . فالأيمان بإتجاه آيديولوجي معين ، ليس قميصا تخلعه اليوم لتلبس غيره غداّ .
عندما وصل البياتي الى موسكو في نوفمبر 1959 كان النقاش في الأوساط الأدبية ما يزال على أشده حول رواية ( دكتور زيفاغو ) التي نال عنها الشاعر الروسي العظيم بوريس باسترناك جائزة الآداب لعام 1958 . وكانت الرواية قد صدرت لأول مرة باللغة الروسية في روما في العام نفسه . لم يكن البياتي قد قرأ الرواية بطبيعة الحال ، وكان يجهل اللغة الروسية تماماً ، ولم يكن بوسعه قراءة أو فهم الترجمة الأنجليزية ، حتى لو كان قد حصل على نسخة منها ، لأن لغته الأنجليزية لم تكن أفضل من لغته الروسية ، ولكنه مع ذلك شن هجوما لا أخلاقيا شرسا ضد باسترناك والكتاب والشعراء الروس والأجانب ،ومنهم بابلو نيرودا ، وفرنسوا مورياك ، وأندريه موروا ، والبيركامو ، وجون شتاينبيك ، وبرتراند راسل ، و هوارد فاست وعشرات غيرهم من كبار كتاب وشعراء العالم ، الذين وقفوا الى جانب باسترناك في محنته. أما البياتي فقد كتب قصيدة هستيرية نشرها في الطبعة الأولى لديوان ” كلمات لا تموت” ثم حذفها في الطبعات اللأحقة ، يقول فيها مخاطباً الروس :
” يا اخوتي الخضر العيون/ اننا سنجعل من جماجم سادة البترول والعملاء والمتآمرين/ لعبا لأطفال الغد الضاحكين/ فليصنعوا الف زيفاغو والآف الدمى/ ومزيفي التاريخ والمتهرئين / انٌا سنجعل من جماجمهم منافض للسجائر” . وهذه الجمل لا تمت الى الشعر بصلة ، بل أنها نثر رديء كتب بلغة يترفع عنها أي مثقف .
البياتي يجعل من جمجمة باسترناك – أعظم شاعر روسي في القرن العشرين – وجماجم من هبّ للدفاع عنه ( منافض للسجائر ) . ولم يخجل البياتي ولم يرف له جفن ، وهو يكتب هذه الأسطر في وقت يتشدق فيه بصداقته المزعومة لناظم حكمت – فقد كان صوت هذا الشاعر الأنساني العظيم في المحافل الثقافية الروسية ، في تلك الفترة ، أعلى الأصوات المدافعة عن باسترناك وحقه في الأبداع .
كان البياتي قبل سفره الى القاهرة في أواخر عام 1964 يعتبر نفسه شاعراً يساريا ، ويحشر نفسه ضمن الشعراء اليساريين الكبار مثل ناظم حكمت وأراغون ونيرودا ، ولكن عندما شرع بحزم حقائبه استعدادا للرحيل الى القاهرة نشر في الصحف اللبنانية والمصرية عدة قصائد تقريرية مباشرة أشبه بالشعارات في مديح عبد الناصر . حدث هذا عندما كان آلاف اليساريين يقبعون في السجون المصرية ، ومات عدد منهم تحت التعذيب .
لكل طالب بعثة قصة مؤلمة مع البياتي . لم يكن احد منا يشعر بوجود ملحقية ثقافية عراقية في موسكو ترعى شؤوننا ، ولكننا كنا مضطرين لمراجعتها في قضايا رسمية تتطلب موافقتها ، كتغيير الأختصاص أو الأنتقال الى مدينة أو جامعة أخرى . وكان الشاعر – نصير الضعفاء والمظلومين – حجر عثرة أمامنا ، لا يسهّل أمراً الا لقاء منفعة ! هؤلاء الطلبة الذين ترك البياتي ندوباً في قلوبهم ، عاتبوني بقسوة : لماذا لم تكتب عن مسألة مخصصاتنا المنهوبة ، وأنت تعرفها جيداً . قلت لأصدقائي – زملاء الدراسة : لو كتبت كل ما أعرف عن البياتي ” لبدا الأمر وكأنني أنتقم منه.
كان كل طالب بعثة يستلم ( 90 ) ديناراً عراقياً سنويا ، لتغطية كلفة الملابس والكتب ( ما عدا الراتب الشهري الذي كان بالروبل الروسي ) . وكان الدينار في ذلك الوقت يعادل أكثر من ثلاث دولارات أو جنيها استرلينيا.
ملحقنا ( الثقافي ) كان يصرف مخصصات الملابس والكتب بالسعر الرسمي الروسي للدولار الأميركي ، الذي كان يعادل اقل من نصف روبل ، في حين كان سعر الدولار في السوق وفي المتاجر المخصصة للأجانب أكثر من ثلاث روبلات . وبعملية حسابية بسيطة فأنناكنا نستلم أقل من سدس المبلغ المخصص لنا. وعندما كنا نحتج ، كان المحاسب يقول لنا : ” والله تستلمون ما تستلمون أنتم أحرار “. وكانت الحاجة تدفع بنا أحيانا الى استلام المبلغ على مضض . ولم يتغير الحال الا بعد أن إشتكى عدد منا لدى السفير العراقي في موسكو .
. وأمامي الآن رسالة أخرى مطولة من زميل كوردي ، درسنا معا سنة في الكلية التحضيرية. ثم تفرقت بنا السبل . بقيت أنا في موسكو وذهب هو الى لينينغراد ، بعد تخرجنا عملنا معاً لعدة سنوات في منشأة هندسية في العراق، قبل أن يشد هو الرحال الى المملكة المتحدة في أوائل السبعينات ، بعد أن أذاقته مديرية البعثات مرّ العذاب بسبب اهمال البياتي لواجباته الوظيفية تجاه ( طلبة البعثات ) . الرسالة أقرب ما تكون الى مذكرات أليمة ، لذا أقتطف منها بعض الفقرات فحسب . يقول الصديق في رسالته : ” في صيف عام 1961 قدمت الى الملحقية عريضة اطلب فيها الموافقة على تبديل تخصصي من الهندسة الكهربائية الى الهندسة الميكانيكية ، ثم سافرت الى العراق ، وعندما رجعت بعد شهرين بقيت ليلة في موسكو . وفي اليوم التالي اقتنيت تذكرة سفر بالقطار لكي ارجع مساءا الى لينينغراد ، ثم ذهبت الى الملحقية . كانت معاملتي جاهزة ولا تحتاج الا الى نوقيع الملحق . سألني البياتي :
– متى رجعت من العراق ؟ قلت :
– البارحة .
– هل جلبت معك جريدة ( صوت الأحرار )
– نعم .
– وهل فيها مقالة عامر عبدالله حول كذا وكذا ؟
– نعم . قرأتها في الطائرة
– اجلب الجريدة ، وبعد ذلك سأوقع أوراقك !
– ولكن ليس لدي الوقت الكافي ، حيث أن موعد تحرك القطار الى لينينغراد بعد بضع ساعات.
– ان لم تجلب الجريدة لن أوقع على أوراقك !
ويمضي الصديق قائلاً : ” لم أتمكن من من إقناعه ، فقررت السفر ، على أن اكمل المعاملة في وقت لاحق ، ولكن لم أرجع مرة أخرى الى أن حدث انقلاب 8 شباط وتم فصلي من البعثة وسحب جواز سفري لأسباب سياسية ، مع العلم أني لم أكن سياسيا ولم أنتم الى أي حزب طوال حياتي .
عندما رجعت الى العراق بعد اكمال دراستي في سنة 1966 ، تم اعتقالي حال وصولي الى المطار ولكن اطلق سراحي بعد منتصف الليل في اليوم نفسه ، بعد تدخل شخصيات كردية في بغداد . التحقت بكلية الأحتياط ، فأذا بهم يستقطعون ثلث راتبي الشهري لتسديد مصاريف البعثة . وبعد أن اكملت العسكرية وعينت في منشأة صناعية قرب بغداد ، استلمت كتاباً من مديرية البعثات يتضمن الأستمرار في إأستقطاع ثلث راتبي ، لأنني غيرت فرعي من دون موافقة رسمية . وفي سنة 1971 قدمت استقالتي وغادرت العراق الى بريطانيا . مديرية البعثات طلبت من كفيلي أن يدفع المبلغ المتبقي من مصاريف البعثة ، لأنني لم اكمل سبع سنوات خدمة ، في حين انهم صرفوا عليّ أقل من أربع سنوات قبل أن يفصلوني . أكتب لك هذا لتعرف كم تعذبت مع البعثات . وكان نصف هذا العذاب بسبب عبدالوهاب البياتي ، حيث لم يقم بواجبه كما يجب . قرأت قصائد البياتي ” رسائل الى ناظم حكمت ” مما جعلني أتصور ان ناظم حكمت كان من أصدقائه المقربين . أعرف الطبيب الذي ذكرته فقد زرته في شقته مرة أو مرتين ” .
أكتفي بهذا القدر من رسائل زملائي ، لأنني لو سردت محتويات بقية الرسائل التي وصلتني لشغل ذلك صفحات عديدة
المجد الزائف يزول ، والشعر الرديء يموت . وتبقى الذكرى ، حسنة كانت أم مؤلمة . رحم الله البياتي وغفر خطاياه.