حاوره إبراهيم اليوسف
استطاع الشاعر فواز قادري- الكردي، والسوري، ابن الفرات، أن يثبت حضوره في المشهد الشعري السوري، منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتى الآن، عبر اشتغاله على قصيدة النثر التي لم يتخل عنها، ولايزال وفياً لها، ويعد أحد أبرز الذين مازالوا يكتبونها على امتداد ثلاثة عقود ونيف. والشاعر قادري من مواليد 1956. وقد أصدر حتى الآن إحدى عشرة مجموعة شعرية هي:
: 1 ــ وعول الدم 1992 2 ــ بصمات جديدة لأصابع المطر 93 19 3 ــ لا يكفي الذي يكفي 2008 4 ــ نهر بضفة واحدة 2009 5 ــ لم تأت الطيور كما وعدتك 2010 6 ــ في الهواء الطلق 2011 7 ــ قيامة الدم السوري 2012 8 ــ أزهار القيامة 2013 9 ــ كتاب النشور 2014 10 ــ تفتح قرنفل أبيض 11 ــ في الليل 2014 مختارات مترجمة للألمانية.
تميزت قصيدته، بأنها تنطلق من خلال رؤيا إنسانية، كترجمة لموقفه الحياتي الذي لم يحد عنه، من دون أن يغلب المعرفي على الجمالي ضمن معادلة جعلت من مشروعه جديراً بالقراءة والاحتفاء، في هذا الزمن الذي كثرت فيه الأصوات المتشابهة، والدعية. على هامش حصوله على جائزة حامد بدرخان للشعر في دورتها للعام2015 والتي أعلن عنها مؤخراً الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد، أجرت بينوسا نو معه الحوار التالي:
ــ ماذا عن” موت الشعر” وتسيّد بعض الفنون الأخرى مكانه، لاسيّما الرواية؟ أعني، هل من الممكن أن تكون الرواية ديوان العالم؟
ــ حين يتحوّل الإنسان إلى آلة؛ آلة ليس بالمعنى المجازي، بل آلة من لحم ودم، سوف يموت الشعر، ولأنه لن يتحوّل وسيبقى هذه الحالة العذبة المليئة بالتناقضات؛ الغموض والوضوح، الفرح والحزن، الأمل اليأس والكثير من هل الثنائيات التي تحوي تناغمها الداخلي وألفتها رغم التباين والتناقض الخارجي، سنتأكّد يوماً عن يوم، أن الشعر خليل الحياة وعاشقها المفتون الذي لا يفارق ولا ينأى.
فنّ الرواية، ليس فنّاً طارئاً على الحياة، لطالما تعايشت الرواية مع الشعر، منذ أن كتبت الشعوب الملحمة، لهذا لن يأخذ أي منهما مكان الآخر، ولكن قد نلاحظ أحيانأً بعض الانزياحات أو التراجعات، تبدو في الوهلة الاولى، أنها تحدث لصالح أحد الفنون على حساب فنّ آخر..
ــ هل يمكن ظهور جنس أدبي إبداعي جديد على إيقاع دورة الزمن؟ وهل يعني ذلك زوال بعض الأشكال الإبداعية؟
ــ لا بدّ أن تظهر فنون جديدة، قد تكون متحوّلة من فنون سبقتها فتأخذ شيئاً من خاصيّها، أو تكون جديدة كليّاً بكامل ماهيتها.
مادام هناك إمكانية لولادة بعض الفنون الجديدة يا عزيزي، لا بد أن يكون هناك بالمقابل، احتمال لزوال بعض الفنون القديمة، هكذا تقول الحياة..
– هل انطفأ الصراع بين الأشكال الشعرية: العمود- التفعيلة قصيدة النثر؟
ــ إذا كان لا بدّ من استخدام مفردة صراع في الإجابة، أقول: لم يبق صراع بين قصيدة النثر والأشكال السابقة، تبقّى تنافس خفيف بين قصيدة النثر من جهة، وبين العمودي والتفعيلة من جهة أخرى، تنافس لا يرقى إلى صراع كما في بدايات كل شكل جديد مع سابقه، كما يبدو لي، رضيت الأشكال بتعايشها وبالحيّز الذي سمحت به أو فرضته عليها الحياة، وذائقة الناس المتحوّلة، وإن بشكل بطيء، لا يتناسب مع المساحة التي باتت تشغلها قصيدة النثر في ذائقة المثقفين، مساحة فرضها تحوّل الشعراء الهائل، من كتابة الشعر العامودي والتفعيلة، إلى كتابة قصيدة النثر، في الوقت الذي مازالت ذائقة المجتمع تتحرّك ببطء لا يتساوق مع الكم الكبير المطبوع من كتب قصيدة النثر، بمقابل المطبوع من الشعر العامودي والتفعيلة، وهذا حال البناء الفوقي للثقافة بشكل عام، والذي يشكل الشعر أحد روافده، بمقابل القاع الثقافي والمعرفي الذي يتحرك ببطء شديد في ذائقة الشعوب، ويحتاج زمنه الكافي ليتحول إلى ذائقة مجتمعية ويسود، وليشكل هويّة ثقافة الشعوب بشكل عام، والشعريّة منها خاصة.
ــ كيف تنظرون إلى توجه الشاعر إلى كتابة الرواية، هل يتم ذلك لاستكمال شرطه الإبداعي؟
ــ عندما تلحّ الحياة على المبدع، ويكون على الأغلب هناك أكثر من عامل يدفع إلى كتابة الرواية حين يعود الشعر وحده قادراً على الإحاطة بعوالم المبدع، وحين تلحّ عوالم لا يستطيع الشعر التعبير عنها، يلجأ الشاعر إلى كتابة الرواية، أو أيّ فنّ آخر، وأكثر من ذلك، أتصوّر أحياناً أن الذي يعيش في بلداننا أو في بلاد تشبه بلادنا، يحتاج أكثر من غيره من شعراء البلدان الأخرى، إلى أكثر من عمر وأكثر من حياة، لكتابة ما تختصر تجربة حياته إبداعيّاً، ناهيك، عن حاجته إلى كتابة الرواية إلى جانب الشعر، او القصة القصيرة والمقالة أو المسرح، والظاهرة ليست جديدة.
الكثير من الشعراء المهمّين قاموا بذلك، عربيّاً وعالميّاً، ولا أريد أن أعدد الجميع، وهم كثر، يكفي أن أشير إلى البعض: سليم بركات، وجبرا إبراهيم جبرا، وإبراهيم نصرالله، وغيرهم الكثير، كما نجد الظاهرة لا تقتصر على الشعراء الذين يكتبون بالعربية، بل أيضاً، العديد من شعراء العالم كتبوا الرواية إلى جانب الشعر، وقريباً من ذلك،
لا بدّ أن أشير: لم تكن الرواية إلّا وريثة للملاحم التي عرفتها أغلب الشعوب، والملاحم أغلبها كانت شعراً، وزحف الرواية إلى المقدمة هذا لم يأتِ عبثاً، هناك علاقة قديمة مابين الحكي والشعر والرواية.
ــ نحن الآن نعيش عصر الصورة الإلكترونية، هل جاء ذلك على حساب الشعر والسرد، أم أنه من الممكن الاستفادة منها إبداعياً؟ ثمة من يرى أننا في زمن المقال.
ــ نحن نعيش في زمن مختلف قليلاً عن طبيعة الشعر؛ زمن سريع لا يترك لك رفصة أن تستخدم حواسك كما يليق بكَ كإنسان، زمن يسلّع كل شيء، يطوّقك من كل الجهات ويحسب عليك أنفاسك وينهب اجمل ما فيكَ: إحساسك ورهافتك وتلقّيك للعالم بالطريقة التي تلائم روحك. ولكن، حين تعود إلى رشدك وتكتشف كم أنت مهدد بالتماثل والتشابه النقيضين لإنسانيتك، وتعرف أنك خاسر في ساحة تلعب بها الأضواء والأصوات الصاخبة، تطوّرات تقنيّة هائلة، وثورة بالتواصل بحيث لم يعد العالم قرية صغيرة فحسب، بل تصاغر حتى أصبح يسكن في كفّ يد واحدة؛ تستطيع من خلال التلفون المحمول، أن تتواصل مع كامل الكوكب، تراه وتسمع نبضه في أي وقت تريد، ولا بدّ أن تفعل شيئاً أمام هذا التطور، قبل أن تصبح إنساناً أعشى؛ ترى ولاترى، تسمع ولا تسمع، ومن هنا تشعر بحاجة الإنسان القصوى إلى الشعر، لهذا علينا أن نعي كل ما يحصل من تطوّرات خياليّة، من أجل توظيفها في خدمة الشعر خاصة والآداب عامة من أجل أن نبقى على قيد الحساسيّة والشعر كبشر ونخلق توازننا الروحي من أجل أن لا نصبح آلات معدومة الحس والشعور.
لا أظن أن المقال من الممكن أن يستحوذ على الزمن بشكل منفرد، حتى نسمّي مرحلة ما باسمه! على أهمّيّة المقال، أعتقد لن يأخذ أكثر من أن يكون مرافقاً للمناخ الثقافي العام، مرافق ذو اهمية تنقص أوتزيد، حسب الحالة المتناولة، والواقع الأدبي والاجتماعي والسياسي، وأشكال الآداب التي تسود أو تتراجع..
ــ كيف تقيمون الشعر عربياً وعالمياً؟
ــ أعتقد يا إبراهيم الجواب الخامس يتضمن الإجابة على هذا السؤال، كونه يقيّم الشعر ويتحدث عن أهميته في حياة الإنسان، وهذا يشمل الإنسان أينما كان على هذا الكوكب، رغم الفوراق بين المجتمعات، ولكن بالمحصلة، أصبحنا قريبين جداً من بعضنا ومتشابهين في اغترابنا الروحي. وشعورنا بالأشياء وإعادة النظر بعلاقتنا معها، رغم بعض الفوارق.نؤكّد على ضرورة الشعر في حياة الإنسان، من كان وأينما كان وهذا بداية توحّد الإنسان مع إنسانيته، وإعادة اكتشاف نفسه واستعادتها.
نأمل عن قريب، لهذا الكائن الفريد، أن يجد لغة واحدة للتعبير عن كينونته وفرادته، لغة الحب بعلاقته بالأشياء والكائنات والطبيعة وعلاقته بنفس كإنسان، عليه واجبات خارقة اتجاه الكون والوجود ويبقى على يقين الشعر والجمال.
ــ خلال ثورات الربيع العربي لم نجد أي حضور للشعر، بل أن التونسيين عادوا إلى إبراهيم ناجي وقصيدته التي كتبها قبل حوالي قرن!
-هذا السؤال على فرادة من الأهمية يا عزيزي، هناك شيء مدهش حدث، رجّ سكونيّة العالم ويقينه وما كاد أن يكون من ثوابته، ثورات الربيع العربي، كانت هذا الشيء الخارج عن المألوف والمتوقّع ( لهذا تكالب العالم عليها، شرقه وغربه، دول وأحزاب وعصابات ومرتزقة تكاتفوا وأصروا على وأدها قدر ما يستطيعون) مثلما كانت هذه الثورات، حالة فريدة وطارئة، كان لا بدّ للتعبير عنها شعريّاً أن يكون كذلك؛ الثورات التي سبقت الربيع العربي، أستطيع أن أصفها شعرياً، بثورات الشعر العامودي، وجزء منها شعر تفعيلة، بينما ثورات الربيع كانت شعراً حراً وقصيدة نثر بكل معاني الكلمة! وخاصة الثورة السورية التي ابتكرت شكلها الفني للتعبير عن فرادتها، ليس بعيداً كثيراً عن الشعر، تعبير كان جزءاً من فن ابتكرته الحاجة الروحية للفن: “من مثلنا زوّج الساحات لأقدام الراقصين.. والنعوش على الأكتاف تدور” هذا هو الفن الذي عبر به الشعب السوري عن ثورته الفريدة، الرقص في الساحات، وأجساد الشهداء على الأكتاف، والغناء الشعبي والهتاف الثوري المرافق والمعبر عن هوية الثورة، بعيداً عن الشعارات الديني التي ركبت على ظهر الثورة لاحقا، في مواجهة الرصاص المنهمر كالمطر دون توقف، بينما الشعر كان يُكتب وينتظر فضاءات تستقبل أجنحته التبشيريّة لايصال رسالة الثورة إلى العالم، وليس إلى الثوار الذي كانوا يفعلون في الوقع، ويكسرون هيبة القمع والموت معاً، لهذا لم يكونوا محتاجين للخطابة وللحماس التقليدي، راحوا يبتكرون أهازيجهم الخالدة! بينما الشعر الذي كُتب عن الثورة وللثورة، ظلّ أسير التقاليد الشعرية البالية التي تحاصره في دوريات الشعر ومنابر الموتى، والكتب التي طُبعت ولم يقرأه إلا القليل، ولم يكتب عنها إلّا الأقل من القليل، لهذا نسأل: أين ما كتب عن الثورة؟ ولماذا لم يتابع النقد الوافي والمتمعّن والمكتشف، النقد الغائب في أشدّ الأوقات الذي تحتاجه ظاهرة الكتابة الشعرية عن الثورة، لمعرفة هذه الظاهرة الفريدة والغير مسبوقة، حتى نعرفها ونعرف قيمتها الإبداعية! وعلى ما أعتقد، هناك في الوقت القريب ستتغير معايير النقد وقيم النقد الإخواني والمجامل، وسيذهب إلى اكتشافات ابداعية بمعايير الإبداع وقيمه الجماليّة والإنسانية الخالصة.
ــ ثمة من يتحدث عن النص التفاعلي، والقصيدة التفاعلية، أو الإلكترونية أو الزرقاء كيف تنظرون إلى هذا؟
ــ في الحقيقة لم يتح لي أن أكوّن رأياّ عن ما تم الحديث عنه، مع تفهّمي لكلّ التجارب؛ من حق الجميع أن يحاولوا البحث عن طرق أو وسائل تعبر عنهم وعن تجاربهم وأن يجرّبوا كل شيء بحثاً واكتشافاً لعوالم لم نعرفها من قبل.
بالمحصلة لن يبقى إلا الذي يعبّر عن ما يستجد في حياة الناس والمجتمعات.
ــ وماذا عن رأيكم في النص الشعري الفيسبوكي؟
ــ في البداية، ملأني الفيس بوك رعباُ على الشعر، رغم أني أتعامل مع كل جديد بهدوء وتريّث، أحاول أن أكتشفه وأعرفه قبل أن أتّخذ موقفاً منه، لكني مع الفيس بوك، خفتُ على قصيدتي، ولكن بعد أن دفعتني الحياة والحاجة للتواصل مع الناس، للتعامل مع الفيس، سرعان ما اختلف الحال، صار الفيس رفيق صباحاتي وقصيدتي، كل يوم أهزّ شجرة الشعر فتتساقط نجوم الحياة علي في النهار. لا شك، هذه العلاقة التي تمتّنت أواصرها، فيها شيء من الخطورة، مثل كل شيء جديد، على الإنسان بشكل عام، وعلى المبدع على الأوجه الأخص، علينا أن نبحث عن الجانب المفيد والايجابي في كل ما يستجد في الحياة ونتجنب ما يؤثّر سلباً. يؤثر الذي يستجد على الحياة، حتى على شكل القصيدة؛ هذا مالمسته في علاقتي مع الفيسبوك، من حيث شكل القصيدة وبنائها ولغتها: (الطارئ على الشعر وما عودة ” النص المكثف اليومي البريفيري أو قصيدة الومضة” إلّا إستجابة لما تتقبله الحياة، فتستعيده لأنه يلبي احتياجاتها المستجدة مع ما يطرأ على القديم من تغيير) وهذا ينطبق على الحالات التي لم تعد نجدها في الشعر: ” انحسار الأسطورة “وغياب الشعر الملحمي وتراخي قبضة الغموض على عنق القصيدة، بحيث بات جليّاً الفارق بين الايحاء وأحد أدواته الصورة الشعريّة، وبين العماء الذي يدفعنا إليه اللعب باللغة ذهنيّاً، هذا ما يفعله بعض الشعراء الذي يتقصّدون الولوج بالعتمة، وليس انبثاقاً من طبيعة التجربة الشعريّة وروح الشاعر التي تتجلّى أو تغيم في هذا النص أو ذاك.
ــ ثمة من يرى أن قطار الحداثة توقف وما عدنا أمام فتوحات جديدة بمستوى اللحظة الراهنة التي نعيشها!
ــ حين تتوقف الحياة، نستطيع أن نتكلم عن توقّف الحداثة، ولكن المصطلح كان بحد ذاته إشكاليّاً دائماً، لهذا قد نتكلم طويلاً عنه ونكتشف لاحقاً، أننا نتكلم عن شيء آخر غير الحداثة!
نحتاج دائماً لطرح أسئلة الحياة عليها من خلال المنجز وليس التنظير فقط.