لا تمطر السماء إلا بعد أن تكون الغيوم قبلها قد تكاثفت, لا ينبلج النهار إلا ويكون الليل قبله قد أسدل ستاره، لا تتفاقم الآلام إلا أن تكون هناك جراح متراكمة, ولا تتعالى سحب الدخان في السماء دون أن يكون قبله قد شب حريق ونار.
لم أعرف قط كيف يلعب الأطفال, ولم ألمس بطرف من طفولتي ولا أحسست حتى بفرح الأطفال عندما تشترى لهم الألعاب, وتهدى إليهم الهدايا, بل عرفت حق المعرفة وحفظت نغمة طرق البوليس على بابنا في منتصف الليل, واحتفظت بها في ذاكرتي جيدًا وحتى الآن, كانت هي اللعبة الوحيدة التي كنت ألعبُ بها أكثر الأحيان. أما لعبتي التي كنت أمتلكها في صغري أضمها إلى صدري لتشاركني أحزاني فكانت من عودين متصلبين في رأس أحد أطرافها خرزة كبيرة ملفوفة بقطعة قماش بال وغطاء قنينة الكازوزة يصبح وجهاً لها رسمتُ عليه نقطتين وسيفين وأنف بارز وفم صامت بلا سمات, وكان كل هذا بالمجان . كما أنني درست أقوال أختي الكبيرة (سينم) رحمها الله وحفظتها كالقرآن. كانت تنبهني وتقول لي إذا فتحت الباب لأحد لا تخبريه عن مكان تواجد والدي, بل اصمتي أو قولي إسألوا أختي الكبيرة, لا تأخذي النقود والحلوى من يديهم فهم بوليس يخدعون وليس لهم أمان, ونحن نعيش يا أختي في عصر رهيب وعائلتنا تعاني الكثير من الآلام التي هم ألحقوها بنا لأننا نعمل من أجل قضية أمتنا ونيل حقوقنا الإنسانية, انتبهي جيداً وكوني حذرة ويقظة يا أختي .
ويل نفسي! كم كان درسًا رهيبًا تلقيته وأنا طفلة غضة صغيرة لا أعرف شيئاً, لكنني حفظته جيدًا مع أنه كان من أصعب الدروس. لم أتجاوز تلك المحنة وحتى الآن مازال الصمت يلفني, والخوف يرافقني في أكثر الأحيان, وتساؤلاتي عن الأمل تزداد يوماً بعد يوم,. أقول لكم:
أنا لا أدعي أنني كاتبة درستُ الآداب واللغات ولا النقد والبيان, بل درست في كل مراحل عمري عن جميع أنواع الآلام, كتبت عن كل السنوات حتى تلك المرحلة والشهور التي سبقت ولادتي وأنا في بطن أمي, عن المآسي والويلات, كتبت كيف أخفي طفولتي وراء القضبان لأحتفظ بها ردحاً من الزمن, لذا حاولت بعدها هدم كل الجدران وخلع كل القضبان لأجد طفولتي وأنعم ردحاً من الزمن بالأمان, لكنني لم أفلح, فاقتنعت بمبدأ أن أزول ليعيش الآخرون في أمان, لأنير الطريق وأبني مع المبدعين جسراً وصرحاً للأجيال, بل أزرع وروداً من بقايا تلك الطفولة المخفية, فذكرياتي هي فيض من الأنهار وسيل من البحار خلف سدود وهمية, لم تكن يوماً مرئية, ولم تكن قط بكتاب مفتوح يقرؤوه الجميع لتصبح من البطولات والتضحيات, بل أصبحت في سالف الأزمان وعالم الذكريات في طي النسيان, لكنني أرى بعضاً منها تزاحم بعضها الآخر لتكون على صفحات أمامية, إنها تلك الجروح التي لم تلتحم بعد ومازالت آثارها على جسدي وروحي ونفسي وكبدي. تلك الجروح العميقة تناديني الآن وتلح علي أن تأخذ لها في عالمنا الحاضر أية نقطة أو مكان..
مرة أخرى أقول لكم: لا تخافوا مني, فأنا لا أكتب لأنتقد أو أتبارى على المنصب والعنوان ولكنني أكتب لأكشف عن آلامي وآلام الآخرين وأظهرها كسند و وثيقة ليعرف الجميع أنها حقيقة وتاريخ وعنفوان, وليأخذوا منها العبر والبراهين, وليعرفوا حق المعرفة أن من جاء قبلهم قد مهدوا لهم الطريق وأناروا سراديب الظلام وأججوا هذا الحريق. فما تلك البلاغة والتحدي إلا من جذور أصولها من سالف الأزمان من نتاج آلام الآخرين وتضحيات هؤلاء الميامين .أقول إنني لست بكاتبة اليوم ليكتبوا عني في بياناتهم بالسطر الكبير ويمدحونني وعائلتي بالألقاب الفخمة ويهبوننا الميداليات, بل أكتب لأعلمكم ما معنى الفقر والحرمان, ما معنى أن لا يكون الإنسان في أمان, ما معنى التشرد والهوان…ما معنى أن لا يكون لي وطن ولا بيت ولا مكان, وأن أكون بلا هوية وأنا في أرضي مهددة بالهجران وفوق ذلك كله أن أكون امرأة وأين؟! في عالم الهذيان . فلقد علمتني السنون ودربتني الأيام ..فأصبحت كالسنديان أعرف لكل طرقة معناها ولكل شريحة مغزاها فأشتهي الحرية والاستقرار. بعد أن شردت ردحاً من الزمن مع أهلي من مكان إلى مكان من قامشلي إلى دمشق ومن ثم إلى بغداد, لم نشعر قط بالاطمئنان ..
فتارة هنا وتارة هناك, نقطع الحدود جياعاً, حفاة, حاملين معنا على أكتافنا الخوف والممات الرعب والصلوات ..إلهي هل هذه هي سنة الحياة ؟! نعود مرة أخرى من هناك بعد أن شردتنا السلطات, فعدنا إلى مكاننا ونحن لا نضمن النجاة فلا وطن يحوينا ولا أمان يلقينا فكانت النتيجة والدي إلى السجن وبيتنا بالسلطة محاط …لماذا؟ هل تعرفون لماذا ؟ لأننا قلنا رباه النجاة, أعطنا خبزًا وأعطنا الحياة وأعطنا هوية وثبات ……….
أقول إنني لست كاتبة اليوم وإنما منذ زمن بعيد جدًا عندما جردت من حقوقي الإنسانية, فرفضت من عملي طوال سنين ومنعت من الدراسة خارج البلاد بمنحة دراسية كنت قد حصلت عليها من المركز الثقافي السوفيتي آنذاك عند دراستي للغة الروسية وتفوقي فيها وذلك لعدم حصولي على تأشيرة الخروج من البلاد, هل تعرفون لماذا؟ لأن الخط الأحمر كان يلازم دفتر القيد والهوية كافحت و اعترضت, لكنني لم أفلح فخسرت منحتي الدراسية. رباه لم هذا العنف, لم هذا الظلم كله! هل تعرفون لماذا؟ لأنني كردية وابنة شاعر كردي!! لذا أقول إنني لست بكاتبة اليوم, لست وليدة ساعات وإنما حكايتي مع الزمن طويلة, ولي بحور من الذكريات وظلال لطفولتي المخفية ما زالت قائمة حتى اليوم وتاريخي كله الذي أصبح في سالف الأزمان وكل الآلام والجروح التي لحقت بنا مع مرور السنين إلى أن حالفنا الحظ لنهاجر ولكن هذه المرة ليس حفاة ولا بخفية هاجرنا إلى بلاد بعيدة…قضينا فيها سنين عديدة فسرقنا من الزمن أياماً عشناها في هناء وديمقراطية, ومع ذلك لم أترك الفرصة تفوتني فأسست مع النساء الكرديات جمعية..أكافح لأمتي ولنساء جلدتي ولجميع نساء الكرة الأرضية, وعملت أعواماً عديدة دون كلل أو ملل لأنني كنت أسير على خطا والدي وعائلتي المناضلة. كما أنني درست كيف أربي الأطفال في الرياض تربية سوية فعملت سنيناً طوال مع أطفال الكرد والعوائل الكردية, فتشربت منهم الآلام على مضض آلامي فزادني هذا عناداً وتحدياً,وواصلت عملي مع الأطفال ومع النساء الكرد فكنت شاهدة على الآلام والمآسي الاجتماعية بل على مأساة كل من يحمل تلك الهوية فزدت تجربة عبر السنين وجمعت لدي قاموساً وأبجدية …فها أنا ذا أقتطع من الزمن أوقاتاً لأموري وهواياتي الشخصية لأنقل إليكم صورأ وبراهين شفافة من طفولتي ..ومن تجارب عائلتي…لعلني أنجح في نقل الصورة الحقيقية فالقلم الحر والمنبر ملك للجميع, فلا أحد يستطيع أن يحتكره, ولا أحد يستطيع أن يمنعه ويردعه فلندع النقد للتاريخ وللنقاد الحقيقيين الذين سيأتوننا فيما بعد, فليس لدينا اليوم في كل مكان جامعات كردية لتدريس مناهج البحث والنّقدِ بشكل أكاديمي, نحن لا حول لنا ولا قوة إلا الاعتماد على قدراتنا وإمكانياتنا الذاتية المحدودة, لذلك علينا أن نترك الأمور للمستقبل, فلابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر, عندها علماؤنا وعباقرتنا سيقررون وينتقدون الجيد منه سيمجد والسيء منه سيذهب إلى سلة المهملات مهما لونته بعض الشخصيات وروجت له بأقلامها