رؤية الواقع بين الإيديولوجيا والابستمولوجيا

حواس محمود

    تثبت وقائع الحياة وظروف الواقع وتحولات التاريخ أن الأفكار حالة ليست ثابتة ولا تمتلك مشروعية الديمومة والاستمرارية ، بتغير الأحوال وتبدل الأزمان ، بل بالعكس تماماً ، فالأفكار باعتبارها بنت الواقع تتحول سواء نحو السلبي أو نحو الإيجابي ، وبالاستناد إلى ذلك فإن الإيديولوجيا التي نشأت في الخمسينات والستينات في الواقع العربي كنتيجة منطقية لأحداث وظروف تاريخية متعددة ، بقيت على حالها تأخذ طابع القداسة والتبجيل ، وتضع نفسها فوق ظروف الواقع والحياة مما تناقضها في الأساس كفكر نتج عن ظروف حية في الواقع المعني أي بمعنى أن الإيديولوجيا الناشئة عن واقع معين لا تستطيع الاستمرار كمنظومة (ثابتة فوق الوقع المتجدد) بتغير الواقع القديم ، والانتقال إلى واقع جديد له حيثياته وظروفه وتحولاته ، إزاء ذلك تتطلب الحالة أحد الخيارين التاليين:
إما أن تتطور الأيديولوجيا السابقة (الناشئة في الفترة الماضية)  – الخمسينات – الستينات وحتى السبعينات – وتتكيف الأيديولوجيا هذه وتتجدد بتحول وتجدد الظروف المحلية والإقليمية والدولية بحيث لا تقف حجر عثرة أمام نهوض المجتمع بفعالياته المتعددة .
وإما (في حالة عدم السير في الخيار الأول) أن تتشكل منظومة فكرية جديدة (ولا نقول إيديولوجيا) وإنما ابستمولوجيا أي المعرفة باعتبار أن النمط القديم من الأيديولوجيا نشأ على مبدأ الفعل ورد الفعل – الرأسمالية – الاشتراكية – الامبريالية – التقدمية ، الغرب ، الشرق ، الشمال ، الجنوب ، العالم الغني ، العالم الفقير . وأثبتت التحولات المتعددة عدم صلاحية الثنائيات القديمة في ظروفنا الراهنة التي نشهد فيها مجريات العولمة وتأثيراتها الكثيرة على أنماط الاقتصاد والسياسة والثقافة والاجتماع ، وتعجز المواقع التي أنجزتها الأيديولوجيا الماضوية عن التكيف أو مواجهة أو الدخول في صراع عولمي يكون لها وزن وقوة وحساب ، والمجريات العولمية الراهنة لا تحتاج إلى الأيديولوجيا (الرد فعلية) إن جاز التعبير و(الاستجابة السلبية) وإنما تحتاج إلى فعل ديناميكي متطور ومتفاعل مع حركة المجتمع والواقع بإبداعية مثمرة تستطيع كشف خلل وسلبيات الحالة الراهنة ، والقدرة على تشخيصها ، ووضع النقاط الرئيسية لإمكانية تلافيها باتجاه تحويلات وتغييرات شبه جذرية بحيث تستطيع معانقة سطح الأحداث والسيطرة على مجرياتها ، وبالتالي ستكون المجتمعات الخاضعة لعملية التغيير قادرة على الفعل بدل الانفعال ، والفاعلية بدل السلبية ، والحركية بدل الجمود والركود ، وهكذا في حركية متنامية متصاعدة بإزالة معظم سلبيات المرحلة التاريخية الماضية التي كانت نتاج الأيديولوجيات المتصارعة ، وامتلاك الأسس والإمكانيات الواقعية لخلق منظومة فكرية معرفية ابستمولوجية تكون قادرة على لملمة وجمع كل الفعاليات الإنتاجية المبدعة ، وإفساح المزيد من المجال أمامها للتعبير عن آرائها وأفكارها ، وكل ذلك في خدمة تنمية ونهضة المجتمع للارتقاء بمستوياته كافة ، ولعل هذا لن يتأتى ما لم يتم التصعيد بالثقافي ليأخذ دوره في الظروف الراهنة وعدم إبقائه تحت سقف السياسي جامداً قزماً متقوقعا بحيث يستطيع أن يعطي نتاجه وهو بحالة من الراحة الإبداعية .
وختاماً : فإن ما قصدنا به – في هذه المقالة – هو أن الغناء والتمسك بالقديم الجامد الذي لم يتطور يعني النكوص والارتداد عن اللحظة التاريخية الراهنة ، وهذا يعني التأخر والتخلف والبقاء في حالة التبعية للخارجي بالاستناد إلى مقولة (من لم يتقدم يتأخر) وإنما لا بد من جديد نابع من الواقع وتلافيفه ومطور للماضي ومتطلع إلى آفاق المستقبل
حواس محمود

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

فراس حج محمد| فلسطين

في النص الأخير قلت شيئاً شبيهاً برثاء النفس، وأنا أرثي أصدقائي الشعراء:

كلّما ماتَ شاعرٌ تذكّرتُ أنّني ما زلتُ حيّاً

وأنّ دوري قريبٌ قريبْ

ربّما لم يُتَحْ للأصدقاءِ قراءةُ قصائدهم في رثائي المفاجئ

وها هو الشاعر والناقد محمد دلة يغادر أصدقاء على حين فجأة، ليترك خلفه “فارسه الغريب” ونقده المتوسع في قصائد أصدقائه ونصوصه. محمد دلة…

أحمد جويل – ديرك

 

لقد أدمِنتُ على تذوّق القرنفل كلَّ يوم،

ولم يكن باستطاعتي التخلّص من هذا الإدمان…

وذات يوم، وكعادتي الصباحيّة، دفعتني روحي إلى غيرِ بُستان،

علّني أكتشف نكهةً أُخرى،

لعلّها تُداوي روحي التي تئنّ من عطره…

 

بحثتُ في ثنايا المكان…

وإذا بحوريّةٍ سمراء،

سمراء كعودِ الخيزران،

تتزنّرُ بشقائقَ النّعمان…

عذرًا، سأكمل الخاطرة لاحقًا.

 

شقائق النعمان كانت تخضّب وجنتيها برائحةِ زهرة البيلسان.

أمسكتْ بيدي، وجعلنا نتجوّلُ…

سيماف خالد جميل محمد

 

هناك حيث تنبعث الحياة، حيث كانت روحي تتنفس لأول مرة، هناك أيضاً أعلنتْ روحي مغادرتها، لم يكن من الممكن أن أتخيل ولو للحظة أن تغادرني أمي، هي التي كانت ولا تزال الصوت الوحيد الذي أبحث عنه في الزحام، واليد التي تربت على قلبي في الأوقات الصعبة، كيف يمكن لخبر كهذا أن يتسلل…

بدعوة من جمعية صحفيون بلا حدود الدولية، أقيمت اليوم، السبت ٦ نيسان ٢٠٢٥، أمسية شعرية متميزة في مدينة إيسن الألمانية، شارك فيها نخبة من الشعراء والكتّاب اعضاء الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد.

وشهدت الأمسية حضورًا لافتًا وتفاعلاً كبيرًا من الحضور، حيث تناوب على منصة الشعر كل من:

صالح جانكو

علوان شفان

يسرى زبير

بالإضافة إلى الصديق الشاعر منير خلف، الذي…