خلافاً لطريقة الاحتفال به في الأعوام السابقة لتلافي الحيرة التي يتخبط بها في الساعات الأخيرة لذلك اليوم من كل عام , و بعد أن امتنع صديقه الحميم مشاركته في تبني الفكرة , قرر خلال اللحظات الأخيرة لانتهاء مدة حجز التذاكر أن يحزم الأمر بمفرده , اشترى تذكرة دخول القاعة التي أعلن عنها فيما سبق لإقامة حفل رأس السنة …!
جلس مع مجموعة من معارفه , عسى أن يشكل حلقة وصل لدائرة الفرح حول الطاولة المستديرة ، فيدخل و لو لبضع دقائق في عالمهم الذي يحتفلون به , حاول عبثاً تدارك تلك الفرحة , فالألوان التي تشعها زجاجة بوحه لا تلتقي و التي يتعالى قذفها في فراغ دخان السجائر المنطلقة للأعلى , لتنفرد ذرات زجاجته و هي ترتمي أرضاً …. الأجدر بي أن ألتزم الصمت في حضرة هذا الاحتفال …! قالها لنفسه و هو يتقطر كآبة .
تكوّر في غطائه , أمعن في امتداد يديه إلى قاع جيبه و هي تتملس تلك الكلمات التي دوّنها على ورقة بيضاء لحالة الاشتياق التي طالت كثيراًً .. حالة العصيان على النوم التي أقدم عليها بعد آخر لقاء لم يعدل حرارة الجفن , تمرداًً على تلك الغفوة التي شلت كامل جسده عندما أخذته على عادتها إلى حقول الصمت عبر الهمسات التي يغفو عليها .. عاماً بعد عام تزداد مسافة الهجر بيننا و خرافة اللقاء تئن في مسمعي نحيباً آخر …..! عاماً بعد عام تزداد أمراض المسافة انتشاراًً …..! قالها هامساً في جعبة اشتياقه لحبيبته , أحكم إغلاق جعبته تلك , أعادها لأعلى الركن الأيسر لصدره .
ثورة هائجة تضرب المكان , تشد من وتيرة الفرح و الأضواء المتقافزة إلى الوجوه , إنها أكملت دورتها التعيسة , و ها هي تدخل في دورة جديدة , ارتعد في جوفه شيء ما .
بداية الشيء و نهايته , مصطلحات تعيسة جداًً .. لا يطيقها , حتى أنه لم يجد لها تفسيراًً مناسباًً حتى الآن , قد تكون العلّة في بداية الأشياء نفسها و هي تستدعي لحظة بهجة لم يعتد على إقحامها المفاجئ في عوالمه , نهاياتها التي ترسم تعابير شقية كالربيع الذي مرّ خاطفاًً دون لقاء جميل ….. راتب نهاية الشهر المخصص لإيفاء الديون المترتبة .. و قائمة أخرى تستدعيه للنفور من نهاية الأشياء دوّنها في سجل أيامه .
قاده الضجر إلى باب القاعة , متوجهاً بخطواته المتباطئة المترنحة بثقل الطنين الذي تأجج في أذنه ليصل باب المنزل , يطرقه , فيفتح ذاك اللعين دفة الباب , كالثعلب يضحك ساخراًً .
– ها قد عدت باكراًً يا صديقي ….؟
– هذا ليس من شأنك …
– انتظر , لا تدخل , سنخرج سوية .
– إلى أين ؟
– و كأنك لا تعرفني , و لا تعرف إلى أين سنتجه .
– اللعنة عليك .
ضحكا , ركله صديقه على مؤخرته ساخراًً من بذته الرسمية :
– ألم أنصحك بعدم الذهاب أيها المغفل ……!!
– لم تشرح لي الأسباب ؟ .
– لا عليك , دقائق و سنكون في الخارج .
أغلق الباب بهدوء , ليمضيا إلى حيث اللا وجهة التي يقصدانها كلما ركبهما النفور من المنزل , كالعادة يسأله صديقه فيما كانت سجائره ستسعفه لنهاية السهرة فيطمئنه , كذلك هو يسأله فيطمئنه , أفرغا من النصف الأول لمشكلتهما التي تعترضهما , سأله صديقه عن النقود , أبرز له قطعة نقود معدنية , أبدى الآخر تشاؤمه .. ثم ابتسم , ربت على كتفه مومئاًً بأنه سيتدبر شراءها , فارقه للحظات ليخرج من المتجر حاملاً قارورة اليوم .. ينهالان عليها لارتشاف قطراتها حتى الرمق الأخير , تناولها , تحكّم في وقفته , ألقاها بعزم على إسفلت الشارع العريض , تناثرت ذراتها هنا و هناك , سمع صداها العذب و هي تخترق مسمعه , انتشله الهدوء براحته , ثم تابعا المشي …!
بدأ صديقه بتلمس آخر أوجاعه اليومية من النقطة التي افترقا عليها مساء أمس …. أي ترّهة هذه .. أوجاعك التي لا تنتهي يا صديقي , كلم نفسه بعد إطلاق زفرة أخرجها عنوة على مآسي صديقه التي يشاركه فيها , و هو يسدل الستار عن حرقة اختناقه لتواجده في المكان الخاطئ قبل ساعات .. الفرحة التي كانت ترسمها الوجوه و هي تودع خطاياها .. القائمة الطويلة من التعقيدات الحياتية و الانتهاكات بحقه خلال عام من الأيام .
على عجلة من أمره , أضمد له ذاك الجرح ثم الآخر , وضع لجاماًً لسلسلة مآسيه المتكررة في هذه المدينة , استحضرت ذاكرته تلك الكلمات التي حاول مراراً أن يقولها له :
مسكين أنت يا صديقي , وضعك القدر في بوتقة لا تشتهيها .. أية حرية ستمارس في هذه الرقعة , من سيتحمل الخطايا التي لحقت بك , من له أن يرتب ذلك الركام الذي خلفته السنين في نفسك ؟
ذكريات الأمس المارق , زحف الغد المضني في أمسهما , وحل الطريق , معطفاهما اللذان يتبادلان لبسهما , القرابين التي يقدمانها للمساء لقاء بشاشته , و أشياء أخرى من الواقع الملموس أفرغتهما من زفرات السكينة .. اقتعدا على رصيف البكاء منهمكين , يبكيان خوفاًً من أي ابتكار لتمازج لوني مستحدث عبر الوسائل المستحدثة لاختراق صقيع الكبت .
عام مثقل بالغموض , أعدّ له مسبقا , ليودعاه على تخوم المدينة و هماً في حالة فرط لبعثرة الذات أمام مرآة اليوم , و كي يعيدا ترتيب تلك الأحجار المتراصة بشكل هندسي إلى أكوام مبعثرة هنا و هناك , و هما يلهوان على دفتي الطريق الشمالي المؤدي إلى المدينة … هكذا أخذهما شهيق المسافة إلى النفور من الطرق المستقيمة ..!
استلقيا وسط تلك الأحجار ليسخرا من العادات المثقلة برتابة الرسمية و من ذاك السائق الذي زعق فيهما , ليؤكدا في قرارة نفسيهما أنه ثمة مدخل جنوبي و آخر غربي و آخر يرقد في الركن البعيد من حيّهم و عليهما أن يقوما بإعادة ترتيبه على وجه لائق بحالتهما في الشتاء الموحل .
نصبا الفخاخ أمام الطيور التي حمّلها ذاك السفير بوابل من الرسائل ذات النوايا الحسنة , لتموت شهيدة قبل أن تضع بيضتين في عش قد أعدتها لفراخ نواياها.
– ها قد علقت واحدة .
– محظوظة … لنرفع نخب استشهادها .
يجول بهما الخاطر في أمس ماض , عن سرّ اهتزاز مكامن الحيرة نحو قطرة مطر صوبتها إحدى الغيوم لتنثال على أجفانهما و هما يسرقان الليل في هرولة حيث …… السماء تواصل الهطل .
أيهم اليوسف – دبي .
8/1/2009