«انظر الى قصيدة العرش الأسود
إلى قصيدة العرش الأسود انظر
انظر الى القصيدة المعتلية العرش الأسود
أيُّها العرش الأسود انظر للقصيدة.
ألا يا أيُّها الأسود انظر لقصيدة العرش».
بهذه الومضة ـ المتاهة، التي تتطغى عليها نبرة اللعب بالكلام، فيما يقارب ترتيل التعاويذ، أو صوغ الطلاسم، بهذه الومضة المعنونة «وشم النحس»، يبدأ الشاعر الكرديّ؛ لال لالش، مجموعته الشعريّة «الأوشام القاتلة»، التي طواها على 25 وشماً، نثرها على 80 صفحة من القطع المتوسّط، صدرت عن دار «لييس» للثقافة والطباعة والنشر في ديار بكر، كبرى المدن الكرديّة، جنوب شرق تركيا.
وإذ نقرأ مجموعة «الاوشام القاتلة» نرى بأنّ الشَّاعر، وكأنَّه يودّ أن يرتّب لنا أوشامه الـ25 بالتتابع، «وشم الماد» (الماد، أجداد الأكراد القدماء)، و«وشم كاوى» (قائد كردي اسطوري، يرتبط اسمه بملحمة ـ اسطورة عيد النوروز عند الأكراد)، و«وشم ملا الجزيري»، و«وشم أحمدي خاني»، و«وشم فقيه تيران»، (هؤلاء الشعراء الثلاثة من كبار الشعراء المتصوّفة في الأدب الكردي)…، وهكذا دواليك، يمرّ بشخصيّات كرديّة بارزة، منها؛ الامير جلادت علي بدرخان، نورالدين ظاظا، عثمان صبري، قاضي محمد، محمود باكسي والروائي ياشار كمال، حتّى يصل إلى نفسه في قصيدة «وشم أعماقي». وهنا، الأوشام المعنيّة، تتناول وتكثِّف رؤية لال لالش لهذه القامات، واعتبارها أوشاماً منطبعة على روحه وفكره، حدّ القتل. ولعلَّ اختياره «الأوشام القاتلة» عنواناً لمجموعته الشعريّة، دون ان ينتقي أحد عناوين قصائده، يلفت الانتباه، لجهة عدم تفضليه لنصّ على آخر، حين يجعله صدارة أو علِّية أو شُرفة عمارته الشعريّة، ويوسم الكتاب باسمه.
في ومضة «وشم ياشار كمال»، يتبدّى العمق والاختزال والشفافيّة في إطلاق الكلمات والصور، بصيغة الأمر والتكرار في الفضاء الشِّعري، دون أن تفقد العبارة الشعريّة طاقتها وحساسيتها، وتبقى محافظة على كمونها الجمالي وخزينها الدلالي، مشبِّهاً ياشار كمال بالوطن الكردستاني، المتشظّي لأربعة أجزاء، حين يجعل كمال بأربعة أيدي، إذ يقول:
«مدَّ إحدى يديك إلى غصن شجرة الجوز هذه.
مدَّ إحدى يديك إلى خوف هذا الارنب.
مدَّ إحدى يديك إلى هامات أولئك العصاة.
مدَّ إحدى يديك إلى مقاتلي العشق، فالخُضُرُ (القدّيس) قد أحكمَ يدهُ على أيديهم».
في قصيدة «وشم جلادت علي بدرخان»، يسعى لالش، كنوع من التحدّي لحظر السلطات التركيّة للاحرف الكرديّة الثلاثة الممنوعة، ( -wو َ، Q -ق، X -خ»، ومنع الأسماء التي تحتويها، ومعاقبة من يستخدمها. ولذا نراه يكتب هذه الحروف الثلاثة في القصيدة، بتكرار وتتابع غزير، ليس لشيء، لكن ليمارس التحدّي والرفض والمعاندة الطفوليّة ضمن شقائه ومكابداته الشعريّة. وكأنّ الشعر بالنسبة للالش نوع من العصيان والتمرّد والعبث الطفولي، العميق الفحوى والمغزى. لكن، سرعان ما نجده يعود للهدأة والتأمّل واليأس، في القصيدة نفسها، بقوله:
«حين ضحّيت بكلِّ شيء، حصلت على كلِّ شيء.
الشرط الأوّل للبقاء، الحزن والسواد»
وانعطف لالش على استيقاء بعض المفردات من الدراجة في منطقته «كويسر» (تمّ تتريكها إلى قزل تبه)، ووظّفها في نصوصه، ما عسَّرَ علينا الفهم والترجمة، لجهة أن استخدام كلمة في لهجة محليّة كرديّة، قد لا تطابق المنعى ذاته، حين يتمّ استخدامها في دارجة محليّة كرديّة أخرى. بخاصّة، تلك المفردات الدخيلة على اللهجات الكرديّة المحليّة، الآتية من العربيّة والتركيّة والفارسيّة، بفعل الدين أو التعليم والثقافة والاحتكاك. وهذا إشكال يُسقِط بعض الشعراء الاكراد أنفسهم فيه، بحجّة الاريحيّة، وسلاسة اللغة، وتجنّب المعجميّة في الصياغات الشعريَّة…الخ، فيُشكِلون على قرَّائهم ومترجميهم، ونقَّادهم. ويعزو بعض الباحثين والنقّاد الاكراد هذا الإشكال لاستسهال الشاعر. وأحياناً لتجاهله تبعات الكتابة بلغة شعريّة هي خليط من الدارجة المحليّة والفصحى الكرديّة. كما يعزو بعض النقّاد هذا الإشكال لعدم وجود لغة كرديّة موحّدة، معتمدة لدى كلّ الادباء والشعراء. وهذا الأمر أيضاً، يحيلونه لعدم وجود دولة كرديّة، تعزز وترعى لغة كرديّة واحدة.
في ومضة «وشم إيطاليو كالفينو»، يقول لال لالش:
«القبلات وعرق يديّ كالفينو، وعاشقة آلاف السنين…
باتت نهراً منسكباً بين صخرتي العشَّاق.
كالفينو، وعلى مدد، وبعنقٍ حانٍ
يتأمَّل روحه الجاريّة مع الماء.
ويأتي الحطَّاب
يقطعُ شجرةَ العشقِ من جذورها». أمَّا في ومضة «وشم باول آلورد»، يقول لالش:
بقميصه المريَّش، وفي خفَّة النسيم الغريب…
غدا سماء.
ركض وراء الفقيرة.
وقبل الآن، بألفِ ليلةٍ ونهار
كان قد طرق باب الهتك، قائلاً له:
ها.. إليك بقميص ولدي الذي قُتِلَ في الحرب الأهليّة الإسبانيَّة». وهنا، يظهر تفاعل الشاعر مع عذابات وآلام الآخر، وكيف يتجلَّى تأثير القراءات الشعريَّة للشعوب الأخرى لدى لالش، وإعادة إنتاج هذه التركمات في شعرٍ، متجاوز للحالات القوميّة، ولو بلغةٍ لم تنقذ نفسها من أصداء الحكي المحليّ.
وتتجلَّى مناهضة الشاعر الكرديّ لال لالش، للاقتتال الداخلي الكردي _ الكردي، الذي يشكلّ صفحات سوداء ولعينة من التاريخ الكردي، البعيد والقريب، في أماكن عديدة في مجموعته. ناهيكم عن مناهضته للحرب الدائرة في تركيا وكلّ مكان، إذ نراه يختتم قصيدته «وشم المقصّ القاتل» بالقول:
«ألقى الشاعرُ بقصيدته في الحرب القذرة
فانبجس السلام.
ولغزارة فرحته، صار الترابُ أصمّ.
في يد التراب، باقة من قصائد العشق الصادحة:
خُلِقَ البشر من دم العشق عينه.
خُلِقَ البشر من دماء كل حكايات العشق».
والصورة المفاجئة أو الصادمة كثيراً ما نراها في نصوص لال لالش. صورة، تعمل على التناقض في المباني اللغويّة، لاستدرار أكبر قد ممكن من طاقة المفردة. فحين نقرأ لالش، لا مناص من أن تصادفنا عبارات شعريّة تعجيزيّة، تستفزّ فينا السؤال عن فحوى وجدوى ودلالات التركيب الشعري أو ماورائيّات الصورة الشعريّة. ولعل افتتاح لال لالش مجموعته بـ«وشم النحس» السالف الذكر، يُبنئ القارئ، بأنَّه ليس أمام نتاج شعري عابر. ففي قصيدة «وشم اعماقي»، يقول لالش ما يلي: «الذاهبون إلى الأعلى، والآتون منه، يسيرون على الجسر عينه.
ولم يتصادفوا على الجسر عينه، قطّ.
العالي، أخرج من جيبه، قدَّاحةً، رايةً، وأبجديّة.
الداني، اخرج من جيب قميصه صورةَ عَقدِ الأرض (الطابو)، وناوله للأستاذ، قائلاً:
ـ هذه حجَّة أرضِ أبيك.
ـ أبي؟!
ـ نعم، لأبيك.
ـ أبيَّ، من أيَّةِ امرأة!؟
هذه أبجديّة أمِّكَ.
ـ أمِّي!؟
نعم، هي لأمِّكَ.
ـ أمِّي، امرأة أيٍّ من آبائي!؟ « .هنا أيضاً، دمجٌ لتقنيّة الحوار في النصّ الشعري، بما لا يربك النصّ، ويجعله تقريريّاً، بل مفعماً بالأسئلة _ الاجوبة، والاجوبة _ الأسئلة. وفي هذا المقطع الشعري، ثمّة نقدٌ خافتٌ، في منتهى التواري، لنزعة الاستعلاء القومي التركيّ، وزعم السيادة المطلقة على الأناضول، وسيادة اللغة التركيّة، على كل لغات شعوب تركيا. فالشاعر يعتبر نفسه التلميذ، ويعتبر الأستاذ أو المدرّس، الذي علَّمه اللغة التركيّة والتاريخ التركي، على حساب قمع وطمس وإلغاء لغته الأمّ. وفي هذا الحوار، يسعى الشاعر الى التأكيد، أنّ تلك المزاعم لا دليل لها. وحين يأتي ويناقش أستاذه، بأنَّه حصل على الأدلّة التي تدعم مزاعم الأستاذ، نرى الأخير مندهشاً غير مصدِّق. وعلى لسان الاستاذ ـ الخصم، أراد الشاعر، دحض أوهام الاستعلاء القومي لديه، واعتباره الذات القوميّة التركيَّة، واللغة القوميّة، هي المركز، وبقيّة الهويّات واللغات، هي ظلال وأصداء. بحث جعل التلميذ أستاذاً، والأخير تلميذاً.
«الأوشام القاتلة»، رغم لغتها، التي جنحت للمحليّة أحياناً، نتاجٌ مهم، لشاعرٍ كردي مهمّ، يصنَّف من جيل الشباب. وحتّى ولو كانت جملته الشعريّة متاثِّرة بشقيقتها التركيّة، شأنه شأن الكثير من شعراء أكراد تركيا، إلاّ أنّ هذا لا يقلل من أهميّة نتاجه. لال لالش، المولود سنة 1975 في مدينة كويسر، التابعة لمحافظة ماردين في كردستان تركيا، يحمل إجارة من كليّة التربية، فسم التاريخ، في جامعة دجلة بدياربكر. ومن سنة 1993 الى سنة 2006، شارك في مسرحيّات عدّة، منها «مسرح الأناضول»، «إمغاسال دوشلار»، «مسرح أورينت»، ككاتب ومخرج وممثّل. والآن، يدير دار «لييس» للطباعة والنشر. صدرت مجموعته الشعريّة الأولى؛ «تعويذة الطريق»، عن دار «بلكي» سنة 2003. ومجموعة من النصوص للشاعر التركي كوتشوك اسكندر، ترجمها للكرديّة في كتاب حمل عنوان «بارود»، صدرت عن مكتبة «بيا» سنة 2003. ترجم ديوان الشاعر التركي أحمد تللي؛ «وجهك وردة الشرق»، إلى الكرديّة، صدر عن دار «لييس» سنة 2005. وبالتعاون مع يعقوب تيلرمني، ترجم مجموعة شعريّة للشاعر التركي أ.. هجري، حملت عنوان «بلا مطر»، صدرت عن دار «لييس» سنة 2005. ترجم مجموعة قصصيّة للقاصّة التركيّة سما كايغوسوز، حملت عنوان «الضابط»، إلى الكرديّة، صدرت عن دار «لييس» سنة 2007. ترجم مجموعة شعريّة لمورثون مونغان بعنوان «وسادة الثعبان»، الى الكرديّة، بالاشتراك مع عرفان آميدا. صدرت عن دار «لييس» سنة 2007. وبالاشتراك مع الشاعر كاوى نمّر، قام بترجمة مجموعة شعريّة للشاعر أحمد تشتين، بعنوان «حزيران الكرز»، عن التركيّة الى الكرديّة، صدرت عن دار «لييس»، سنة 2007. وله مخطوطات عديدة تنتظر النشر