محمد بشير صالح … وداعاً

يا رفيق الدرب الراحل :
إن نبأ رحيلك الجلل هزّ كياني وجعلني أتخبط خبط عشواء وأبت الدموع أن تذرف من عيوني، لأن مآقيَّ قد جفت ، لأنها رفضت أن تنقاد لأوامر الأنا الأعلى غير مصدقة ما حدث وغدا الصمت والوجوم رد فعل وحيد على هذه الفاجعة ……
ساعاتُ تمر  وأنا على هذه الحالة ويتجمع الناس والأحباب والأصدقاء في شارع جامع البشير بانتظار التشييع ، وفجأة تعود بيّ الذاكرة إلى أيام الطفولة وبداية الشباب عندما كانت الضحكة والابتسامة لا تفارق محياك ، والنكتة على شفتيك في جميع المواقف لم تترك صغيراً أو كبيراً إلا وربطتَ اسمه بموقف أو نكتة أو قصة مثيرة ، يتذكرك أهالي قريتي (التنورية وبياندور) بسبب انتقالك الدوري بينهما في تلـك الفترة ، لأنك كنت تمازح هذا وتجعل الآخر بطل قصصك الطريفة والكـل تعلّق بك وتمنى الاستماع لأقوالك وجملك المفعمة بروح الفكاهة والدعابة والمرح.
وما إن أصبحتَ  في المرحلة  الإعدادية  والثانوية حتى تعلّقتَ  أكثر  بدراستك ككل أبناء الطبقة الفقيرة التي آلت على نفسها أن تتفوق دراسياً لتحقيق رغباتها ولبلوغ أعلى درجات المجد،كنتَ تسبقني بسنة دراسية ولكننا كنا نسكن معاً في مدينة القامشلي ونستأجر غرفة كجميع أبناء القرى الذين لا يملكون بيوتاً في المدينة .
   ويدور دولاب الزمن وتنهي دراستك الثانوية وتلتحق بجامعة حلب – كلية اللغات – قسم اللغة الفرنسية في بداية السبعينات من القرن الماضي ، حيث كانت هذه الهواية قد تأصلت داخلك منذ بداية دراستك الإعدادية بفضل أستاذك الأول في الحسكة (القس) وكان الناس لا يعرفون بأنك ابن خالي وابن عمتي،لأن العلاقة الوطيدة بيننا والعيش المشترك والمرافقة في الحل والترحال جعلهم يعتقدون بأنك أخي ، حيث كنا معاً في المدارس في المرحلة  الثانوية بشكل خاص وفي السكن في المنازل التي كنا نستأجر فيها خلال العام الدراسي وفي الهوايات المشتركة ومنها ( التعلق باللغة الفرنسية ) .
  وما أن تحطّ الرحال في مدينة حلب طالباً في قسم اللغة الفرنسية حتى انهالت رسائلك عليَّ مشجعاً إياي على الالتحاق بنفس القسم في العام التالي بعد حصولي على الثانوية. وكم كانت فرحتك كبيرة عندما نلتُ الأول على المحافظة وتمّ تكريمي بمرسوم رئاسي وذلك بمنحي مائة وخمسون ليرة سورية شهرياً طيلة فترة دراستي الجامعية كي التحق بقسم اللغة الفرنسية وأصبح معك في حلب. وتحققَ الحلم … وأصبحنا معاً وسكنّا في حي المشارقة القريب من كاراج الانطلاق آنذاك.
لقد كان الفن والموسيقى والخط وتأليف الأغاني باللغة الفرنسية وتلحينها على الأنغام الكردية والعربية الشغل الشاغل لك في أوقات الفراغ  وباعتبار أننا  درسنا  الأدب الفرنسي ، حيث كان  أساتذة القسم  فرنسيين جميعاً مما ساعدنا على فهم الثقافة الغربية وكانت السينما الملاذ الوحيد للاطلاع والتثقف وتقوية اللغة والتعمق في الحضارة الفرنسية القديمة والحديثة معاً فلم نترك فيلماً سينمائياً يعرض في صالات حلب إلا وحضرناها مراراً وتكراراً في تلك الفترة. وكنت تتمتع بموهبة الخط. إذ أن شخصيتك المحبوبة وابتسامتك الدائمة أكملها الخط الجميل الذي كانت تخططه أناملك الجميلة باليد اليسرى ( الأعسر ) .
وما أن تتخرج من جامعة حلب حتى تلتحق بالخدمة الإلزامية ونتواصل معاً خلال الرسائل لمعرفة أدق التفاصيل الحياتية لكلٍ منا حيث تمّ تعييني مدرّساً في مدارس القامشلي  بعد تخرجي  وكنت في تلك الفترة تترجم المقالات إلى العربية وتنشرها في الصحف السورية نقلاً عن الصحف والمجلات الفرنسية ، حيث كانت خدمتك الإلزامية في الإدارة السياسية للجيش.
وما إن تنتهي خدمتك الإلزامية في عام 1978 حتى تلتحق بالتدريس في مدينة القامشلي في ثانوية عربستان ،حيث كنتُ أدرّس وأصبحنا معاً من جديد.
أيها الراحل العزيز … يا أخاً لم تلده أمي :
لقد كنتَ تحب الحياة وتكره الألم والعذاب ، لذلك قابلتَ الهموم بالابتسامة والشقاء بالضحكة ، لذلك كنت تبدأ بالكلام بدون مقدمات أو تمهيد .. ومن شدة تعلقك بعملك ( التدريس ) أديتَ واجبك على أكمل وجه ولا يخلو شارع أو حي من طبيب أو مهندس أو محامي إلا وساهمتَ في مساعدته على إنهاء اختصاصه بنجاح والكل يشهد لك بالإخلاص والنجاح في العمل ، حيث قضيتَ أكثر من ثلاثين عاماً في خدمة  الأجيال دون كللٍ  أو ملل وانتقلتَ من نجاح إلى نجاحٍ آخر بشخصيتك الرزينة الهادئة ،  لم تكن تحب الكلام الكثير والتدخل في أمور الآخرين وأحببتَ اختصاصك التدريسي الذي عاش معك في ليلك ونهارك ورغم أن البعض كان يعاتبكَ قليلاً  على تكريس كل وقتك للعمل إلا أنك كنت تجد المتعة في العمل ولم تجد الراحة إلى جسدك سبيلاً ، لذلك كان المرض اللعين لك بالمرصاد ودار الصراع بينكما وانتصرتَ لفترة ولكنه غلبك في النهاية ..
مهما سعد الإنسان أو عاش طويلاً فإن الموت نهايته كما قال الفيلسوف الفرنسي (ألبير كامو): (الحقيقة الوحيدة هي الموت) ولا يبقَ للإنسان بعد رحيله سوى العمل الصالح الذي يقوم به ، لأن الأجيال القادمة لن تتذكر سوى ما قام به الراحل من عمل وما كانت له مساهمات ساعدت الآخرين ومهّدت لهم الطريق للنجاح في الحياة ..
أيها العزيز :
إنك باقٍ في وجداننا ووجدان كل من عملتَ لأجله وليرحمك الله ويسكنك فسيح جنانه والسلام عليك يوم ولدتَ ويوم متَّ ويوم تبعث حياً …… وداعاً أيها الراحل …
 القامشلي 1/1/1431 هـ المصادف 17/12/2009م
     Bavê Alan 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…