صورة الحب والغرام في فضاءات المخيلة الكردية

  خالص مسور

الأكراد مثلهم مثل غيرهم من الشعوب يعشقون ويحبون ويتزوجون وكل من الذكر والأنثى يطلب نصفه الآخر، يحن إليه يعشقه ويغني له، ما بين غمز ولمز وإشارات وتبادل أحاديث الأصائل وأماسي العشق والغرام. والحب ليس – كما يقال- نظرة فابتسامة فحب كما يقول الهنود  وغيرهم، بل هو عشق وهيام يبدأ بخفقان القلي ثم نظرات وحركات وإماءات وتعبير وبعدها فأما صد وجفاء أو قبول ورواء.
فمن غرائب الحب هي ما يرويه سكان إحدى القرى القريبة من مدينة القامشلي من أن عاشقاً قروياً ومنذ سنوات يسيرة، كان يعشق فتاة في قريته وهي في غفلة عنه أي كان حباً من جانب واحد، فأراد العاشق أن يستميلها ويلفت نظرها إلى حبه لها ويعرفها بنفسه فبدأ يغني على مسامعها ويقول:
(Eger ku tu bazê ber dilê xwe nasnaki..ku  pinakî sor lider qûnêyi)
  لقد كتبت هنا حسب اللهجة المحكية لأكراد غربي القامشلي. أي يقول العاشق الولهان ليعرف نفسه بمحبوبته: فإذا لم تعرفي باز أحلامك أيتها المحبوبة فهو ذاك الشاب الذي توسم مؤخرته رقعة حمراء. هكذا أراد هذا العاشق الكردي الساذج أن يفصح عن حبه لحبيبته الغافلة عنه ويعرف نفسه بها عن طريق أغنية إيحائية ورقعة حمراء على ثيابه، بطريقة تشبه الحزورة تجنباً للحياء وإراقة ماء الوجه. ويظهر أن رقع الثياب ما كانت تعد عيباً آنذاك وأن العاشق لم يخجل أن يشير حتى لمحبوبته إلى هلهلة أثوابه وترقيعها، وهو مايدل على ظاهرة الفقر المدقع في القرى الكردية في سورية آنذاك. كما نلمس هنا فارقاً بين مصطلح التعبير العربي عن العاشق والقول عنه بأنه (فارس الأحلام) أي أن المحب يوصف بالفروسية والشجاعة، وهما الخصلتان اللتان كانت الفتاة العربية تحبذها عن حبيبها أكثر من أي خصلات أخرى، وكما هو الحال في قصة حب عنتر وعبلة لذائعة الصيت، وكانت عبلة تحبذ فيه الشجاعة والفروسية رغم سواد لونه وعدم وسامته وأصل أمه المتواضع. فأحبته لالشيء إلا لشجاعته وكراره في الحروب وعفته وترفعه عن صغائر الأمور.
يخبرك من شهد الوقيعة إنني                 أغشى الوغى وأعف عند المغنم.
بينما المحب الكردي يشبه بالنسبة للفتاة بـ(الباز) والباز طير صياد مفترس يتصف بالشموخ والكبرياء، وهي الصفات التي تحبذها المرأة الجبلية الكردية متأثرة ببيئتها الجبلية فهي كانت تحب في حبيبها الإباء وشموخ الجبال الكردية. فالخيال الكردي يبدو هنا أكثر رحابة من الخيال العربي والذي يفتقر حتى في أشعاره الجاهلية إلى الخيال والإيحاء، متأثراً أيضاً ببيئته الصحراوية السهلية الممتدة أمام البصر ولهذا كان الشعر العربي ذا صفة بصرية دون الخيال إلا لماماً، حيث عبر الشاعر العربي الجاهلي عن موضوعه بشكل مباشر ومجسد. ولهذا نرى الشعر العربي الجاهلي يفتقر إلى الخيال الجامح كما لدى الشعوب الأخرى وهذا الأمر – وكما قلنا- فرضته الصحاري والبوادي العربية الممتدة على مرمى البصر بدون أوهام أو خيال.   
بينما كان العربي يتغزل بالمرأة البدينة الممتلئة الأرداف كما في قول النابغة الذبياني يتغزل بزوجة النعمان ملك الحيرة فيقول:
محطوطة المتنين غير مفاضة            ريا الروادف بضة المتجرد
 بينما كان العاشق الكردي يتغزل برشاقة محبوبته وقوامها الهيفاء، فيصف قامتها وقوامها الرشيق بقوله: (Bejna wê wek şetlek rîhani) أي قامتها هيفاء كشتلة ريحان والريحان نبتة طيبة الرائحة باسقة القوام تنمو على ضفاف الأنهار عادة. ويتغزل المطرب الكردي الراحل الشهير محمد شيخو في أغانيه بقوام محبوته (إيمى) فيقول:
 (Ay lê lê lê êmê… de bejna Êma Hemo tak rihana devê çêmê, ez xeşîmim zarome nizanim ji kîja alî de bêmê…Êm…a..a…m).
أي ما معناه، قوامك رشيق كشتلة ريحان يا إيمى، وأنا شاب غر صغير، فلا أدري من أي جهة أميل عليه يا حبيبتي. أو يصف الكردي حبيبته بخشفة غزال، نظراً لرشاقة الغزال وسرعة عدوه فيقول عنها: (Weke kara xezalaye). أي انها جميلة كخشفة غزال والتي تمتاز برقتها ونعومتها. والنعومة هي الصفة الأخرى المستحبة لدى العاشق الكردي، ولهذا فالأكراد يقولون عن الفتاة الناعمة الرقيقة القوام بـكلمة (نازدار)، مثل قول محمد شيخو:
(Lê lê naikê nazdarê) أي يخاطبها ويصفها بالرقة والنعومة.
ومن المارسات العملية المستحبة لدى العاشق الشاب هوملاعبة ثديي المحبوبة، أو بشكل أدق بحلمات الأثداء الناهدة ويسميهما الكرد(ممك) ويصفهما في أغانيه وغزلياته بـفنجانين فرفوريين (Lê..lê ..lê Amîna memkê te sor û spîna mîna fincanê ferfûrîna)
أو بتفاحات مدينة خلاط الكرردية( Memkê te sor û spîna wek sêvên xelatîna) ويصفون الخدود برمانتين فيقولون عنهما: (Hinarkên riwê wê) أي رمانتي وجهها. وهناك مواضيع واجزاء أخرى من جسم الفتاة يتغزل بها الكرد وتكون موضع استحسان لديهم، وهي الأصابع الزيتونية الطوال المائلة للإصفرار (Tilyên tenî zerî zeytûnî)، وحور العيون (Çavên reşî belek) والعيون الناعسة ( Çavên xilmaşî)، والعيون الكحيلة (Çavên kildayî). والقوام الرشيق (Bejna zirav) والحمامة القلابة (Kevoka teqle)، والحواجب المقلمة
(Birwên qelemkirî) والحواجب القيتانية (Birwên qeytanî). كما يحفل الغناء الغزلي الكردي بكلمات تدل على حب عارم للمرأة لدرجة التدخل في خصوصياتها والتمثيل الغنائي في ملامسة المناطق الحساسة منها. مثل قولهم في احدى اغاني الاعراس
(Ez ketma ser sîngê da ketma xîra xwedê da) فوقوعه على صدر المرأة يعني دخوله في ملكوت الله ونعمه. ويبلغ الهيام بالعاشق الكردي حتى بات يتمنى لو شاء له أن التهم حلمات اثداء محبوبته فتقول احدى الأغاني الغزلية
(yarê yarê. min serê memkê te xwarê Ha yarê ).
 وفي غناء جنسي مثير يقول العاشق(mêrik çûye seferê îşelleh nevegerê)

 فالعاشق يتمنى وروحة بلا رجعة لزوج عشيقته التي تزوجت غيره بسبب العادات والتقاليد الإجتماعية ويتمنى للزوج الموت حتى يتزوجها هو من جديد. ويظهر أن العشاق الكرد كانوا يعانون كثيراً من العلاقات والعادات الإجتماعية في عهود الإقطاع والنفسيات القروية الصارمة حيث يزوج النساء أولياء أمورهن ودون مشورتهن وأحياناً بالقوة والغصب. ولذلك كان هذا الدعاء على الرجل بروحة بلا رجعة حتى يحقق مراده بالزواج من عشيقته التي كان يعتبر زواج غيره بها بمثابة اغتصاب لها. وهذه الاغاني رغم معانيها الفاضحة. ونشير أخيراً إلى العبارة الكردية الجميلة (Dara mirada) وتعني شجرة المقاصد، أي تصف العبارة الاشخاص الذين يسعون بحسن النية بين العاشقين لتحقيق مرامهمها بـ(شجرة المقاصد). ورغم هذه الصور الجنسية الفاضحة إلا إنها صوراً يريئة كان يقبل بها المجتمع الكردي نظرا لبراءة وطهارة هذا المجتمع وخلوه من العلاقات الجنسية غير الشرعية، فالاكراد – وكما هو معروف عنهم- من أكثر الشعوب محافظة على العرض والشرف والذمار – إن لم يكن أكثرها – بشهادة الأجانب أنفسهم الذين زاروهم في أوطانهم، ولذلك كانت هذه الأغاني رغم الصداقية والمعاناة الكامنة فيها إلا أنها لاتؤخذ على محمل الجد ومجرد مزحة ثقيلة لاغير.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…