الشــــــعر على مــــــائدة اليومي العابر

  إبراهيم حسو

في ديوانها الرابع ( معطف أحمر فارغ ) تحدثنا رشا عمران كعادتها عن علاقاتها مع محيطها الدلالي المحسوس و عن انفعالاتها اليومية ذات حساسية عالية
حيث الحياة الروتينية الراكضة بعنف نحو وراء مشاغل روحية عابرة و عوالم جديدة من الانكسارات المتتابعة و المتلاحقة ضمن تصوير حالة الذات الشاعرة و تحولاتها المستمرة و المنقسمة إلى بؤر من الألم و الفقد و التلهف إلى أطوار حياتية مختصرة منسية و تواريخ ثبتّتها الشاعرة على شكل مقاطع متناثرة و متناسقة في سياقاتها الشعرية , وهي مقاطع في ترويض الصمت أو تفكيكه و مقايضة ( التذكر) بالنسيان المراوغ المعاند , أو هي في الحقيقة محاورة الصدى و كسبه , فلا رائحة لذاكرة الجسد و لا هواء لشهوات مختبئة ولا هوس بوصف مذاقات الأنثى في تخمين رغباتها ولهاثها و اشتعالاتها
تجربة رشا الجديدة تغوص في العمق و البساطة الإنسانيين, ففي كل مقطع تعثر على دفء إنساني ما تعصر روح الكلمات و في كل مفردة ظلال خفية لآلام خفية تُسلخ و تُُستباح , رغبات إنسانية معذبة قلقة دون أمل كالأصوات الخانقة العابرة أو كملاك عابر يتفقد ضحاياه و يمضي :‏
أعرف .. أن الزوارق تتهدم / كما الذاكرة / وأن المرافئ مهجورة / كالحب القديم / وأن الرمل يتبدد كما الأسئلة /وأن الزرقة تموج/ كضباب منسحب من جهة غريبة /متألم /غامق /حزين ..‏
( معطف احمر فارغ ) هي تجربة النجاة من ذلك الشعور الحميمي للخوف و الفقدان و الموت وغشاوة الحب , إنها أيضاً انجذاب إلى الذات المشتعلة التي تمحي نفسها و تحيا فيها في محاولة الوصول إلى معنى الشعر و التقرب أكثر من معنى الصمت أو الصخب أو الحب الأصيل الذي له حضور فاقع , حب ما قديم و يتجدد , ألم ما قديم وباقٍِ لا فرق هنا طالما أن كتابتها مجامعة على شواغر حسيّة و معّدة على أحسن تقويم لاستقبال شؤون الحب بكاملها , الحياة و الألم بكاملهما , و الكره الرائع بكامله , اقصد الكره المسالم الذي يسكن في أعلى ناصية من عمق كلمة ( الحب ) : ( أعرف أنكم في كل مكان مني كألم قديم .) ‏
تحفر رشا في عمق الكلمة دون أن تهتم بجذرها أو أوراقها , تخلص كثيراً للسياقات و تكاد تكون مغرمة بالترتيب و البناء الهيكلي للجملة الشعرية , لديها مساطر في قياس كل جملة وما قد ينقصها أو يزيدها و ذلك بالعودة الدائمة إلى اللغة التي تكون حاضرة أبداً في تقديم يد العون و مراقبة البناء من أعلى الصارية و توجيه النصح للمخيلة و ما قد تضيفها إلى النص و تجمله : ( لم يقل شيئاً …. أنا اخترت أن أسمعه ) ( تعال ..كي نرفع الليل عن مائدة العالم ونهبه للسائلين ) .‏
وقد تبدو القراءة الأولية لهذا النص انه مبني على القص أو ما يشبه الحكاية فلأن المتكلمة هنا ( تحكي ) عن حضورها عن لحظتها وان بدت اللحظة مغلفة بالعودة إلى ماض قريب ( استرجاع ذكرى محمد عمران ) أو مزج الماضي بالراهن البعيد عبر مشاهد سينمائية ( بصرية ) و القبض على لقطاتها شعرياً , بأدوات قد يكون بعضها استنطاقاً للصور و الحركة و المشاهد المركبة و اللقطات الإنسانية الخانقة :‏
أسماء غيابك/ أرددها عاماً وراء عام / كي أصدق الفراغ/ من آخر البيت/ حتى أول قبرك .‏
تختار عمران العناوين الطويلة لمقاطع نثرية قصيرة و كذلك عناوين قصيرة ( مفردة واحدة ) لنصوص طويلة في سبيل الوصول إلى حالة شعرية تبدأ في جعل البياض و الهامش و الحواشي فسحة لغوية عامرة و بركة تشكيلية ملونة و لامعة بالصور التخيلية التي قد تجدها هنا و هناك في قلب كل صفحة وفي كل مقطع ينتهي بجملة أو كلمة 🙁 كم طرية أنا بك . ) ( سرير مؤجل منذ أن استدل البرق على نافذتي وانزلق تحت قميص نومي) وإذا توغلنا أكثر في مفاصل النصوص الطويلة التي أخذت أكثر من 60 صفحة من الكتاب سنعثر على مفاتيح رشا الشعرية و كلمة السر التي لم تقدر إلا أن تبوح بها لكل قرائها في محاولة منها في إيصال وحشتها الداخلية إلى فضاءات أقوى و أرحب , إلى دلالات مفتوحة و متداولة للجميع دون أن تنسى الحفاظ على طهارة فكرها , و نقاء عناصرها , و كمال معاناتها , وزلال تجربتها الحياتية , و قد يصل هذا البوح ( المجاني ) إلى اصطكاك غير محسوب بين تحولات المعنى و انزلاقاتها عن طريقها الصحيح .‏
أصدرت رشا عمران أربع مجموعات شعرية في فترات متباعدة زمنياً إلا أنها تنوعت في أساليبها و لغتها و صورها و شكلت في نصها الشعري ( كأن منفاي جسدي ) ما يمكن تسميته العبور إلى الضفة الآمنة للشعر و القصيدة الحديثة و هي على كل تعكس حضورها الإبداعي و الكتابي . لها أيضاً : (وجع له شكل الحياة) و(ظلك الممتد في أقصى حنيني) و(كجدار بلا نوافذ) .‏
( معطف أحمر فارغ ) شعر 2009 – رشا عمران – مطبوعات وزارة الثقافة السورية‏

الثورة – كتب الأربعاء 30-9-2009م

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…

ماهين شيخاني.

 

وصلتُ إلى المدينة في الصباح، قرابة التاسعة، بعد رحلة طويلة من الانتظار… أكثر مما هي من التنقل. كنت متعبًا، لكن موعدي مع جهاز الرنين المغناطيسي لا ينتظر، ذاك الجهاز الذي – دون مبالغة – صار يعرف عمودي الفقري أكثر مما أعرفه أنا.

ترجّلتُ من الحافلة ألهث كما لو أنني خرجتُ للتو من سباق قريتنا الريفي،…

إبراهيم سمو

عالية بيازيد وشهود القصيدة: مرافعةٌ في هشاشة الشاعر:

تُقدِّم الكاتبة والباحثة عالية بيازيد، في تصديرها لأعمال زوجها الشاعر سعيد تحسين، شهادةً تتجاوز البُعد العاطفي أو التوثيقي، لتتحوّل إلى مدخل تأويلي عميق لفهم تجربة شاعر طالما كانت قصائده مرآةً لحياته الداخلية.
لا تظهر بيازيد في هذه الشهادة كامرأة تشاركه الحياة فحسب، بل كـ”صندوق أسود” يحتفظ…