أدونيس والحضارة حوار غير متكافئ مع الطرابلسي والآخرين

صبري رسـول

السّجال الثّقافي الماراثوني (المفتعل) الذي شغَّل الوسط الثقافي العربي في الفترة الأخيرة، أثارَ حفيظة بعض المثقفين المتزمّتين، الذين ينبرون إلى السّاحات الكلامية للّنيل من شخصية الخصم الثقافية، ورميهِ بالحجارة الصَّغيرة والكبيرة (الاتهامات والتجريح) على أملٍ أنْ تصيبه إحداها. 

وتعود بداية الاختلافات (الخلافات على الأغلب) إلى الرَّأي (وجهة نظر) الذي طرحَهُ النَّاقد والشَّاعر السُّوري أدونيس الذي يرى بأنَّ الحضارة العربية في طريقها إلى الانقراض، لأنَّ العرب بربع بليونه لم يحقّقوا شيئاً من التقدم والازدهار، لا في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، ولا في الفكر والثقافة، ولا حتى في السياسة.
 هذا الرَّأي طرحه أكثر من مرة، لكن لم يقف عليه أحدٌ سابقاً، أما الآن، أثناء زيارته لكردستان العراق (14 – 24/4/2009م) فقد جاءَتْه عاصفةٌ من الاتهامات الجارحة عندما ذكر هذه الفكرة مصحّحاً صيغة العبارة من (جثَّة نتنة، إلى، انقراض الحضارة العربية). ويبدو أنّ ما أثار الزوبعة في وجهه ليس ما طرحَهُ الشاعر! بل قيامُهُ بزيارةٍ لكردستان العراق( وفق كلام أدونيس) حيث يقول مستفسراً ((لماذا أثارت زيارتي إلى إقليم كردستان العراق (14 – 24 نيسان – أبريل الماضي) احتجاجاً لدى بعض المثقفين العرب؟ )) مؤكداً في الوقت ذاته بأنّه طرح وقال هذه الفكرة أكثر من مرة: (( وعن «انقراض الحضارة العربية» لم أقله للمرة الأولى، فقد قلته قبل هذه الزيارة بزمن طويل في القاهرة ودمشق وبيروت وغيرها،حيث أتاحت المناسبة)). « جريدة الحياة » العدد/16834/ تاريخ 7/5/2009م.

يطرح أدونيس تساؤله العميق في معرض ردِّه على الكاتب اللبناني فواز الطرابلسي الذي اتَّهمه بالتَّملق للكرد لينفضَ عن نفسه تهمة مهاجمة الشعب الكردي: ((آثر ادونيس في محاضرته التملق للكرد للتملص من تهمة تلاحقه بمهاجمته الشعب الكردي، بهجاء ذاتي للحضارة التي ينتمي اليها)). جريدة السفير 1/5/2009م

ويبدو من خلال السّجال الثقافي غير المتكافئ بين أدونيس وبين بعض الكتاب من لبنان ومصر(حازم العظمة «الأخبار»، 30 – 4 – 2009) أنَّ ثمّة عدة محاور أساسية اختلف عليها هؤلاء و آخرون ومنها:

أولاً : إنَّ الزّيارة بحدّ ذاتها كانت محوراً للخلاف، حيث ينظرُ كثيرٌ من المثقفين المحسوبين على السلطة( الذين أنتجتهم المؤسسة الثقافية الرسمية أو من يدور في فلكها) ينظرون إلى إقليم كردستان العراق بعين الشّك وعدم الارتياح، متّهمين قادتها بالتبعية للغرب، ناسين أو متناسين بأنَّ هناك دولاً عربية كثيرة تربطهم  مع الغرب علاقاتٌ أوثق مما تربط بين كردستان والغرب. وهذا ما دفع ببعضهم إلى استغلال الفرصة لتصفية حساباتٍ ثقافية مع أدونيس، الضّيف الزائر للأقليم، وأطلقوا سهامهم على هذه الشخصية الثقافية دون الوقوف، بالتحليل والبراهين، أمام آرائه. وهذا ما دفع أدونيس إلى طرح تساؤله المشروع سابقاً.

ثانياً : إنَّ بعضاً من هؤلاء لا يملكون رؤيةً متكاملةً للمشروع الثقافي العربي، لأنَّهم لم يتمكّنوا من قراءة التّراث العربي بوصفه جزءاً من الحضارة السابقة قراءةً نقديةً شاملةً، وبالتالي لديهم خلطٌ كبيرٌ في الفرز بين مزايا هذا التَّراث وعيوبه. وعندما لا يملك المرءُ المثقفُ مشروعاً فأنّه ينزلق إلى ممارسة الطغيان الثقافي وإلى التجريح والنيل من شخصية الآخر بدلاً من تحليل أفكاره وتفنيدها وطرح البديل عنها، وهذا ما فعله الكاتب فواز الطرابلسي الذي نعتَ أدونيس بـ(الأنا المتضخمة) في جريدة السفير 1/5/2009 قائلاً: ((المدهش ان عين الانا المتضخمة لا تستطيع ان تلاحظ ما بات يشكل فورة ثقافية مقاومة ومعارضة…. ولا ترى عين الانا المتضخمة العدد المتسع من المثقفين يقبعون في السجون، بما فيها سجون بلده سوريا، لانهم يرون الى الثقافة على انها «وجهة نظر» ولانهم يقاومون «السلطات» ولا يرتضون الاذعان لوزارات الثقافة وينادون فوق ذلك كله بفصل الدين عن الدولة.)) . كلام فواز الطرابلسي أثار حفيظة أدونيس الذي عبَّر عن رأيه، و من حق الطرابلسي أن يدخل في مناقشة الموضوع ويردَّ عليه بأدلة وبراهين، وهذا ما رحَّب به أدونيس لكن الطرابلسي، كونه لا يمتلك تلك الرؤية الواضحة للمشروع الثقافي العربي، أخرج الموضوع من سياقه الثقافي والفكري إلى مسألة شخصية، مغيّباً دور العقل في النقاش الدائر، وفق تعبير أدونيس الذي يرى أنَّ غياب العقل النّقدي في معالجة قضية كبرى كهذه ((دليل آخر على الانقراض الأدبيّ، على الأقلّ)) مؤكداً أنّ الأسلوب التجريحي ( المبتذل) الذي لجأ إليه الطرابلسي ((نوع آخر من البطش يفوق البطش السلطوي، لأنه موجّه إلى صميم الشّخص الآخر لا إلى كلامه ومواقفه)).

هنا نلاحظ أنَّ الطرابلسي عطّلَ النِّقاشَ الثَّقافي والحوار الفكري، مما أفقَدَهُ القدرةَ على مواجهة أدونيس ودحضِ أفكاره ورؤاه، وانتقل إلى التهكم الشّخصي وتجريح ذات الكاتب حيثُ يذكر أنّه قدّمَ ((تنازلاتٍ سياسيةً كثيرة بشعة)) بعد جولاته الفاشلة في نيل الجائزة ((أم ان صاحب «أغاني مهيار الدمشقي»، بعد جولات وجولات فاشلة في نيل الجائزة، قرر أن «يلصق آخر طينة في جدار» هيئة تحكيم الجائزة، فيرمي لها بـ«الصولد» الثقافي ناعيا انقراض «حضارته» والشعب الذي ينتمي اليه!))

هذا الغمز واللَّمز والتجريح (صاحب أغاني مهيار الدّمشقي، جولات فاشلة في نيل نوبل) كلامٌ لا مبرر له في معرض مناقشة قضية فكرية كبرى كقضية انقراض الحضارة العربية أو نهضتها و ازدهارها، لأنَّ الخلافَ مازالَ عميقاً بين رؤيتين: إحداها ترى بأنَّ العرب لم يحققوا شيئاً من الازدهار والتقدم، رغم مرور قرنين على بدء النهضة العربية، وأنَّهم تخلّفوا عمّا حقَّقَتْهَا أممٌ كانت تعيش في سحيق التخلف وانحطاطه، وبدأتْ نهضتُها بعد العرب بعقودٍ كثيرة، وارتقتْ إلى شموخ العلا؛ وأخرى ترى بأنَّ الحضارة العربية تعيش نهضَتِها، وهناك متَّسعٌ منَ الأمل بأنْ تزدهرَ، مستندةً في رأيها على وجودِ عشراتِ الأسماء الكبيرة لمثقفين ومفكرين، منهم مايزال يقدّم الكثير للثقافة العربية، ومنهم من يعيش في السّجون لرفضِهِ التَّصفيق لجوقة السلطة. وإلى هذا الأمر يذهب فواز الطرابلسي متفائلاً ومتأملاً بقيام نهضة (( ولا ترى عين الانا المتضخمة العدد المتسع من المثقفين يقبعون في السجون …ولانهم يقاومون «السلطات» ولا يرتضون الاذعان لوزارات الثقافة وينادون فوق ذلك كله بفصل الدين عن الدولة)) (جريدة السفير، العدد السابق). وأدونيس يختلف معه في هذا الأمر، فيرى بأنّ ((حياة الحضارات وحيويتها ونموّها وفاعليتها لا تقاس بأفراد مهما نبغوا، لا سيما أن الأدباء المذكورين ليسوا مدينين في نبوغهم للمؤسسات والبنى في مجتمعاتهم…)) وهذا الرأي أقرب إلى التحليل الموضوعي، العلمي، كنتاجٍ لإعْمَال العقل، لأنَّ معظم هؤلاء الذين ذكرهم الطرابلسي، إن لم نقل جميعهم، لم يرضعوا من ثقافة المؤسسات الرّسمية والبنى الاجتماعية، والمؤسسات الثقافية تلك، مازالَ قسمٌ كبيرٌ منها يجترُّ مفردات التراث المتهالك، ويعيشُ تحت ظلّه، والقسم الآخر يقومُ بوظيفةِ نقل الأفكار والنظريات من الآخرين، ويتيهُ في مسالكها، وذكرُهُ لتلك الأسماء يُصبِحُ دليلاً عليه وليس له. أمَّا ما ذهب إليه الطّرابلسي بأنَّ الثقافةَ العربيةَ ((اغتنت وتغتني من روافد من كل مكوناتها ومن كل من جاورها أو تفاعل معها من الشعوب والثقافات والحضارات المجاورة )). أمرٌ يدلُّ على جهلٍ كبير بالواقع العربي السياسي والثقافي، فوجودُ اسمٍ أو بضعة أسماء لمثقفين غير عرب، ينتمون إلى قومياتٍ أخرى تتعايشُ مع العرب، أو بجوارهم تاريخياً، لا يعني بأنَّ تلك الثقافة اغتنت وتغتني من تعدّدِ روافدها، وتتفاعل مع ثقافاتها، فإلى الأمس القريب كانَ يُساقُ المرءُ إلى عتمة السّجون لانتمائه القومي والديني في العراق، وكردستان العراق جزءٌ منه، وفي بلدانٍ أخرى مايزال المواطنُ يُلاحقُ بسبب لغته وثقافته، وانتمائه القومي، فأين تلك الروافد الثقافية التي تصبُّ في نهر الحضارة العربية التي يتحدَّثُ عنها الطّرابلسي؟
          ثالثاً: الجانب الآخر الذي يستحقّ الوقوف عنده هو التباين الواضح بين الأسلوبين، أسلوب الطرابلسي الذي يميل إلى إلحاق الأذى والإساءة إلى ذات الكاتب، بدلاً من تقديم ما لديه من أدلّة تؤكد وجهة نظره، وتدحض رأي خصمِهِ، محاورِهِ، فكما ورد أعلاه لجأ هذا الكاتب في حواره غير المباشر مع أدونيس، عبر جريدة السفير، إلى التَّشهير به وتجريحه، بينما انصبَّ اهتمام أدونيس إلى إيراد الأمثلة والأدلة التي تؤيد وجهة نظره، في كلّ القضايا، السياسية والفكرية والثقافية، والاقتصادية، ويرى بأنَّ ((التّخلف ليس قدراً. والنهــوض، إذا كان معجـــزةً، فإنّ هذه المعجزة قد حققتها شعوبٌ لم تكن في ماضيها أعظم من العرب)). إذاً، يدلُّ هذا الكلام على أنَّ العرب لم يأخذوا بأسباب النّهوض، مما جعلهم يتراجعون في كلّ ميادين، ومع الطفرة النّفطية (زيادة القوة الشرائية لديهم) والزّيادة السّكانية لديهم (احتياجهم إلى مستلزمات الحياة المعاصرة) أصبحوا ((«ثروة سوقيّة» هائلة للقوى المنتجة في العالم )) حسب تعبير أدونيس الذي يذكر أمثلة كثيرة عن تقدم غير العرب وتخلّفهم، علمياً وسياسياً واقتصادياً، ويختتم ردَّه في زاويته بجريدة الحياة (مدارات) بشكلٍ تهكميٍّ على المحتجين قائلاً ((لم تنقرض «حضارتكم»، وهي لا تزال تجرّ أذيالها الباذخة)). وهكذا يستنتج القارئُ بأنَّ هذا الحوار لم يكن متكافئاً، حيثُ وقع الطرابلسي أسيرَ انزعاجه، واستخدامه الأسلوب العنيف الجارح، بعيداً عن إيراد ما يدعم رأيه، بينما أصاب أدونيس هدفه، في الابتعاد عن ذلك الجدل العقيم، ولجوئه إلى دعم آرائه بالشّواهد، ليقنع القارئ بصحّة وجهة نظره.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…