دوت الصرخة في فضاء الغرفة ، فانتفض النائمون مداهمين بحسّ الانخطاف ، وامتدّت يد ” نيجان ” إلى زرّ النور ، لينتشر ضوء أصفر شاحب في المكان ، اتّجهت العيون إلى ” برهان ” الغارق في عرقه ، كان شعره قد تشعّث بفعل التّقلّب على المخدة ، وصدغاه ينبضان بقوة ، بينما بدت عيناه مزروعتين بالخوف والانكسار ، وراح وجهه يعبّر عن رعب مريع يعصف ببقاع النفس ، ويلقي بها في ظلال التصدّع .
وبين دهشة الجميع وذهولهم ، أسرعت زوجته لتحضر كأساً من الماء ..
– عيناهما ! عينا الصغيرين يا نيجان !
اعتقلها الاستغراب :
– أيّ صغيرين يا برهان !؟
وكمن استعيد من أرض الرجعى ؛ تلفّت حوله ، كانت الوجوه تتطلّع إليه مترقّبة متعاطفة ، ، تنهّد بقوة،
وامتدّت يده إلى كأس الماء ، ثمّ وضع رأسه بين يديه ..
– هل تشكو من شيء!؟
لكنّه لم يجب ، فربتت على كتفه ..
– تمدّد يا عزيزي ! اللّه أعلم بالمصاعب التي تواجهك في الطريق !
وفي سرّها راح السؤال يحفر في النفس .ز
” ترى ما الذي أوصله إلى البيت على تلك الحال !؟”
تمدّد ، كانت عيناه مفتوحتين في الظلام ، وأنشأ الحدث يعيد نفسه على شاشة الذاكرة .. الفوّهات مصوّبة إليه
خلل الزجاج الأمامي ، والوجوه الصامتة ترتدي وحشية ضارية ، بينما يفصح صمتها عن عزمها الأكيد على تنفيذ تهديدها !
جليّة كانت الصور ، ضاغطة ، مخرّشة للذاكرة ، فعاد العرق ينشع عبر الجلد ، وأخذ وجهه يعكس تشنّجاً حاداً ، شفتاه انفتحتا على آخرهما آن عجزت فتحتا الأنف عن تأمين الهواء اللازم ..
” أختنق ” !
همس من بين شفتيه ، امتدّت كفّه إلى عنقه مغيثة ، ثمّ هبطت إلى صدره المدفدف ، وأنشأت اللحظة الثقيلة تقترب ، ارتفعت العجلتان الأماميتان ، وشعر أنّ اللحم والعظم الآدميين يٍٍُِِمعسان ، اندفع جالسا في فراشه ، وتجمّدت الصرخة الخرساء فوق شفتيه ، تلفّت حوله ، لم يكن الظلام محكما ، إذ كان ثمّة نور باهت يتخلّل من خصاص الباب والنافذة ، كان الموات يشمل الموجودات ، وعادت الذاكرة تضغط .. الشاحنة تحفر الطريق الجبليّ الضيّق ؛ تاركة مدينة ” العمادية ” وراءها ، بينما تسحب أشعة الشمس ذيل ردائها الغارب على السفوح والقمم وذرا الأشجار ، موقظة في النفس استعداداً غامضاً لليلة باردة ، مستمّداً – ربّما – من القمم العارية المغطاة بالثلوج ، وربّما كان قفر المكان وانعدام البشر فيه سبباً في إحساس كهذا ، أخذ ” برهان ” يستعيد وجوه أطفاله ، ويمنّي النفس بليلة مريحة في بيته ، علّ الوحشة الضاربة في منابت النفس تخفّف ضغطها ، وعلى مدّ النظر راحت الخضرة تعلن نفسها ملكة متوّجة ..
انقطع انتظام الصور ، وهرولت الذاكرة بلا سياق ..
الفوهات المصوّبة إليه تكشف عن تعطّشها إلى القتل ، ومن خلفها كانت الوجوه الرعناء تهدّد ، ثمّ تحرّكت الشاحنة ، وارتفعت العجلتان الأماميتان تمعسان اللحم الآدميّ ..
انتفض جسمه بقوة ، كان عرقه غزيراً وبارداً ، ومن حوله كان السكون شاملاً ، بيد أنّ هدوء المحيط لم يكن يعنيه في شيء أمام البركان الداخليّ الذي راح يعصف به ، ويعيده إلى أحضان اللحظة الماضية بكلّ حدّتها وألمها ..
الشاحنة تمضي في طريقها لاتلوي على شيء ، لم يعد يدري من أين طلعت أمامه بغتة ، فامتدّت قدمه – لاإراديّاً – إلى المكبح ..
” أيّ شيطان ألقى بها في هذه البقعة الحدودية النائية !؟”
بصعوبة بالغة استطاع أن يتفادى المرأة التي ألقت بنفسها على مقدّمة الشاحنة ، وهبط بسرعة يريد أن يطمئنّ إلى أنّه لم يصدمها ..
– ولكن ماذا تفعلين هنا بحقّ الشيطان !؟
وأخذت المرأة تبربر بكلام غير مفهوم ، بينما كانت يداها تتحرّكان في محاولة لتأكيد ما تقول ، فأسقط في يده ..
” والآن ! كيف تفهم منها ما تريد ؛ وأنت تجهل الكردية السورانية !؟”
وحتّى تكتمل دارة الدهشة برز طفلان صغيران من خلف الأشجار ، تأمّلهما متعجباً ، بينما راحت المرأة تكمل كلامها ، ولم يكن بحاجة إلى كثير تمعّن حتّى يتواصل مع الفجيعة القابعة في أعماق عينيها ، كما لم تغب عنه لهجة التوسّل المنبعثة من كلامها ، فتساءل مرّة أخرى :
” باللّه عليك كيف تفهم ما تريد !؟”
– يااللّه ! ماذا تريدين ؟ الطفلين ؟ مابهما !؟
بالحركة أقرن سؤاله ، فجذبت الصغيرين من يديهما ، ووضعتهما في يده ..
– آخذهما !؟
استفسر مستغرباً ؛ موضّحاً سؤاله بالإشارة ، فهزّت رأسها بالإيجاب ..
– ولكن !؟
انكبت المرأة على يديه تقبّلهما ، وتلألأت دموع ضارعة في المقلتين ..
” ربّاه ! هل لأمّ أن تتخلّى عن أولادها في أيّ ظرف كان !؟”
تساءل ، وراحت هي تهزّ كمّه بإلحاح ، فربت على كتفها علامة الموافقة ، ثمّ التفت إلى
الصغيرين ، وقادهما نحو الشاحنة ، كان الأول في الثانية ، بينما بدا الثاني في الرابعة من عمره .. اندفعت المرأة خلفهم ملتاعة ، كان التمزّق يشم كلّ حركة من حركاتها ، وهرباً من الأسى العميق المرتسم في البؤبؤين ؛ انطلق ” برهان” بالشاحنة مسرعاً ، بيد أنّ عينيه لم تستطيعا الفرار من صورتها المنعكسة في المرآة الجانبية ، ويدها الملوّحة كغصن يابس تعبث به الريح وسط الطريق .
– لقد أسلمتهما إليك ! لقد أسلمتهما إليك !
ارتفع صوته متّهماًّ ، فأفاقت زوجته على صوته ، واقتربت منه حيرى ، ربتت على
كتفه،فأسند رأسه إلى صدرها ، وانخرط في نشيج مرير .
– حول أن تهدأ ! كلّ شيء – بإذن اللّه – يمكن إصلاحه ، فقط انتظر حتى الصباح !
فضجّ صارخاً :
– أنت لاتدركين شيئاً ! ما حدث لايمكن إصلاحه أبداً .. أ أبداً !
– حسناً ! إهدأ والصباح رباح !
وألقى بجسده المنهك على الفراش ..
” كيف يمكن إصلاح ما حدث ، كيف !؟”
أخذته قشعريرة باردة ، وأخذ يرتجف كورقة في هبوب ريح ، وعادت الوجوه الصامتة إلى
مهاجمته ثانية ، الفوّهات مصوّبة إليه تماماً ، جاهزة للإطلاق ، العجلتان الأماميتان ترتفعان ، واللحم والعظم يمعسان ، والدم يشخب على الطريق المعبّد .
انتفض فاتحاً عينيه ، للحظات كان النوم قد سرقه ، لم يكن نوماً بالمعنى المفهوم ، بل كان نوعاً من الانهيار العضويّ والعصبيّ الناجم عن اشتعال الأعصاب حتى آخر مدى لها ، لكنّ اليقظة لم تكن أكثر رحمة من النوم ، كلّ شيء كان جليّاً لعينيه ، وكأنّه يحدث للتوّ .. كانت الشاحنة تقترب من الحدود ، حينما فاجأته الدورية المتحرّكة ..
– أوراقك .
تأمّل رئيس الدورية الأوراق والأختام ، وكادت الأمور أن تنتهي بسلام ، لولا حدوث ما لم
يكن في الحسبان ، إذ رفع أحد الطفلين رأسه ، فأبصر به واحد من رجال الشرطة ، وأشار إليه ، التفت الآخرون نحو جهة الإشارة ..
– من يكون !؟
– ابني ( وأشارإلى صدره )
تحرّك رئيس الدورية نحو العربة ، فلاح له الطفل الثاني ..
– تعالا .. تعالا .. من أنتما !؟ ومن أين أتيتما !؟
– لقد أعطتنا أمّنا لهذا الرجل ، و ….
شعر أنّ البساط قد سحب من تحت قدميه ، وقال رئيس الدورية :
– الآن !
توجّهت فوهات البنادق نحوه ، وأنزل أحدهم الصغيرين ، تراجع ” برهان” إلى الخلف
مذعوراً ، كانت إشارة رئيس الدورية واضحة ! إنّه يطلب إليه أن يدهس الصغيرين !!
– ولكن ياربّ الأكوان ! إنّهما صغيران ، فما ذنبهما !؟
لقّم رجال الشرطة بنادقهم ..
– والآن .. هيّا !
وأشار برأسه الآمر نحو الصغيرين ، جامدة كانت الوجوه ، صلدة وعازمة ، إذّاك راح هذا
الجزء من الزمن يتّخذ معنى لايرحم ، فاستوى خلف المقود ذاهلاًً ، ألف فكرة أبرقت في الذهن ، ألف هاجس ، ألقى نظرة أخيرة على الجنود ، لكنّه لم يجد في عيونهم سوى الوحشية والصلف والتصميم ، وأنشأ الزمن يتناقص ويضمحلّ ويدقّ ..
أمّا كيف تناقصت المسافة بين الشاحنة والصغيرين ، وكيف راحت قامتهما تختفي خلف
مقدّمتها شيئاً فشيئاّ ، ثمّ كيف ارتفعت العجلتان مهشّمة الجسدين الغضّين ! وكيف انفجرت الشمس وتأوّهت الجبال ، وتسمّر الزمن ! فهو لايدري ! إذ كان يريد شيئاً واحداً ، أن يبتعد ، ويبتعد فقط !
بقوة شعر بأنّ معدته معلّقة في الفراغ , وأنّها – من كلّ بدّ – تروم تقيّؤ ما بجوفها ، كانت مقدّمات الفجر تتمطّى في صلب الظلام البهيم ..
” كان يجب أن ترفض تهديدهم ! كإنسان وككرديّ كان عليك أن ترفض ! ”
ضرب يده على المخدة ، بينما كان جسده يتّقد بالحمّى ، وأنشأ ألم حارق ومبهم ينتشر من أسفل الجمجمة نحو العنق ، فأعلى الظهر ، مترافقاً بتصلّب لايطاق ، جمجمته فارغة تماماً ، فارغة لدرجة ما عاد يتذكّر معها كيف عبر نقطة الحدود إلى ” قزالتبة” داخل الأراضي التركية ، ولا كيف اعتسف المسافة إلى بيته ، ضباب كثيف هبط على العينين ، وضريم اشتعل في الروح ، ذريرات الوعي انصعقت ، وأغلق عينيه للمرة الألف هرباً من يد الأمّ الملوّحة عبر المرآة العاكسة ، فداهمت الفوّهات المصوّبة إليه خلل الزجاج الأمامي الذاكرة ، أسند رأسه إلى حافة النافذة ؛ علّ الطاحون الدائرة في رأسه تتوقّف قليلاً ، ومن كلّ الجهات كانت عيون الصغيرين تجتاحه إمّا تلفّت ، وإمّا تلفّت كانت يداهما الصغيرتان تلوّحان له ..
نهض من فراشه !
– أنا قادم إليكما !
أغلق الباب الخارجيّ خلفه ، واندفع أهل الدار في إثره ..
– لن أسمح لأحد بإيذائكما ، لاتخافا !