كارثة، وكارثة مضاعفة

  فاديا سعد
 
أنتِ في الأربعين؟ يا للكارثة!! وأنتَ بالخمسين من العمر وأب لأولاد صاروا شبابا؟.. الكارثة المضاعفة!!
اتفقت مجتمعاتنا العربية على أعمار معينة (الأربعين للنساء، والخمسين للرجال) على أن ترسلهم إلى القبر أحياء بعد أن تدق رقاب الجميع بمطرقة التهديد: الكهولة! الشيخوخة!! سن اليأس!!!

 وكما يصرخ بائعي عربات الخضار والفواكه لتصريف بضائعهم، يصرخ المجتمع في وجوهنا فيطلقون على الرجل إذا ما تصرف بطريقة مريحة: كأن يضحك من أعماقه، أو  يلعب مع الأطفال تفاعلا، أو يشارك بحوار مراهقين مناقشا، بأنه يراهق، ويريد أخذ دوره ودور غيره!
 وإذا ما بدأت المرأة تهتم بشكلها، ورمت بعضا من دلع أنثوي على زوجها، أو لمعت عيناها، فقد فقدت رصانتها، ونزلت عن مكانتها، أو اقتربت من سن اليأس، وتستجدي العاطفة.. وإذ ذاك يبدأ اضطراب أقل وصف فيه خلص الكأس، أي: كأس العمر!

ويعني هذا فيما يعنيه: أن صفارة الإنذار الذي يطلقها المجتمع من جيب بانتهاء كأس العمر تستدعي عددا لا متناهيا من الأفكار السوداء:
– ما فسح لنا الوقت كي نعيش الحياة بطولها وعرضها لنكتشف جوهر الأشياء!!.
– سوف يفرغ كأس العمر من غير أن نتذوق طعم الحبّ الذي يرفعنا للسماء السايعة كما قرأنا في القصص والحكايات!!
– آه.. فرغ كأس العمر ولم نعرف أن نترك بصمة خاصة على الأشياء أثناء عبورنا لها.
–         خلص العمر وربيعه كما خريفه وصيفه يساوي شتاءه.
 ونندب حظنا، ونتبع الندب على الحظ سلسلة تحركات عشوائية تضمن لنا قتل آخرين يشعرون بالسعادة.
والمجتمع الذي أخرج صفارة الإنذار بانتهاء العمر، يخرج لنا في نفس الوقت من الجيب الآخر حلولا وفق تصوراته:
الإعلانات بكافة أنواعها عن عمليات زرع الشعر وعمليات التجميل.
 وإذا لم يعجبك هذا الجانب من الحل فإنه سيدفع بك لتتمثّل مصطلح الطهرانية  وإرسالك إلى أبعد نقطة في هذا الحل.
بعض منا يتحرك ضمن إطار التجميل تصل أحيانا حد الهوس. آخرون وخاصة الرجال يختارون الطريق الأسهل: زيجة جديدة. ثلة من البشر يختارون العودة لممارسة هوايتهم الأولى قبل أن تأخذهم هموم المعيشة وما يتبعها من لهاث لضمان الحد الأدنى من الاستمرارية.
متاهات، ثم متاهات ندخل فيها ولا نعرف متى وكيف هو الشكل الجديد الذي نخرج به.
إذا ما ابتعدنا عن التعامل التجاري بموضوع العمر، فأوهامه وهواجسه من حيث المبدأ هي المشكلة التي علينا أن نتعامل معها قبل التعامل مع تقدم العمر نفسه، وعمليات التجميل ليست خطأ بالمطلق، والزيجة ثانية قد لا تكون خطأ بالمطلق، كما أنّ العودة إلى الهواية حل ذكي لمشكلة الطبيعة وقوانينها، وإذا تعدّت المسألة تلك السلوكيات الخارجية لاستجداء الشباب إلى عملية داخلية معقدة وبسيطة فإني لست ممن يجمّل العمر بافتراضات وهمية لقانوني الحياة والموت، بل من أصحاب نظرة:
فليخلص الكأس، أو بالعربي الفصيح:  للحذاء إن فرغ هذا الكأس.
 أيسلّم أصحاب هذه النظرة -لأمر التقدم بالعمر- أنفسهم بذلك تسليما سهلا للقانون الطبيعي: أي الموت؟
لا أعتقد،  وإنما نكون منحنا أنفسنا فرصة امتلاك الشجاعة الكافية لنعيش الحياة في هذين العمرين وغيرهما، بطريقة أكثر فاعلية تصل حدّ الدّهشة. أوقات نطلق فيها العنان لأشرعتنا على  حياة تحتل فيها الصداقة والحب والمسؤولية والواجب شكلا جديدا.
 يذكر “بونويل” المخرج الاسباني الأصل في مذكراته:
“قد أمضيت كل حياتي براحة كبرى وسط تناقضات كثيرة دون محاولة تلافيها، إذ تشكل جزءا في، من غموضي الطبيعي والمكتسب.”
بالنسبة لي و لطالما صرت بالأربعين من العمر فلن أفكر بما سيحصل معي في الخمسين، ومتى صرت بالخمسين سأبحث عمّا أتمسك به، إلا أني الآن سأرغب بالمزيد من الأوقات التي ساهمتُ ملء إرادتي في إنشائها: أوقات حلوة حتى المرّ فيها يسعدني.
الآن؟
أجد أني ممن أخطئوا حد التخمة لكن الذي أدركه أكثر أني ما تخليت عن قلبي لثمن بخس، وهذا مصدر سعادة لا توصف.
 

والنتيجة: أن مجرد التحول في التركيز عن العمر وهواجسه يصبح العالم مختلفاً.  أكثر من ذلك: يجعلناننظر للنصف المملوء من الكأس بسعادة، وأيضا، وأيضا: لأننا مع هذا الشعور يمكننا أن نملأ النصف الآخر وفق إرادتنا.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إلى أنيس حنا مديواية، ذي المئة سنة، صاحب أقدم مكتبة في الجزيرة
إبراهيم اليوسف

ننتمي إلى ذلك الجيل الذي كانت فيه الكتابة أمضى من السيف، لا، بل كانت السيف ذاته. لم تكن ترفًا، ولا وسيلة للتسلية، بل كانت فعلًا وجوديًا، حاسمًا، مزلزلًا. فما إن يُنشر كتاب، أو بحث، أو مقال مهم لأحد الأسماء، حتى نبادر إلى قراءته،…

أصدرت منشورات رامينا في لندن رواية “مزامير التجانيّ” للجزائريّ محمد فتيلينه الذي يقدّم عملاً سردياً معقّداً وشاسعاً يتوزّع على خمسة أجزاء، تحمل عناوين دالّة: “مرزوق بن حمو، العتمة والنور، الزبد والبحر، الليل والنهار، عودٌ على بدء. “.

في رحلة البحث عن الملاذ وعن طريق الحرية، تتقاطع مصائر العديد من الشخوص الروائية داخل عوالم رواية “مزامير التجاني”،…

الترجمة عن الكردية : إبراهيم محمود

تقديم : البارحة اتحاد الكتاب الكُرد- دهوك، الثلاثاء، 8-4- 2025، والساعة الخامسة، كانت أربعينية الكاتبة والشاعرة الكردية ” ديا جوان ” التي رحلت في ” 26 شباط 2025 ” حيث احتفي بها رسمياً وشعبياً، وبهذه المناسبة وزّع ديوانها: زكاة الحب Zikata evînê، الصادر عن مركز ” خاني “للثقافة والإعلام، دهوك،…

فواز عبدي

 

في نقّارة، قريتي العالقة في زاوية القلب كقصيدة تنتظر إنهاء قافيتها، لم يكن العيد يأتي… بل كان يستيقظ. ينفض الغبار عن روحه، يتسلل من التنّور، من رائحة الطحين والرماد، من ضحكةٍ انبعثت ذات فجرٍ دافئ ولم تعد ، من ذاكرة عمّتي نوره التي كانت كلما نفخت على الجمر اشتعلت معها الذكريات..

تنّورها الطيني الكبير، ذاك…