لماذا يميل، قمة جبل جودي؟ إسطورة كردية ومغزى…!

خالص مسور

 

يتناقل الأكراد في مأثوراتهم الشعبية، إسطورة ميلان قمة جبل جودي في عبارة شهيرة تقول: (أن رأس جبل جودي مائل بسبب مكر النساء وكيدهن).
تقول الإسطورة:

شك رجل في نزاهة زوجته، وأحس بأنها تخونه مع رجل آخر غيره، وفي أحد الأيام، وبينما كانت الزوجة منهكة في عمل البيت، استدعاها الزوج إلى جلسة خاصة معه، ولما جلسا، فاتحها بالأمر المنكر الذي جعلها حديث الناس وموضع الشبهة والقيل والقال، ولكنها أنكرت التهمة على نفسها ورفضت الإقرار بالذنب، إلا أن الزوج ولكي يتأكد من براءتها، وليطمئن قلبه ويبعد عن نفسه الشكوك والوساوس، التي أقضت مضجعه ونغصت عليه حياته، قرر أن يصحبها إلى قبر أومزار أحد أولياء الله الصالحين، ولتحلف له بهذا القبر المقدس وبصاحبه، على أنها بريئة من التهمة الموجهة إليها، وأنها لاتخونه مع رجل آخر غيره. وأصرالزوج على قراره، طالباً منها أن تختارهي بنفسها من تثق به من رجال البلدة، ليرافقها كشاهد عيان على ماسوف يحدث عند قبر الولي الصالح.
فانطلقت المرأة مسرعة ثم عادت وقد أحضرت معها عشيقها! دون أن يفطن الزوج المغفل إلى حيلتها أو أن يعلم بالأمر شيئاً. سار الثلاثة نحو قبرالولي الصالح محاذين سلسلة جبال جودي الشاهقة، قاطعين الدروب والمسالك الوعرة سيراً على الأقدام، ماعدا المرأة التي كانت تمتطي حماراً حتى لايضنيها المسير وتنالها مشقة الطريق ووعثاء السفر. ولدى وصول الموكب إلى المزار القابع في أسفل سفوح جبل جودي الشهير، ألقت المرأة نفسها أرضاً متظاهرة بوقوعها من على ظهر الحمار، فانكشفت أمام الرجلين ثم نهضت مسرعة تلملم أذيالها، وتنطلق نحو المزار لتحلف بمغلظ الإيمان قائلة: أقسم بهذا القبر المقدس الذي يضم رفات الولي الصالح وبكل الأولياء الصالحين من أمثاله، أن لاأحد في هذه الدنيا اطلع على عورتي سوى أنت – تشير إلى زوجها- وهذا الشاب الذي يرافقنا فقط. لقد كانت المرأة صادقة في قسمها، فلم يطلع سوى هذين الرجلين وحدهما على عورتها، أحدهما زوج والآخر عشيق، وبذلك أنقذت المرأة نفسها من تهمة محققة بفضل مكرها ودهائها. ومنذ ذلك اليوم يميل جبل جودي برأسه خجلاً من مكر النساء وخبثهن.
دراسة اجتماعية تحليلية:
في الحقيقة تبدو قمم جبال جودي للناظرين إليها، كانها جدار هائل مائل فعلاً، أو هكذا ترائت لسكان المنطقة من الكرد الذين عجزوا عن تفسير ظاهرة الميلان إلا بهذه الإسطورة الطريفة والساخرة في آن واحد. وفي هذه الإسطورة كانت المرأة الضحية هذه المرة أيضاً، فهي المخلوقة دوماً من ضلع أعوج والذي لايستقيم أبداً. كما تشير الإسطورة من بعيد على ماض ميثولوجي غابر،عندما كان الأكراد تسود بينهم مفاهيم الأرواحية، أي الإعتقاد بأن لكل شيء روحاً، سواء أكان كائناً حياً أم جماداً أم حجراً وصخراً، سماء أو جبلاً!. ولهذا غشي هذا الجبل الشامخ خجل شديد، فغض من طرفه غاضباً، مائلاً برأسه نحو الأسفل خجلاً مما أقدمت عليه هذه المرأة الماكرة تحت سمعه وبصره.
وقد أفلحت الإسطورة- وحسب المفاهيم القديمة للمجتمع الكردي- في تحقيق أمرين في وقت واحد وهما تفسير من جهة، وتدبير وانتقام من جهة أخرى.
1- تفسير لظاهرة طبيعية وهي ميلان قمم جبل جودي في وقت كان فيه علم الجيولوجيا لايزال غائباً عن الوجود.
2- الإنتقام من المرأة التي ظهر من خلالها مدى حساسية الرجال الكرد ومعاناتهم من حيل النساء ومكرهن، وإقدامهن على ارتكاب ماحرمه الله عليها من الفواحش ماظهر منها ومابطن، وقدرتهن الفائقة على التملص مما أقدمت عليه بمنتهى البراعة والخبث.
ويعتقد أن هذه القصص عن المرأة والتي هي عادة من بنات خيال رجال فاشلين في حياتهم الزوجية، أو كان يخترعها مهرجوا بلاطات الملوك والأمراء، قد أفلحت في دغدغة أذهان الرجال الكرد، فتأثروا بها وتناقلوها شفاهة جيلاً بعد جيل، لهذا فلا يكف الرجل حتى اليوم عن التشكيك بالنساء عموماً، ويظهر ذلك من خلال نكتهم وتندرهم بهن، وبسلوكهن الجنسية الفاضحة في مجالسهم الخاصة وفي جلسات السمر مع الأتراب والأحباب، رغم أننا ندرك مبلغ وفاء النساء الكرديات لأزواجهن  ومبلغ ماوصلن إليه من العفة والطهارة، وحرصهن الشديد على شرفهن وأعراضهن والإخلاص لعقائدهن وأزواجهن، والتاريخ الكردي مليء بشواهد حية من مشاهد ألقت فيها النساء أنفسهن من فوق قمم الجبال، أو انتحرن لئلا يقعن في أيدي الأعداء، كما حدث مثلاً حينما تم القضاء على ثورة المجاهد الكردي الشيخ سيد رضا في جبال ديرسم المنيعة.
 إلا أن ظهور حالات خاصة ونادرة جداً نشأت بفعل غياب الرجال المتكرر عن بيوتهم، إما لدواعي الحروب أو للعمل في الحقول البعيدة، أو للثارات القائمة بين العوائل والقبائل، وكذلك في حالات الزواج بالإكراه. كل ذلك أدى – وكما في كل المجتمعات – إلى بعض التجاوزات من قبل نساء مغيب أزواجهن. وغياب الرجال المتكرر عن البيوت جعلهم يأخذون جانب الحيطة والحذر من النساء، وتعميم تهمتهم الجنسية على الجميع، والتشكيك بأخلاقهن بسبب وبدونه، وعن قلة تفكيرهن ودونيتهن عن الرجال وتقصيرهن عنه. كما تشير الإسطورة إلى غياب الجانب الديني لدى المرأة وعدم الخوف أو التفكير بالله وبعقابه يوم الحشر والحساب، على أفعالها المخالفة للشريعة الإسلامية وللثوابت الأخلاقية للدين. ويظهر هنا تناقض فكري حاد في سمات الشخصية الكردية تناقض بين ديالكتيك النظرية من جانب والممارسة من جانب آخر، حيث أن جلب امرأة يشك في عفتها وأخلاقيتها وسلوكها الديني والإجتماعب والجنسي، إلى قبور الأولياء لتبريء نفسها من التهمة اوتقر عليها بالفساد والسوء، هو التناقض بعينه، وكثيراً مايقع مثل هذا التناقض في التفكير الكردي. صحيح أن المرء قد يقر على نفسه الكثير من الأشياء إذا ماخير بين الحلف والإقرار بالتهمة المنسوبة إليه، ولكن بالنسبة للمراة عندما يكون الأمر متعلقاً بشرفها وعفتها، فمن المستحيل عليها الإقرار ولو حلفت مئة حلفة، ولكن التناقض الأشهر وجدت في ازدواجية تفكير المرأة التي لم تخاف الله، فأقدمت على خطيئة الزنا مع رجل غريب، وعقوبة الزاني المحصن في الإسلام هو الرجم حتى الموت، وعذابه شديد في الآخرة إن لم يعاقب، بينما وجدنا المرأة كانت خائفة من الحلف بقبر ولي من أولياء الله، والحلف بالقبور هو أمر مستحدث في الإسلام قد أحدثته الطرق الصوفية.
فالإسلام يقر الحلف بالله وحده وفي الحديث الشريف جاء مامعناه (إذا حلفت فاحلف بالله وإذا استعنت استعن بالله.) وهو ما يدل كذلك على جهل مطبق بأحكام الدين وقوانينه التي عتمت على جزء منها القوانين الصوفية. ولكن أصبحت هذه القوانين المخالفة للإسلام بمثابة كاريزمات في الذهنية الكردبة الدينية وفي ذهنية شعوب المنطقة المسلمة عموماً، بعيداً عن منطق الدين وتفكيره وهو هنا تحريف عقائدي إيديولوجي عفوي ناشيء عن الجهل بالأمور الدينية الصحيحة. ونقول مرة أخرى: أن المرأة كانت تبدو خائفة من الله وحاولت أن تمثل ليكون حلفها بربها صحيحاً لاغبار عليها، وهنا تظهر الإزدواجية والتناقض في سلوكها الديني فلم تكن خائفة من ممارسة الزنا وعقابها الإلهي ولكنها خافت من الحلف بقبر الولي الصالح، مما يدل على رسوخ التفكير الصوفي في مناطق كردستان بقوة وثبات وكأنه دين آخر، ولهذا فضلت المرأة عقاب الله وعذابه الذي يعتقد الكرد أن الله سينزله بالخاطئين الذين يحلفون كذباً وبهتاناً في يوم لاينفع فيه مال ولابنون، وقد يفضل الرجال وخاصة النساء هذه العقوبة على العقاب الدنيوي الذي يرافقه الفضيحة والقتل على أيدي الأهل والأقارب. فقد كانت المرأة هنا خائفة من أن يصيبها ساكن القبر وهي في طريق العودة، إما بالموت أو بالعمى، أو بعاهة مستديمة مميتة كما يعتقد الكرد، وبذلك ارتبط الدين بعد الضعف الذي أصابه مؤخراً بالمنفعة الشخصية وأصبح وسيلة يبغي مؤدوا شعائره من ربهم الموفقية والفلاح في الدنيا قبل الآخرة، ولجلب الخير والبركة في أموالهم وأولادهم، وتم تغليب الجانب المنفعي البراغماتي على الجانب الأصيل للدين في كاريزمات الشخصية الكردية كما هو سائد لدى سكان المنطقة عموماً.
وتظهر الإسطورة والتي قلنا أنها من صنيع الرجال، مدى استهتار المرأة بأخلاقيات المجتمع وقدسية الزواج، وتظهرها بأنها مخلوقة جنسية الميول والهوى، ينحصر جل تفكيرها في هذا الجانب الشهواني من نفسها، وأنها لاتردعها النوازع الدينية ولا الثوابت الأخلاقية، وأنها لاتفوت أية فرصة تسنح لها لممارسة الجنس إلا واستغلها مع أول رجل يقبل التعامل معها، وبذا يقع اللوم كله في هذا على المرأة وحدها.
ومن هنا تنتاب الرجل الكردي الغيرة الشديدة ويحكم على الفور بالإعدام على نسائه اللواتي يخننه مع رجل آخر. بهذا الشكل يمتاز الرجل الكردي أكثر من غيره من رجال العالم بالغيرة الشديدة على شرفه وعرضه، وهذه الغيرة التي لازمته ولاتزال تلازمه وهي بنت بيئتها فلم تأت اعتباطاً او أنها يباس رأس من الكردي كما يقال: بل الأمر يتعلق بنفسيته الشامخة شموخ الجبال المهيبة على بطائح كردستان ذاتها، فاستمد شجاعته وفتوته من هذه الجبال الشم، فشمخ كشموخها والشامخ لايقبل على الذين في حماية شاربيه المفتولين أن يصيبهم أذى من الغير، فما بالك بمن يعتدي على عرضه وكرامته فلا شك أن جزاء المعتدي والمرأة الخائنة هوالخنجر والذبح. كما أن من طبع الشجعان الكرام أن تبقى أعراضهم مصونة لن تمس، وشرفهم لاتكدره الدلاء، فعرضه هو الجانب الأيسر من شاربيه فمن تعرض لها فقد تعرض لاقدس مقدسات رجولته وهو مالايقبله مطلقاً على نفسه، كما أن المجتمع الكردي الحذر وتقسيمه إلى قبائل وأفخاذ والذي لايرحم أحداً من سلاطة لسانه، له دور هام في في الردع وممارسة تلك الممارسات الشائنة، بهذه الغيرة والشموخ رغم التجاوزات الكثيرة على حقوق المرأة وهو الجانب السلبي في الغيرة الشديدة لدى الرجل، ألا انها ساهمت في نقاوة المجتمع الكردي من الرذيلة والفساد الإجتماعي إلى حد ما. فالمجتمع الكردي يصف الرجل العديم الغيرة بعديم الناموس والشرف فيقولون لأمثاله:
( Tu çi zilamekî bê namûs û bê şerefe) وهي من أولى الصفات التي يرفضها الرجل الكردي على نفسه، بل هي تعبيرات دونها – على الفور – خناجر ودماء.
ومن مميزات الرجولة الكردية أيضاً هو التنافس مع من هو الأشجع في القبيلة، كما أنه يأبى أن يتلاعب أحد بشرفه وهو حي يرزق، وهذا هو طبع الكردي على الدوام ولايزال. والتاريخ يروي أن أبا مسلم الخرساني وهو كردي الأصل على حد تعبير الشاعر العباسي أبا دلامة الذي هجاه بأشعاره واصفاً إياه بالكردي، كان أبو مسلم يحمل مرة زوجته على ظهر بغلة فاخرة التجهيز، وعندما وصلت المرأة إلى ملفاها ونزلت من على ظهر البغلة، أمر زوجها أبو مسلم الكردي بإحراق السرج وكل شيء لامس ثياب زوجته ويقول البعض أنه احرق البغلة أيضاً، خشية أن يستخدمها رجل فيحدث بينه وبين زوجته تلامس غير مباشر.
 هذه هي غيرة الرجل الكردي على شرفه وعرضه ولكن مقابل الإفراط في هذه الغيرة، ونظراً لأن الكردي لم يتلق تربية كردية خالصة وهو محكوم من قبل الغير، لذا نراه على الدوام تحت تأثير تربية مشوهة، أكسبت شخصيته صفات لاتمت في غالب الأحيان إلى الأصالة الكردية بصلة منها، سرعة التشنج وفقدان المرونة في المواقف التي تتطلبها، وضعف الجانب السياسي والضعف النسبي في الجوانب الوطنية والقومية،وهذا التصلب العقلي وفقدان المرونة السياسية – وكما بينا سابقاًَ – تهافتت على ترسيخه العامل الخارجي وهو الشعوب المجاورة على الأغلب، وممن لهم مصلحة في إبقاء المجتمع الكردي في حالة من التخلف والجهل والتقوقع والإقتتال الداخلي. وهناك العامل الداخلي متمثلاً بالمناخ القاسي وبالبيئة الجبلية الصارمة التي ساهمت في إنعزال الشعب الكردي، والتي حافظت على المجتمع الكردي القبلي العشائري المفكك الأوصال مع تشتت وفرقة وتنابذ، مع عدم قيام كيان سياسي مستقل يعمل على تربية أبنائه وتنشأتهم نشأة مستقلة، تساعدهم على فهم ثوابته التاريخية والقومية والوطنية وتقضي على الجهل والفقر،وما نتج عن ذلك من فقر وجهل وأمية، بدأت تنخر في بنيان هذا المجتمع الأسير نعم الأسير إلى اليوم بكل ما للكلمة من معنى.
إن الإعتقاد بأن جبل جودي قد مال برأسه خجلاً من مكر النساء وخبثهن لهي عقوبة مريرة أبدية أنزلت ضربة قاصمة بأخلاقية المرأة وشرفها ظل يترددها الرجل جيلاً بعد جيل، حتى باتت المرأة نفسها تعتقد وتصدق مايقال عنها وأفلحت الإسطورة التي أبرزت رأي الرجل في المرأة هذا الميلان كشاهد عيان لايمحوه ذاكرة الزمن على استهتارها وعبثيتها في الحياة، فكأن الرجل الكردي يقول: حتى الجبال الشوامخ والصخور الصم لانت ومالت آسفة على فضائح المرأة وخبثها وخيانتها الآثمة حسب الإسطورة طبعاً. فهي التي تدنس مجتمعها وهي الكأس المرة التي جرعت منها الرجل المهانة ومرارة الذل حتى الأبدية. كما يظهر أن جبل جودي قد حظي بمكانة وتقديس خاصين لدى الكرد وكذلك لدى شعوب الشرق الأدنى قاطبة، حيث يقترن اسمه بسفينة نوح وبمزارات الأولياء والصالحين والشهداء فيه فهو جبل شامخ له روح وفكر ويعيش كساكنيه من البشر والشجر تماماً، وهو فوق هذا وذاك ذو خلق قويم يخجل من مكر النساء ولا أخلاقياتهن ومخالفتهن للطقوس الإسلامية وشرائعه. ولهذا فهو جبل مقدس لدى الكرد وهو متدين وقور وقار رجال الطرق الصوفية الكرد. هكذا شارك الجبل هنا بثبات في الميثولوجية الكردية بينما أضاف الكرد الروح على هذا الجبل وأنطقوه بشكل أدت فيه إلى تفاعل الظواهر الإجتماعية مع الظواهر الطبيعية في سويات الميثولوجيا الكردية، أدت إلى إعطاء صورة مبدعة حية عن آفاق التفكير الكردي والخيال الخصب الذي أظهرته الإسطورة، وقد نتج عن هذا التفاعل نتيجة ذات فائدة كبرى، حيث تناولت بشكل عفوي وغير مقصود في إعطاء صورنا درة وثمينة عن جزء من مفاهيم البنية التحتية والفوقية للمجتمع الكردي آنذاك، كالمعرفة والفن والعلم والأفكار والإيديولوجية …الخ. وكذلك أعطت الإسطورة لقطات وصور نادرة عن البيئة الطبيعية التي عاش فيها الأكراد ولازالوا يعيشون فيها حتى اليوم ألا وهي البيئة الجبلية، ونعني بالبيئة الجبلية أيضاً ما تشرف عليها تلك الجبال من سهول بينية واسعة أيضاً.
تلك السهول التي تمتاز في جزئيات منظومتها الحيوية عن حياة الجبال، إلا أن السمة الغالبة للبيئة الكردية هي البيئة الجبلية أو بالأحرى تفاعل السهل والجبل في إعطاء إقتصاد مميز للشعب الكردي ألا وهو طابع الزراعة والرعي في السهول والرعي والصيد في الجبال، وتلاقى في ذلك كرم الرعاة وشجاعتهم مع سماحة الزراع وجهدهم، وكان سكان الجبال على الدوام أكثر أمناً واستقراراً، أقصد الإستقرار من الناحية الأمنية على مر العصور والدهور، وفي وقت كان فيه الكرد ينسحبون مرات عديدة إلى الجبال أمام الغزاة فيتحصنون فيها ويمنعون الأعداء من اقتحام بلادهم. وهذه البئات الحياتية الصعبة إن لم تكن بسبب وعورة الجبال فبسبب الحروب والغزوات المستمرة البينية منها والخارجية على السواء، أدت حذر الرجل الكردي الشديد من الغرباء وإلى تشديد الخناق على المرأة الكردية، فعليها ألا تتزين أمام الأجانب من الرجال وألا تأكل أو تشرب في حضرة الرجال الأجانب، وحتى كان هناك عهد لم تكن المرأة تتناول فيه طعامها أمام أهلها وذويها من الرجال أيضاً، وعليها ألا تضحك في حضرتهم أو أن ترفع لواحظها أمامهم، وعليها أن تبقى بعيدة عن الأضواء في المسائل المصيرية الهامة للجماعة.
هذه النظرة السلبية والدونية للمرأة ساهمت إلى جانب العوامل الأخرى إلى تراجع مكانة المرأة وتخلفها والإرتداد عن حالة المرأة الزرادشتية السابقة بعد أن كانت يوماً ما إلهة تعبد! كما أدى ذلك إلى تخلف المجتمع الكردي معها وخاصة بعد مجيء الإسلام الذي تشدد الأكراد في تطبيقه بل تجاوزوه إلى حد خرق البعض من ثوابته في الجانب المتعلق بالمرأة، وأساؤوا إليها تحت ستار الإسلام والإسلام من ذلك براء. وبالمقابل لم تحترم المرأة كثيراً الأخلاق التي فرضها رجال القبائل المتسلحون بمفاهيم القبيلة التي تعود إلى ما قبل الإسلام، ولم يستطع الإسلام الذي أكرم المرأة إلى حد ما والذي حاول جاهداً رفع الحيف والغبن الذي لحق بها، فلم يستطع إزاحة المفاهيم العشائرية من أبراجها العاجية وبقي الذكر متحكماً حتى بما يخص المرأة من إرث وميراث وجوانب أخرى حاربها الإسلام لصالح المرأة.
كما بينت الإسطورة مقدار تقديس الأكراد لقبور الأولياء والصالحين ومزاراتهم، وهو جانب خالف فيه الكرد مع شعوب المنطقة طقوس الإسلام  بمنع تقديس قبور الأولياء والصالحين، لأن الأصح  إسلامياً هو ألا يحلف المسلم إلا بالله وحده، إلا أن الكرد ذهبوا بعيداً في مخالفة هذا المفهوم بسبب الطرق الصوفية المنتشرة بينهم، الأمر الذي يجعلنا نذهب بعيداً إلى القول بالتأثير الشديد للطرق الصوفية ومشايخها في الحياة اليومية للكرد والتقديس المذهل الذي يحظون به في المجتمع الكردي الأم، والتي أدت إلى جر العقل الكردي إلى متاهات التصوف وشطحات خيال الصوفية التي تدعي الكشف والكرامات وعلم الغيب، وهو أمر آخر مخالف لللآيات القرآنية وحكم الله (لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير). ثم طمس دور العقل والولوج إلى دورة الكمونية والسكون وهو في موطن الحضارات العالمية، ورغم التسابق الفكري والمعرفي والتقني الجاري الآن في العالم. وقد شطحت خيالات بعض الصوفية إلى النقيض من الآيات القرآنية التي تحض على التفكير وطلب العلم (تفكروا يا أولي الألباب) (يا أيها الذين آمنوا إذا استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لاتنفذون إلا بسلطان). إلا أنه لايمكن لأحد إلا أن يقول بأن الطرق الصوفية رغم مخالفتها لكثير من تعاليم الإسلام، إنها حافظت على الدين الإسلامي من التشتت والإندثار، وسط رياحات مفاهيم العولمة والحداثة والتيارات الفكرية العصرية الجارفة لكل شيء، كمقولات العولمة، والحداثة، ومابعد الحداثة…الخ.  

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…