تأجيل الألم… قصص قصيرة

حجي خلات المرشاوي

تأجيل الألم

عبر فتحة الباب لمَحَتْ مجموعة شبان منكسي الرؤوس و شاحبي الوجوه يقفون كأشجار يابسة. أشاروا نحو كيس من القنب يحتوي على كومة عظام محترقة و لحم متفحم.ٍ إستشفـّتْ من صمتهم المطبق ما لم يتجرؤوا على قوله. طلبتْ منهم أن يحملوا ما جاءوا به و طردتهم صارخة في وجوههم. حاولوا إقناعها دون جدوى فرحلوا تاركين ما تبقى من جسد وحيدها على العتبة. أوصدتْ الباب بأعصاب باردة و لم تسمح لمارد الألم الخرافي من الدخول إلى عالمها الشفاف. لطالما آمنتْ أن الأبناء يجب أن يأتوا إلى أمهاتهم بطريقة اقل ألماً. نشطتْ غريزة الأم فيها ففكرتْ إن منطق الحياة و عدالة السماء و رحمة الرب تحتم على وحيدها عدم الموت بهذه الصورة البشعة. استعادتْ بيقينها ذاك طاقتها الخداعة و انهمكتْ بأعداد العشاء و كأن شيئا لم يحدث.

 رتبتْ غرفة نومه. أحضرتْ (بيجامته) التي يحب أن يرتديها. وضعتْ على الطاولة الصغيرة السجائر التي يفضلها. أشعلتْ التلفزيون و اختارتْ القناة التي يتابعها. شغـّلتْ السخـّان كي ينعم بحمام هانئ. علّقتْ الفوطة و الملابس على المشجب. غالبتْ دموعها ثم جلستْ كأي أم مطمئنة و واثقة تنتظر عودة صغيرها، فبعد قليل سوف يأتي كاملاً بدون نقصان حاملاً ابتسامته و حبه و كلماته الحانية ليطبع على وجهها قبلة الابن البار.

جدال
التقى الاثنان في احد المقاهي. كان الأول مؤيداً بينما كان الثاني معارضاً. بعد جدال حامٍ أصبح الأول معارضا و انقلب الثاني إلى مؤيد. حين انصرفا، لم يعرف صاحب المقهى أيهما دفع الحساب.

وُجهة
ينتهي من استحمامه. ينشـّف جسمه. يمشط شعره. يرتدي بدلته الأنيقة. يعقد ربطة عنقه ببراعة. يضع عطراً رجالياً مميزاً. يعتمر قبعته الجميلة. يعلّق وردة حمراء في عروة سترته. يتناول عكّازه العاجي. يخرج بعد إلقاء نظرة أخيرة في المرآة. يقف في منتصف الزقاق. لقد نسي أهم شيء في الأمر. أين يتجه من لا وجهة له؟

منفضــــة
بعدما قتل أمه في نوبة من نوبات جنونه، ظل يتجول في غرف البيت وباحته يدخن ويحمل منفضة لم تفارق يديه. حين أخذوه بعيدا، بقيت المنفضة مركونة في زاوية مهملة تحكي لأعقاب سكائره تاريخاً حزيناً في لغة لم يفهمها أحد.
                                

وداع
أحسّ بالأصابع الحانية تمسح جبينه. بالكاد سمع صوتها يدعوه للاستيقاظ. لمح في زمّة شفتيها إنبثاقة أولية لبكاء مؤجل إلى ما بعد الرحيل. حين خرج، كان يدرك أنها تقف على عتبة الباب و جسمها المنحني يتكأ على عكازة هشة من الدموع. ناغى صوتها الداخلي أعمق مناطق روحه يحثه على العودة. التفتَ قلبه و التفتتْ مشاعره و أحاسيسه. التفتَ كل شيء حيّ فيه إلاّ الجسد الذي استمر يسير نحو السيارة الرابضة على حافة بكائه.

حامي العصافير
لطالما اشترى أبي العصافير من أطفال الحي و أطلق سراحها. لم يكن الرجل يفقه شيئا عن توازن البيئة لكنه كان منقاداً نحو الحرية بفعل شعور نبيل يسكنه على الدوام. كان أحيانا يخسر نصف أجره من عمله كحمّال في تلك المقايضة الباهظة. حين مات أبي، اختفت العصافير من فضاءات حيّنا و لم تعاود الظهور إلا حين كبرتُ و سلكتُ مسلكه منقادا إلى ذات الحرية.

عودة
عاد بعد سبع و عشرين سنة من منفاه وحيدا كلحظة رحيله. دخل بيته فلفحه الصمت المضغوط برطوبة الوجع بأنفاس عدائية. أدار رأسه المثخن بثقل الذنب يتلمّس عبر نظراته الكسيرة الجدران العتيقة. تأوّه تحت وطأة ذكرياته المؤلمة و احتبست الدمعة في ضباب تفكيره. تذكّر زوجة جميلة و خمسة أطفال فقدهم جميعا في لحظة تبرأ منها الزمن. هنا كان يغازل زوجته. هنا كان يفطر معهم. هناك كان يجلس بينهم يعلّمهم الاشتراكية و الحب. على هذا الجدار بالضبط رسم (مناضل) أمنية لم تتحقق و في ذلك الركن أطلقت (لينا) حسرة على دمية لن تمتلكها أبدا، و في تلك الزاوية ضحك (بسيم) ضحكة رقراقة لن تتكرر ثانية. التفت نحو الشباك يجالد دمعة حارة كجمره تبحث عن سبيل للخروج. رأى عبر الزجاج المتصدع صبية يلعبون بمرح و كانت عصافير ملوّنة تحلق فوق رؤوسهم.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…