مسرح كردي بلا مسرح

  أحمد اسماعيل اسماعيل

فرق وعروض :

في نهاية العقد السابع من القرن الفائت،وفي فورة فنية غير مسبوقة،ظهرت وبشكل متزامن مجموعة من الفرق الفلكلورية الكردية السورية،لتقدم رقصاتها وأغانيها الشعبية ولوحات شعبية ممسرحة مستوحاة من التراث الكردي. وعلة ذلك قد تعود إلى حاجة الكردي للتعبير عن ذاته وعن هويته الثقافية المغيبة والمهمشة،إضافة إلى هدف آخر يتمثل في حاجة الأحزاب الكردية المحلية لدعم نشاطاتها السياسية –الحزبية،التي ساهمت في تأسيس ورعاية هذه الفرق؛رعاية سياسية وطنية سرعان ما تحولت إلى وصاية حزبية ضيقة.
    ففي بداية العقد الثامن من القرن ذاته،بدأ النشاط المسرحي لبعض الفرق الفلكلورية المجتهدة،التي راحت تقدم نمر ومشاهد وعروض مسرحية متفاوتة المستوى،شكلاً ومحتوى.

مسرح بلا مسرح :
 حين يتم تشريد الأمكنة،يصبح اللامكان:البراري.الساحات المنفية،باحات البيوت في الأحياء الشعبية المقذوفة عن مراكز المدن،حاضنة لنشاطات الإنسان الروحية،في حال كهذه ليس  لمن في مهب الريح،بشراً كان أم طين أو حجر،من خيار سوى قبول ممارسة هذه المغامرة،كما هو الحال بالنسبة للمعني بالفن الكردي المحروم من تقديم عروضه في الأماكن الرسمية،أسوة بالفرق العربية الرسمية ،أو حتى بالفرق  السريانية أو الأرمنية (غير الرسمية)وإن كانت الفرق الكردية الفلكلورية قد استطاعت أن تروي بعضاً من ظمأ  المتلقي الكردي لفن يعنيه هو؛ويتعامل معه كشريك يحترمه، فيتكلم بلغته ويعالج قضاياه وهمومه وطموحاته.فأن هذا الجهد الكبير الذي بذلته الفرق على مدى ربع قرن من الزمن،متجاوزة،وربما متحدية،كل المعوقات والمحبطات والمصاعب من: معيشية،وأمنية،وحزبية ضيقة،يكاد أن يكون أثراً منسياً،وما تم غرسه في مجال الإبداع،أُستثمر،على الرغم من عدم نضوجه،في مجال حزبي ضيق،وفردي أكثر ضيقاً،وإذا كانت الأسباب غير الذاتية لعقم التجربة الفنية،بادية للعيان،ولا تحتاج لطول بحث وتفصيل ،فمن المفيد التركيز على العوامل الذاتية،وابراز تمظهر هذا العقم في تجربة العروض المسرحية الكردية. 

 نص العرض المسرحي :
 لا شك أن للعرض المسرحي أسبقيته في الوجود على النص، فهو الذي يمنح العمل صفته المسرحية،غير أن حضور الكلمة في العمل المسرحي ضمانة لعدم جنوح العمل نحو تهويمات وشكليات تضحي بالبعد الفكري وربما الدرامي للعمل المسرحي،إضافة إلى أن خوض تجارب من هذا القبيل،تحتاج دائماً إلى خبرة وتراكم في التجربة المسرحية،ليس لدى صناع العرض المسرحي فحسب،بل ولدى المتلقي،أو الجمهور المسرحي عامة،الأمر الذي تفتقده الساحة الثقافية والاجتماعية الكردية،لذلك كان تهميش الكلمة المسرحية في لوحة الثقافة الكردية،سبباً لما يتعرض له الفعل المسرحي،العصي على النضوج والاستواء،من تهشيم متكرر منذ انطلاقته الأولى،فغياب صناع الكلمة المسرحية من مؤلف،ومنظر،وناقد،وباحث،دفع المشتغلين بالشأن المسرحي في الفرق الفلكلورية الكردية إلى استسهال صناعة العرض المسرحي وتقديمه للجمهور،دون التأكد من سويته،ولأن النص المسرحي مادة العرض الخام ونسيجه،فقد كان البدء به أمراً لازماً. ومن المثير للانتباه أن تكون حكاية كاوا الحداد المادة النصية الأولى لأغلب عروض الفرق الفلكلورية الكردية،ولعل ذلك يعود بالدرجة الأساس لسهولة تناول ومعالجة هذه الحكاية درامياً،لحضورها الدائم في وجدان المتلقي الكردي بكل ما تحمله من دلالات،وعدم توفر المادة المسرحية المناسبة لعرضها في نوروز،اليوم الذي يعتبر ميلاد التجربة المسرحية لمعظم الفرق الفلكلورية،والذي سيصبح اليوم الموعود الذي سينتظره  الكردي ليتطهر من انفعالاته المتراكمة على مدى سنة،ويفرغ فيه ما اختزنته روحه من توق وقهر ومعاناة،ستلعب هذه الفرق دورها في هذه العملية من خلال ما تقدمه من عروض لنصوص مباشرة منسوجة بخيوط الانفعال،وبقلم كاتب يجهل المبادئ الأساسية لبناء النص المسرحي،وتكون أقرب إلى قص ولصق حكايات وطرائف ومواقف حياتية أو فلكلورية،أو إعداد نص مسرحي أجنبي بطريقة بروكرستية،مبررة ذلك بتكريد الحوار وأسماء شخصيات العرض ،وحشو ما يمكن حشوه من هموم كردية في تضاعيف النص،وإذا تجاوزنا هذه القاعدة في عمل (الدراماتورج)الكردي،إلى بعض الإستئناءات التي عرفها المشهد المسرحي الكردي على صعيد النص،وخاصة في تجربة سابقة لفرق فلكلورية مثل فرقة خلات،ميديا،حلبجة..وفرق أخرى متفرقة،التي قدمت،في بداياتها خاصة،بعض العروض المسرحية المبشرة،نصاً وعرضاً،غير أن نصوص هذه العروض أيضاً،على الرغم من تميزها كردياً،كان تقديمها للحياة الكردية سكونياً، ظاهرياً،دون عمق يتناولها في صيرورتها،ويحللها إلى عواملها الجوهرية المحركة،والفاعلة،لاعتمادها على مواهب فردية طموحة تنقصها الثقافة المسرحية الحقيقية،والوعي بطبيعة ودور هذا الفن.

العرض المسرحي :

 من غير العبث اعتبار الاختيار الموفق للنص المراد تقديمه،ومن ثم حسن إعداده،أولى علامات إبداع المخرج،ونجاح العرض،لأن النص الجيد ينتج،بالضرورة،لدى مخرج متمكن من أدواته،عرضاً موفقاً ومتألقاً،فالعرض محكوم بتبعيته للنص،تبعية تستوجب قراءة المخرج الفعالة لنص المؤلف،بلا استظهار أو تجسيد حركي،هذه المهمة صنعة تتطلب ممن يمارسها مهارة وإتقان،أو موهبة متفتحة مشفوعة بتثقيف ذاتي دائم.ليمارس دوره المفسر والمنظم والقائد،الأمر الذي يفتقر إليه كل من يتنطع لها في الفرق الفلكلورية الكردية،لينحصر دوره في اختيار النص،وتوزيع الأدوار على الممثلين،ومتابعة عملية الحفظ،ومن ثم تجسيده حركياً،دون قراءة إبداعية للنص،أو تحليل فعال لعناصره،ناهيك عن افتقاده لخطة ورؤية إخراجية واضحة،أو غير واضحة.
إذا كان هذا هو حال قائد العرض المسرحي،فكيف يمكن أن تكون حال مرؤوسه الممثل،رسول العرض إلى
شريكه المتلقي،القطب الثاني ،بل والأساسي في الظاهرة المسرحية،لاشك في قلة حيلة هذا الرسول ،ونقص زاده الإبداعي،المقتصر على موهبة غير مكتملة،ورغبة زائدة،وتحد سياسي أكثر منه إبداعي،يتجلى كل ذلك من خلال جهل بأساسيات علم المسرح،وتجاهل لأدواته الإبداعية الشخصية من: جسد وخيال ولسان،التي عجز الفنان الكردي عن شحنها في،وللمسرح،بالمرونة والخصوبة والطلاقة اللازمة،بعد أن أصابها واقع الفنان البائس بالضمور،فاستعاض عنها على خشبة المسرح،وربما الحياة،بالصياح،والمباشرة،والحركات العشوائية التي يزرع بها هذه الخشبة غير الثابتة.  
ويمكن القول نفسه عن باقي صناع العرض المسرحي من فنيين مساهمين في صناعة العرض،و(هندسة )فضاء عالم الخشبة المتخيل.وذلك على الرغم من قلة عدد المساهمين في هذا المجال،ليس لعدم توفر الإمكانيات اللازمة لذلك،أو عدم وجودهم وسط هذه الفرق فحسب،بل لأن (السينوغراف) من صميم عمل مخرج هذه الفرق،ولأسباب ليست فردية صرف.
في ظل هذه اللوحة المسرحية المهشمة،لم تخل الساحة الإبداعية من ظهور مواهب حقيقية في مجالي الإخراج والتمثيل ،في هذه المدينة أو تلك،ساهمت في صناعة عروض مسرحية ناجحة،ما تزال حية في ذاكرة من حظي بمشاهدتها،مثل (الخبز المسموم )و(موت الحجل)العرضان اللذان قدمتهما فرقة خلات.و( جمهورية الظلام)و( هيكابي)العرضان اللذان قدمتهما فرقة ميديا..وعروض أخرى متفرقة قدمتها بعض الفرق في مناطق الجزيرة وحلب وعفرين.لم تستطع هذه المواهب الفردية البقاء طويلاً في أنفاق بلا نهايات،فهجرت هذه الساحة خشية على مصائرها الشخصية..والعائلية الممهورة بأختام واقع بائس يزداد حلكة. دون أن يعني ذلك امتلاكها لمشروع فني-ثقافي،ساهم في ذلك افتقاد الفرق الفلكلورية برنامج عمل فني-إداري خبير يضمن لها الاستمرارية والتطور.
 ولعل من أهم تجليات هذه الحالة السلبية المستفحلة في مسيرة الحركة الفنية والمسرحية الكردية،ترسيخها للعامل التحزبي،وحالة العزلة السياسية،والتجهيل والتهييج القومي والسياسي،وفن رد الفعل لا الفعل،بما تقدمه من عروض مباشرة ومبسطة لجمهور يشكل في غالبيته جمهور الحزب الراعي لهذه الفرقة،وارتباط هذه العروض بالمناسبات الوطنية المسيسة على حساب المشاريع الثقافية الإبداعية الوطنية،وخاصة في مناسبة يوم نوروز،الأمر الذي أساء إلى الجمهور والفنان معاً،في علاقتهما مع بعضهما البعض،وعلاقة كل واحد منهما بهذا الفن. 
 لاشك أن الحديث في هذا المجال،مثل المجالات الكردية الأخرى-هنا والآن- حديث ذو شجون،ولكن لابد من الإشارة إلى أسبابه أكثر من الخوض في تفاصيله ،وسنحاول في هذه العجالة تلمس بعض هذه الأسباب:

أسباب ومحبطات:
–  استمرار سياسة السلطات القاهرة للفن والأدب الكرديين،بأساليب تتجاوز مجرد التعتيم والمنع.الأمر الذي يثير قلق الفنان والجمهور،فيحبط عملية التواصل والإبداع بين ركني الظاهرة المسرحية،الفنان المرسل والمتلقي.
–  هيمنة الحزبي على الفني،وممارسته دور الوصي،لا الراعي ،على نشاط الفرق الفلكلورية المرتبطة بها.
–  الوضع المعيشي الكارثي لأغلب الممارسين لهذه الهواية.
–  جهل الفنان بكل ما يخص مجال المسرح من ثقافة،أو آليات،أو أدوات مجاله الإبداعي في المسرح.
–  جهل المعني بالشأن الثقافي الكردي لفن المسرح،وتجاهل العاملين فيه،أفراداً ومجموعات.
–   غياب التنوع الإبداعي في لوحة الثقافة الكردية النامية،وطغيان فنون على حساب فنون أخرى مثل طغيان فن الشعر والغناء والرقص على فنون مدنية هامة وفاعلة مثل فن الرواية والمسرح.
–  عدم متابعة الصحافة والإعلام الكردي للعروض المسرحية،وتناولها بالنقد والتعليق والإعلان.
وأسباب أخرى كثيرة يمكن للمتتبع الجاد ملاحظتها.

مقترحات للخروج من عق الزجاجة:
– رعاية الأحزاب لنشاط فرقها دون وصاية حزبية يقيد إبداعها.وتشمل هذه الرعاية الدعم المادي وغير المادي على حد سواء.
– إعادة النظر في هيكلية الفرق الفلكلورية ،وإعطاء الجانب المسرحي ،بعد مسرحته،الاستقلالية الكافية.
–  تزويد الفنان بالثقافة المسرحية،وتطوير أدواته الإبداعية: دراماتورج كان،أم مخرجاً،أم ممثلاً،أم فنياً،من خلال دورات سنوية ،وحاضرات دورية.
–  تأمين أماكن مناسبة وآمنة لتدريب الفرق المسرحية.
–  الدعوة إلى الكتابة المسرحية من خلال التشجيع والدعم المادي،وإقامة المسابقات السنوية للأقلام الشابة والموهوبة.
–  تسليط أضواء الإعلام على النشاطات المسرحية الجادة والطموحة.
–   الانفتاح على الآخر،المسرحي خاصة،كردياً كان أم غير كردي.

 ومحاولات أخرى جادة ومخلصة،ستحقق نهوضاً أولياً صحيحاً لهذا الفن الذي يمكن أن يضيف إلى لوحة الثقافة الكردية لوناً أصيلاً،ويساهم في نزع القبح والوحشة والتخلف الذي التصق بحياة الكرد الاجتماعية..وغير الاجتماعية،وذلك على الرغم من كل ما يقال عن موت المسرح.الذي هو أمنية لدى البعض،وخلق جديد لدى البعض الآخر.فالمسرح فن الإنسان بامتياز،سيبقى ما بقي الإنسان على هذه البسيطة. 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…