ميرنامه و رسالة الإبداع

  أحمد حسيني

الروائيون, أو الروايات التي تستطيع أن تأخذ بلب قرائها منذ الصفحات الأولى و تسلم مشاعرهم إلى عوالم الدهشة, قليلة جداَ و تعد على أصابع اليد الواحدة في الكرمانجية المعاصرة.

و جان دوست في روايته (ميرنامه) , و بعيداَ عن الحبر الذي يقتل صاحبه بهدوء و روية,  بعيداَ عن الرسائل المؤجلة للكلمة الذبيحة و تصوير مجتمع غارق في اللامعرفة, و بعيداَ أيضاَ عن انسياب التاريخ المزيف المكتوب بأقلام الآخرين, بعيداَ عن الصراعات التوأم و مستويات الوعي التي تنخرط في ولادة لحظات القتل الذاتي للكرد, بعيداَ عن الصور القاسية و ناحرة الأحلام للكرد الحائرين منذ مأساة قلعة دمدم, و بعيداَ عن قدسية أنهار الدم التي تسيل لأجل الناس, و بعيداَ عن بوصلات الحب المنهار سواء حب الجسد أو الروح, بعيدا عن المفهوم و الموقف و التأمل و آفاق الإبداع الفني المشرقة و الشفافة و الآخذة بالألباب, بعيداَ عن كل المآسي و التراجيديات الصغيرة و الكبيرة لتلك المكونات و العوالم التابعة للأوقيانوس العاشق للألم
 بعيداَ عن كل ما مضى فإن رسالة جان دوست الأكثر أساسية هي الأسلوب و اللغة و قوة التعامل مع الخيال و سيطرة ذهن و وعي خلاق و الإمساك بخيوط أدوات تعبير صادق بحيث يبقى في النهاية نتاج أدبي فني.

ليس فقط بدءاَ من الصفحات الأولى, بل من الجمل الأولى في هذه الرواية حيث تقول الرواية: (هذا شيخ نوراني و لذلك فجثته خفيفة. إن ثقل الجثامين يتبع قذارة روح المرء, هذا الشيخ ذات طاهرة و روحه نقية  لذلك سيكون خفيفاَ يا سيدا. إنه نور نور).
و حتى الجملة الأخيرة من متاهة رسالة أحمد خاني لا يفسح جان دوست المجال لقارئه, مثل صياد سمك  محترف, بأن يفلت من شبكته. و لا بد للقارئ أن يتهيأ لرواية غير عادية, و على غير منوال الروايات الكرمانجية لأن قارئ ميرنامه لا يواجه رواية سهلة خفيفة مكتوبة على عجل و مرتجلة  و بعيدة عن كل مقاييس كتابة الرواية. على العكس من ذلك ينقب جان دوست في كنوز اللغة حتى أعماقها, يقارب بين التعبير و خيال اللغة و يوصل الخيال إلى آفاق اللغة التي يصعب التعبير عنها.
إن جان دوست يسرد الوعي و الذاكرة و النفس في آفاق اللغة التي لم تكن قابلة للسرد و ينفض عن لغته غبار الصهر اللغوي القادم من أعماق القرون السالفة لكي يقدم في النهاية روايته, رواية نقية صافية تنهل من  ينابيع كرمانجية ما قبل الخراب و تنساب منها و لا تتوقف عند الآثار المضيئة لحبر خاني و الجزري.
باختصار, عندما يصادف القارئ هذه الجملة من الرواية: إن ثقل الجثامين يتبع قذارة روح المرء, يدرك على الفور و يشعر بدون تردد أنه أمام رجل مثقف و أمام كاتب روائي حقيقي.
الأماكن المنسربة من الظلام, آثار الوعي و اللاوعي, سلاسل الجبال عدوة الحنين, المدن الغارقة في الموت الأسود, سهوب الانتظار, الناس الطيبون و الأشرار, الأحياء و الموتى, مخلوقات تلك الأرض المعلقة بصنارة القدر, ظلال أهل بايزيد الحجرية, الأمطار الحجرية في عيون سرحدان, و تحسر أحمد خاني, محاولات جان دوست للقبض على لحظات ضائعة هاربة منكسرة و مذنبة تلك اللحظات التابعة لتلك الجغرافيا المرسومة من أطلال قتل الآباء و الأبناء, تصوير و بعثرة آفاق مليئة بالأحداث, بالحركة, بالتفاصيل و كذلك أسلوب كتابة تاريخ الشخصيات و التاريخ العام, هذه المحاولات كلها تأتي بمساعدة الخيال السردي و الحكائي البليغ.
و في قلب هذه الإمكانية, تلعب المعايير الحقيقية لهوية الكتابة و الكاتب صاحب الذهن الحاد و المقتدر ذو الثراء الأدبي و كذلك الخلق و الإبداع, الدور الوحيد.
في ميرنامه, و مع أن جان دوست يشتغل على نصه كمهندس, و مع أنه درس خططه بعمق, لا يستطيع القارئ أن يقول عن فكرة ما إنها مسبقة الصنع أو تم التخطيط لها. كل حدث يستطيع أن يغيب فجأة ليفسح المجال لحدث آخر يأتي من بعده.
في رواية ميرنامه, ليس أحمد خاني مع أنه مركز الحركة الروائية, البطل الوحيد الذي تروى قصته, بل هناك العشرات من الأحداث التي تحصل في محيط خاني و تضيع القارئ في متاهاتها و هي أحداث تلفت انتباه القراء. و يعود هذا الأمر إلى مهارة الكاتب الذي يحترم قارئه و يريد تركه يقظاَ دون أن يمل من لغته السردية.
إن لغة جان دوست السلسة الانسيابية و الشاعرية, لهي لغة عهود ما قبل الجفاف و النهب و الخراب, و صاحبة مخيلة اللغة الكرمانجية التي تعود إلى ما قبل عصر غسيل الدماغ و المشاعر. و رسالة ميرنامه الأساسية هي أنه في الإمكان كتابة الروايات ذات المستوى الرفيع باللغة الكردية , و إذا لم تكتب هذه الروايات بتلك اللغة فإن العلة ليست في اللغة بل في ضعف كتاب الكرمانجية أنفسهم.
النص مترجم من اللغة الكردية

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…