جميلٌٌ أن يرى المرء نفسه أجمل إنسان خلقه الله , وأهلَه خير الأهلين , وقبيلتَه هي الأحسن , وأمتَه أفضل أمم الأرض ولسانَه أعذب الألسنة , على أن يدرك أن هذا الإحساس كامن لدى كل إنسان بالغ وذي عقل على سطح المعمورة أيما كان دينه أو عرقه أو لونه أو لسانه , وبدون هذا الإدراك وقع الإنسان في مستنقع العنصرية الآسن وجحيم الكراهية وجنون عظمة جوفاء وكبرياء بغيض لا معنى له.
كنت أقلُّ رجلا سوريا آخراً منذ أكثر من سنة , حادثته فوجدت لهجته مختلفة عن تلك التي لأهل الخليج فسألته عما إذا كان كرديا فأنا أعرف أن الأكراد هم العرق الثاني بعد العرب في سورية , ولكنه استشاط غيظاً وقال بصورة عدائية : كردي !!!!!!! …. أعوذ بالله …… أعوذ بالله …. أستغفر الله العظيم ….. ولا حول ولا قوة إلا بالله , ثم سكت برهة شعرت خلالها بخجل وارتباك ولم أعرف كيف أرد عليه لأن كلماتي العربية المحدودة لم تسعفي , ثم تابع يقول : الحمد لله أنا عربي أصيل أباً عن جدٍ , أما هؤلاء الذين تتحدث عنهم فلا يمتون إلينا بصلة ولا نتشرف بوجودهم معنا في البلد.
بعد أن أنهى الرجل قصته سألني عن السبب الذي يدفع مثل ذلك الرجل إلى هذا السلوك , بحثت في ذهني عن جواب مقنع فلم أجد فقلت له : إنها العنصرية العمياء وهي لا تحتاج إلى سبب أيها العم , فكونك عنصري عرقي ستكره كل أمم الأرض , لا محالة , إلا الأمة التي تنتمي إليها دون مبرر سواء كانت هذه الأمم على اختلاف أو صداقة مع أمتك .
عم الصمت بيننا قليلا بينما ال (أعوذ بالله ….. أعوذ بالله) قادت ذهني إلى استحضار موقف عنصري أخر حدثني عنه مهندس مسيحي تجاوز السبعين من العمر اجتمعت به صدفة في غرفة واحدة في فندق متواضع في مدينة دمشق منذ أكثر من عقد من الزمن , وكنت وقتذاك طالبا في كلية الطب. بعد تعرف كل منا على الآخر وتبادل التحايا استلقينا لأخذ قسط من الراحة بعد عناء السفر ولكن بعوضة صغيرة صارت تطن حول رأسي دون أن أتمكن من طردها بالجريدة التي كنت أتصفحها وعلى غير وعي خرجت من فمي عبارة ” أعوذ بالله ” تعبيرا عن غضبي , فأطلق المهندس العجوز قهقهة طويلة , ظننته في البداية يسخر مني إلا أنه جلس من وضعية الاضطجاع وأخذ يسرد لي هو الآخر قصة عن ال (أعوذ بالله) حيث قال :
كنت طالبا جامعيا في أواسط الستينات في جامعة دمشق وأسكن ديرا يديره قس شاب دمث. مرةً , في طريق عودتي من كلية الهندسة إلى البيت , رأيت كوة بيع الخبز مفتوحة في فرن قريب من الدير دون طابور مزدحم من المشترين فمررت لأشتري خبزاً , كانت ملامح بائع الخبز توحي أنه أرمني فسألته ما إذا كان بالفعل أرمنيا , لكنه لم يجبني وإنما اكفهر وجهه وبان عليه التقطيب وقال وهو يهز رأسه : أعوذ بالله …… أعوذ بالله ….. واستغفر الله , وبدت علائم الغضب على محياه وهو يعيد إلي بقية العشر ليرات في عصبية جعلته يخلط بين الورقة من فئة العشرة وتلك التي من فئة الخمسين إذ كانتا متشابهتين في ذاك الحين وأعاد لي بقية الخمسين بدل العشرة , سكتت عن خطئه عن عمد ودسست التسعة والأربعين والثمانين قرشاً في جيبي وغادرت مثل سارق محترف , وكانت الخمسين في ذاك الحين تعادل ثلاث غرامات من الذهب , بعد ساعات اعتراني شيء من الندم وتأنيب الضمير فقررت إعادة المال للرجل , فالعنصرية شأنه وأنا كمسيحي ملتزم لم أنس أن اليسوع دعاني إلى معاملة من أساء إلي بالحسنى , لجأت إلى القس أستشيره , بعد أن شرحت له الموقف بالتفصيل وعن ال (أعوذ بالله واستغفر الله) التي نطق بها بائع الخبز أكثر من مرة وهو يحتج على سؤالي له عما إذا كان أرمنيا , وسألته : هل أعيد إليه المال يا أبانا ؟ فهز هو الآخر رأسه وهو يكركر قائلاً : تعيد المال !!!! تعيد المال أيها الأحمق !!! أعوذ بالله …… أعوذ بالله …… واستغفر الله. على أنه طلب مني إعادة المال بعد ذلك.
وللإنصاف لسنا , كأكراد , بمنأى عن هذا الداء الوبيل , بيد أن البعض يقول أن عنصرية الكردي هي ردة فعل تجاه الإجراءات العنصرية التي مارستها وتمارسها ضده الشعوب والحكومات المجاورة وتحرمه حتى من التحدث بلغته لذا فالعنصرية الكردية لها ما يبررها . لم يشهد لنا التاريخ الحديث قيام دولة لنعرف ما إذا كنا نجيد كغيرنا ممارسة العنصرية والاضطهاد تجاه الأقليات المتعايشة معنا أم لا , على أن الظاهرة موجودة على الصعيد الشخصي عند البعض منا. ولا زلت أتذكر حالة نموذجية في هذا الإطار أيام كنت طالبا جامعيا حيث تبادلت إحدى الزميلات الكرديات الحب مع زميل ليس كرديا , وساعة طلب يدها وقف اختلاف العرق عائقا في سبيلهما وحين لجأ الشاب إلى الوجهاء في المجتمع للحديث إلى والد الفتاة كانت الكلمة الأخيرة للوالد أنه يفضل قتل ابنته على تزويجها من ذلك الشخص .
يفتخر الهندي حين يقول : في بلدنا مئات اللغات والأعراق .
وينتشي الأمريكي عندما يذكر أن الولايات المتحدة موطن للعشرات من الأمم مختلفة الألوان والألسن هاجرت من شتى بقاع العالم لتشارك في بناء حضارة هي الآن الأولى في العالم .
وتعتز بعض الدول أن فيها أكثر من لغة رسمية .
أما في شرقنا هذا فإن الوضع مختلف تماماً , فما زالت هناك أمم تتباهى بأنها سليلة أب واحد وتعتز بالصافي من الدم الذي يجري في عروقها وبالفصيح من اللسان الذي تلوك به , وكأنها من تبر وما سواها من تراب. ويتعدى اعتزازها بالعرق إلى المعتقد والدين فهي تعتبر أن ما تعتقد به من دين أو مذهب هو المعتمد عند العرش الأعظم بينما الآخرون يتخبطون في الكفر والضلالة وينتظرون الشؤم من المصير. لذا كانت منطقتنا هذه لها النصيب الأكبر , منذ حين , في الصراع العرقي والديني والطائفي وشهدت حوادث قتل مرعبة وجرائم بشعة. وإذا كان الغرب طور قيم التسامح والديمقراطية في أعقاب كارثة الحرب العالمية الثانية فإننا في الشرق لا زلنا نبرع في تطوير أدواتنا العنصرية يوما بعد يوم وصلت إلى حد استخدام أسلحة محرمة دوليا ضد بعضنا البعض .
التعددية العرقية أو الدينية, إذا أحسن استخدامها , هي نعمة من الله وليست نقمة كونها ثروة ثقافية هائلة تساعد على إغناء البلد حضاريا وهي سر تطور المجتمعات فالمناطق ذات الفسيفساء السكاني هي دائما أكثر تقدما من المجتمعات المتجانسة التي تميل إلى التقوقع على نفسها والحفاظ على الموروث القديم قدر الإمكان حتى إن كان بالياً , وهذه القاعدة صحيحة حتى على مستوى الأحياء والحارات الشعبية.
وما دام ثمة من الأشرار من يستغل اختلاف الناس في العرق أو اللغة أو الدين أو المذهب لبث التمييز العنصري والكراهية لغاية في نفسه فإن العنصرية وجدت في كل مراحل التاريخ . ويبدو أن على أبواب يوم القيامة سيكون هناك من ينشد قائلا :
وما أنا إلا من غزية إن غوتْ …………….. غويتُ وإن ترشدْ غزيةُ أرشدِ
حتى إذا كانت غزية تمارس العهر في وضح النهار .
وسيكون هناك من يكتب على بوابات مدنه : يا للسعادة لأننا كذا وكذا .
وفي الختام :