باقة من الذكريات -1-

د. آلان كيكاني

الممنوع

كان الشتاء , وخلافا للمناخ الاستوائي الدافئ المعتاد في  مدينة الرياض المحاطة من جميع جهاتها بصحاري تمتد مئات الأميال , كانت نسمات جافة من الزمهرير في ذاك الصباح تهب من ناحية الشمال تحمل معها نثارات من الرمل الناعم , نزلت من السيارة أمام البوابة الرئيسية للمستشفى الذي أعمل فيه وصعدت مسرعا عدة أدراج تؤدي إلى الدور الأول حيث العيادات الخارجية التي يرتادها المرضى صباحا طلبا للاستشفاء ثم دلفت باب العيادة الجراحية لأجد سيني , الممرضة الهندية , وحيدة , ألقيت التحية عليها فردت بابتسامة عريضة عرفت من خلالها أن لا مرضى اليوم بسبب البرد القارس . ما إن أخذت مكاني خلف الطاولة مواجها سيني حتى أحسست بلفحة برد دخلت ورائي من الباب وتغلغلت في صميمي , فطلبت من سيني أن تغلق الباب , لكنها ردت بلهجة فيها الكثير من الاحتجاج وقالت بعربيتها الركيكة :  
–  أنت ما في معلوم دكتور ؟ هالهين أنا يسكر باب كلو ناس كلام دكتور و سستر يبغى ينام سوى سوى .
أي : ألا تعرف يا دكتور أنني لو أغلقت الباب فإن الناس سيقولون أن الدكتور والممرضة يريدان أن يناما مع بعضهما .
ابتسمت لحديثها الذي شرَّد فكري إلى زمن مضى عليه سنين عديدة ومكان يبعد ألاف الأميال عن تلك العيادة فقد ذكرتني سيني  بموقف تعرضت له قبل ذاك الحين  بأربع سنوات في مدينة إيستبورن الإنكليزية الواقعة على شاطئ قناة الإنكليز , وقتها كان الصيف حيث استفقت في الصباح الباكر في فندقي الذي أقيم فيه والواقع على الشاطئ  وهرعت إلى الشرفة المطلة على البحر لأستكشف الطقس وأقرر أي نوع من الملابس أرتدي , تنفست الصعداء حين قبَّلت شمسان وجنتي بنورهما الصباحي الخافت , شمس فوق الأفق بذراعين وأخرى تحته بذراعين أيضا تعكسها عن الأولى مياه المحيط  الهادئة بفعل سكون الهواء , وهو أمر نادر الحدوث في بلاد يغطيها السديم  والضباب  في الفصول الأربع مما يجعل من صفاء الجو في فترة الصباح أمرا نادرا , هبطت سلالم الفندق مسرعا كيلا يفوتني الالتحاق بالباص وإلا كنت سأضطر إلى أن أستقل سيارة تاكسي وأحمّل جيبي عبئا لا لزوم له , وقفت في الطابور الذي ينتظر مجيء الباص فتملكني وسن شديد جعل رأسي يتمايل مرة إلى اليمين ومرة إلى اليسار , صعدت إلى الباص وجلست على كرسي مفرد , وهو آخر ما أتذكره في تلك الرحلة لأنني رحت في نوم عميق , وحين استيقظت وجدت نفسي وحيدا مع السائق إذ كان الركاب جميعا قد نزلوا في أماكن عملهم , فسألته  عن موقف المستشفى فقال أنه قد عبره منذ نصف ساعة وهو الآن في طريقه إلى بلدة آكفيلد حيث الموقف الأخير للباص  ويفصله عنها عشر دقائق واقترح علي أن أنزل في أول موقف على الطريق وأقف في الجانب الآخر منه وأنتظر الرحلة القادمة من آكفيلد والغادية إلى إيستبورن فوافقت على اقتراحه , حين انحدرت من الباص كانت الشمس لا تزال تسطع ولكن كثافة الأشجار وعلوها في جانبي الطريق حجبا نورها عني , كنت في قميص وربطة عنق ولم أرتد  فوقهما شيئا ولم أحمل في يدي  مظلة أو جاكيتا على نحو ما يفعله الإنكليز عند خروجهم من بيوتهم مهما كان الطقس دافئا ومشمسا تحسبا لأي تغيير مفاجئ في الطقس, فقد كنت حديث العهد هناك , ولعلي نسيت قول أحد حكماء الإنكليز الذي نصح بعدم الثقة بثلاث :الطقس الإنكليزي والمرأة الإنكليزية والعملة الإنكليزية . إذ ما إن وصلت الطرف الآخر من الطريق حتى انهالت من السماء أمطار غزيرة لم يسبق لي أن رأيت مثل شدتها من قبل , ولا أدري كيف ومن أين جاءت إذ كانت السماء زرقاء صافية , وكأن زرقة الفضاء كلها تحولت إلى مياه ونزلت إلى الأرض من خلال ثقوب في السماء فوق رأسي , كان جانبا الطريق مسيجين بإحكام رأفة بالحيوانات الشاردة ولم يكن ثمة ما يدل على أن هناك موقفا لباصٍ سوى لوحة معدنية صغيرة معلقة بعمود للإنارة مكتوب عليها : موقف لَوَرْديكَر , عرفت فيما بعد أنها قرية صغيرة قريبة من ذلك الموقف , جلت بعيني أبحث عما يمكن أن يحجب عني وابل المطر فلم تقع إلا على أشجار باسقة خلف السياج الذي لا يمكن اجتيازه لعلوه ومتانته . سلّمت أمري لله وعلّقت عيني على الطريق لترقب قدوم الباص , ولكن هل يسير باص في مثل هذه الأجواء ؟ ومن أين له بركاب يخرجون من بيوتهم في هذا الطقس ؟ نصف ساعة مرت على هذه الحالة دون أن يكف المطر عن الهطول أو حتى أن يهدأ وابله , اخترق الماء قميصي وألبستي الداخلية وبنطالي التي صارت تشكل عبأً عليّ لثقلها نتيجة تشربها بالماء , ولو كان بمقدور الماء الغزير أن ينفذ من خلال الجلد لامتلأت أحشائي ماءً , توقف السير تماما فلم يكن هناك من سيارة قادمة أو رائحة على طرفي الطريق . لم يبق لدي من أمل سوى أن اتصل بالرقم الوحيد المخزون في جهازي الخليوي , رقم الدكتور سام دوغلاس الاستشاري الجراحي المشرف عليّ في المستشفى الذي كان لحظتئذٍ بدوره متوجها بسيارته إلى المستشفى فغيّر الرجل طريقه باتجاه لورديكر حيث أنا والمطر . كان الدكتور سام من رقة القلب ما جعل عيناه تدمعان حين وقعتا عليّ وأنا مبلل من رأسي حتى قدميّ ولكنه استبشر خيرا حين ضحكت وأنا أصعد سيارته وكأن شيئا لم يكن  فضحك هو الآخر وهو يناولني معطفه الشتوي الذي يحمله معه على مدار السنة في حجرة الأمتعة في مؤخرة السيارة .
عندما عدنا إلى إيستبورن كانت يابسة ولم يأتها قطرة مطر واحدة فقال الدكتور سام مازحا وهو يصفُّ سيارته أمام الباب الخلفي الفرعي للمستشفى :
–   يبدو أن  المطر لم يهطل إلا في المنطقة التي كنت تقف فيها . قل لي  , أي ذنب ارتكبت ليعاقبك الله عليه اليوم ؟
فقلت له :
–   ذنبي هو أنني لم أخذ بنصيحة الحكيم الإنكليزي فثقتُ بالطقس ولكنه خانني .
فرد سام ضاحكا :
– إذاً الدور الآن للمرأة الإنكليزية كي تخونك فخذ حذرك . 
أودعني الدكتور سام عند موظفة الغسيل والكوي , ماركريت , موكلاً إليها مهمة كوي ملابسي  وتنشيف جسمي بعد أن روى لها قصتي مع المطر فقطبت ملامح وجه ماركريت وكادت هي الأخرى ان تبكي أسفا , ولما رأيت من علائم الحزن على محياها بسببي قلت لها مقللا من حجم المصاب :
– أعتقد أنك لو رأيتيني مرة , يا ماركريت , في طفولتي  كيف ألعب بالمياه والأوحال حافيا تحت المطر في أرض جرداء غير معبدة بين بيوتات القرية ,وكيف تغوص قدماي حتى الركاب في الأطيان لاتصلت بالإسعاف الجوي ليأتي بطائرة هيلكوبتر لإنقاذي .
فقالت في دهشة :
– حقا . ولم تكن تمرض حينها ؟
فأجبتها :
–  على العكس تماما كنت أمرض حين يمنعني أهلي من الخروج واللعب في مثل تلك الأجواء .
 طلبت مني ماركريت الجلوس بعد أن قدمت لي كرسيا , ثم أقفلت الباب بإحكام خوفا علي من البرد وضمانا من أن أحدا لن يدخل علينا وهي تقوم بتجفيف ما بلله المطر مني , وشغلت جهاز التدفئة وركزت عليّ هواءه الساخن ثم قالت لي :
–  اخلع !
ارتكستُ لطلبها بنظرة مفاجئة إليها عرفت من خلالها ماركريت أنها أساءت أسلوب الطلب وتذكرت أنها في حضرة رجل شرقي قد يسيء فهمها فأعادت سؤالها بصيغة أخرى حيث قالت :
–  سأنشف جسمك وسأكوي ملابسك المبللة , هل يمكنك مساعدتي في خلع بنطالك وقميصك مع الإبقاء على ما يغطي عورتك ؟
عندها أجبتها :
–   بكل سرور .
وبدأت أخلع ملابسي وهي تأخذها من يدي قطعة قطعة وتضعها في جهاز لتنشيف الغسيل وبعدها تفرغت لي , ولا أدري من أين جلبت مناشف ناعمة كالحرير وجافة وساخنة تمسح بها جسمي المبلل وتقف تارة على يساري فتكون بيني وبين جهاز التكييف فينفث الجهاز  زفيره الساخن على شعرها الأشقر الطويل المحلول فيفترش على وجهي وكتفي العاري ويدغدغني , وتارة  تقف أمامي ويداها كلٌ على جهة من رأسي تمسحان جلدي بلطف ورقة وحنان فينحشر وجهي بين ثدييها الناهدتين فأذوب برائحة العطر المرشوش بين نهديها .  رفعت مرةً رأسي فوقعت عيناي على عينيها فكانتا زرقاوين زرقة السماء التي خانتني قبل قليل وفجأة خطر على بالي قول الدكتور سام ” إذاً الدور الآن للمرأة الإنكليزية كي تخونك فخذ حذرك ” . اعتراني حينها شيء من الذعر فبتُّ أحادث نفسي :
 الدور الآن لماركريت إذاً , ولكن ماذا بيني وبينها كي تخونني , إنني لا أعرفها ولا تعرفني , وها هي تقوم بخدمتي دون أجر أو مقابل فلماذا تخونني ؟ ………
وماذا إذا فتحت الباب وخرجت تصيح وتولول مدعية أنني حاولت اغتصابها , الدليل جاهز وهو أنني في خلوة بها  وعار إلا من شريط بعرض اصبعين يغطي عورتي  ,……………
لا يا رجل , دع شرقيتك جانبا كيف يمكن أن تفعلها ؟ هذه ماركريت حفيدة شكسبير وبنت الملكة  اليزابيث  ,………
وهل نسيت ؟ أنت في بريطانيا يا رجل ولست في أفغانستان !    .
 وفي الحق رغم أنني تمنيت ألاّ ينشف جسمي قرنا من الزمان لكي تعبث به وتمسده  تلك الأصابع الناعمة البيضاء البلورية التي تكاد تشف عن نقي عظامها وسط العظام الصغيرة التي تشكل هيكل أناملها وأن تبقى تلك الأثداء تصفع وجهي مرة على خدي اليمين ومرة على اليسار مشبعة أنفي عطرا , إلا أن عصباً من أعصاب الذكورة لم يتحرك فيّ ولم أشعر بغريزة ذكرية باتجاه ماركريت  وذلك تماشيا مع الثقافة السائدة بذلك البلد التي تقضي أن ممارسة الغريزة عند الإنسان ,  بخلافٍ عن تلك التي عند الحيوان ,  يجب أن يسبقها مناجاة الروح للروح  بنظرات وابتسامات وقبلات وكلام معسول في الغزل والغرام وهذا قد يطول أياما أو أشهرا وبعدها يصبح إشباع الغريزة تحصيل حاصل .

يبدو أن شرود ذهني بهذه الذكريات طال قليلا مما جعل سيني , التي يفصلها عني منضدة بعرض متر واحد نتكأ عليها كلانا , تقرص ظهر يدي وتقول :
–   أين طار عقلك ؟
فقلت متظاهرا أنني لم أشرد : 
–  هكذا إذاً يا سيني , فالمنطق هنا يقتضي أن كل ذكر وأنثى خلف باب موصد هما يتضاجعان ما لم يثبت العكس , والعكس غير قابل للتثبيت , أليس كذلك ؟
فردت سيني بكلمة صغيرة ولكنها مطتها كثيرا ولم يستطع فمها إخفاء بسمة تخفي سراً وراءها حيث قالت :
–   ي…………….س
فنظرت إلى وجه سيني ذي البشرة السمراء المائلة إلى البني المحروق والأنف الأفطس والحواجب الكثيفة والزغابات الرجولية النابتة محل الشارب عند الرجل , وأنا أناجيها دون أن تسمعني : لعلك مثلي الآن  , يا سيني , تنتظرين لحظة يغلق فيها الباب بإحكام ف  ” دكتور وسستر يبغى ينام سوى سوى  ولا ضير بعدها من إقامة حد الله في عقوبة الثيب الزاني عليهما ” .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

شعر: محسن قوجان

الترجمة من اللغة الكوردية: محسن عبدالرحمن

 

في مواعِدِك،

مابينَ المَنارةِ و القِبَب

ثعلبٌ

أكلَ هويتي

هذا الموعدُ

أغنيةٌ غير مكتملة،

في حلق الطفولةِ متعثرة.

لم تبقَ قوةٌ

في أضلاع الصخور لتخرجَ

وتركُضَ تحتَ الحالوبِ،

خلفَ هويتي

على فضلاتِ الرغباتِ الهشًة.

يرعى التيسُ البريٌ

ذات موعدٍ قلتِ لي: لاتتغافل

ليس لجبل كارة(1) الوقت لأن يناقش وادي سبنة(2)،

أو أن يهرب من هجوم الحالوب.

لذلك سبنة دائماَ زعلان،

ونحو البحر يتجه.

في فترة مبكرة،…

ألمانيا- إيسن – في حدث أدبي يثري المكتبة الكردية، صدرت حديثاً رواية “Piştî Çi? (بعد.. ماذا؟)” للكاتب الكردي عباس عباس، أحد أصحاب الأقلام في مجال الأدب الكردي منذ السبعينيات. الرواية صدرت في قامشلي وهي مكتوبة باللغة الكردية الأم، تقع في 200 صفحة من القطع المتوسط، وبطباعة أنيقة وغلاف جميل وسميك، وقدّم لها الناقد برزو محمود بمقدمة…

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…