” إلى الكتاب الكرْد المتخاذلين… إلى
إبراهيم يوسف خارجاً طبعاً، وفي مقام الشاهد ”
“
لقد وهب حياته محاولا إظهار معاناة الشعب السوري إلى العالم ”
” الكلمات محشوة بالرصاص ”
المختطف من قبل تنظيم ” داعش ” منذ عامين في سوريا” نوفمبر 2012
“، أعدِم ذبحاً البارحة على يد الأجلاف الداعشيين، وبثَّت صورته في شريط فيديو
تعبيراً دقيقاً عن دمويتهم الحداثية المتأسلمة الخاصة.
لم يجبر أحد جيمس فولي على الخروج من بلده أميركا ودخول حقل الألغام
في المنطقة وفي سوريا خصوصاً، وهو على علم تام أن ليس من
رأس بخارج عن إرهاب ” السكين الداعشية ” وأخواتها من المتأسلمات،
بالعكس، كان حبه في تعرية هؤلاء وأشباههم وخلافهم هو خميرة رغبته في السفر إلى
المنطقة، ولكل حقيقة ثمنها، جبايتها، وربما لا يتمكن الباحث عنها ثمناً، باعتباره
هو نفسه الثمن، وهذا أقصى ما يمكن التفكير على مستوى تحديد ” أسعار ”
الأمور وحقائقها .
ما أغلى الكتابة ، ما أرخصها، ما أروع الكاتب وأبأسه، ما أشجع الكاتب
وأجبنه، في مواجهة الحقيقة التي تعني
الكثير للكثير ممن حوله، وللصحافة عروض أسعارها، ساحاتها، مداراتها، مغامراتها،
طلعاتها الروحية، سردياتها الحكائية الخاصة، إنما على الأرض: وقائعها، وبدائعها،
ومهازلها، تبعاً للمعروض، واستناداً إلى نوعية العارض.
لا روح تتقدم روح المُدافع عن أرضه، شعبه، أناسه، أهله، حدود بيته،
حدود روحه التي بُثَّت لتعيش مدتها، روح
الشهيد الشاهد، روح المشهد الذي يظهر الصوت من حيازة التجريد إلى عالم التشكيل
اللوني، مشهد الشهيد وقد تناثر بأعضائه وأصداء صوته المقاوم في المكان، وعزّز في
المحيطين حب الحياة والأمل في الاستمرار أكثر.
لا روح تنافس روح الكاتب، والصحفي هنا كاتب من نوع شديد الخصوصية،
خصوصية تتسع معنىً، وتتعمق دلالة، وتتراءى فضائية
أبعاد، على قدر انشغالها بما هو إنساني، كوني، وتحديداً، حين توقع على بياض، وتتحرك
في ساحة الحياة ونقاط توترها دونما شروط مسبقة، فالصحفي من هذا القبيل هو ذاته
وثيقة عهده الذاتية، عقده مع نفسه وكينونته، أمانته التي ستسلَّم لمن يهتم بأمر ما
يهتم، ليكون الشهيد شديد الخصوصية والعمومية تبعاً لمبدأه العظيم .
وجيمس فولي الصحفي الأميركي شهيد أميركي، ولسان حال من خرج من وسطهم،
وهو يشير إليهم، وآثر أن يكون شهيد من جاء إليهم، دونما تفكير في المآل، لعلمه
الضمني تماماً أنه في مغامرته الاستثنائية، أكثر من مغامرة يوليسيس في بعض
الحالات، أن طريقه يسير في اتجاه واحد، ولكنه الاتجاه الذي يصعد به إلى السموات
الرحبة نجم انسانيته، وهذا ما كان، هذا ما حصل.
ولا أروع من سماع صوت أمه ” دايان العظيمة ” وهي تثني على
ابنها الغالي وهو الغالي بالتأكيد، أن تعتبره
شهيد من ذهب إليهم وشخَّص معاناتهم، حتى بالنسبة للذين يقتلُون ويقتلَون” أي
شراذم داعش “، لأنه كان عليهم أن يعيشوا حياة هادئة، ويدعوا الآخرين يعيشون
هذه الحياة، وتكون قسمتهم المشتركة، والذين لم يدخر جهداً في نقل مشاهد معاناتهم
إلى لغته وأهلها.
في السياق، وفي الوقت الذي تمثّل هذه المقالة مديحاً لروح جيمس فولي
الأميركي، وثناء عليها، ورثاء لها معاً، ثمة ضرورة كبرى لتسمية الأشياء باسمها،
وأنا أقلّص دائرة الإشارات والتنبيهات، حيث ثمة نسبة ملحوظة من كردنا ممن يسمون
أنفسهم كتاباً ولهم صيتهم، في نطاق ” التزام الصمت نشداناً للخلاص أو الأمان
“، وما أكثر عروض أسعارهم واستعراضاتهم بالجملة والمفرّق وأمام الملأ وفي
المناسبات وحتى عقد الندوات، كما لو أن كلاً منهم في ” أذن ثور “، وأي
أذن ثور بقادرة على حمل ثقل هذا أو ذاك ؟ هنا وهناك، إذ يظهر أن شبح الداعشي يتهدد
كلاً منهم، فيتلمسون في الصمت سلامة، أو حتى نوعاً من الضمان لحظة وقوع أي منهم
بين داعشي ” لا قدر الخالق طبعاً “، بأنه لم يمسس داعشياً ولا سلوك
داعشي ولا تهجئة نسَب الداعشي بسوء ..ماذا سوى ذلك ؟
كما لو أن جمهرة الألقاب المفبركة، والأسماء الداخلة في التوصيف:
كتاباً وباحثين وحتى مفكرين ونقاداً لهم
قراءهم ودعاة لهم وجمهورهم، وهم متنوعون متعددو الاختصاصات: شعراء، قصاصين، روائيين،
نقاداً مختلفي التوجهات، انطولوجيين..الخ، وإناث الكتاب الكرد هؤلاء، أو من معهم
داخلات في عملية التصنيف والتوصيف طبعاً، ممن لا يدخرن جهداً في انتقاء اللقطات
الأكثر علامة على أنوثتهن وانتظار كيل المديح، والبهرجة المناسباتية وغيرها.
لأذكّر أيضاً: في تداعيات انتفاضة 12 آذار 2004 المباركة في سوريا،
ثمة من قاموا بأتم أدوارهم، وثمة من حاولوا الحضور بصورة أو بأخرى، غير عابئين
بتقرير مخبر، أو استبداد رقيب، أو إرهاب جلاد، أو رطوبة زنزانة، كان جل ما انحدر
إليه سلوك أولئك الذين التزموا الصمت خوفاً أو تخوفاً أو مخافة أن .. وأن ..
وأن…الخ، هو كيفية تصريف ما حدث، خلاف الجاري لمن حولهم، من إلصاق تهم، وتشويه
سمعة، كما لو أن الذين استعدوا لأسوأ الاحتمالات كانوا ينشدون النجومية ” أحد
الصامتين الساكتين خوفاً اعتبر ذلك متاجرة بدماء الكرد إزاء كاتب خارج دائرة الصمت
والتخاذل “، سوى أن هؤلاء لم يدخروا جهداً، حين هدأت الأوضاع نسبياً، في
البروز في كراسي الصفوف الأولى، والتحلق حول الطاولات قبل الآخرين ممن عرِفوا
بإسهاماتهم، وهم ينظّرون في الكردايتي وكيفية تمثيلها واقعاً، وسط مشجعين لهم.
ما أشبه اليوم بالأمس وبالعكس! أترى الذين يكتبون ويغامرون بأرواحهم
وفي وضع أصعب بالمقابل، يأتمرون بأوامر سواهم، وثمة من
يقبضونهم على كل كلمة يكتبونهم؟ أما تراها حيلة ” إذا كانت هكذا ! ”
حيلة الكاتب الكردي الذي يعلم علم اليقين وهو يعيش الخطر الداعشي على بني كرده
وأناس مجتمعه، وبيته وحارته…الخ، أن الكلمات محشوة بالرصاص بتعبير من جرّب هذه الحالة، وأن الرصاص لا يُشعر به
إلا في مثل هذه الحالات، وذلك الوقت كهذا الوقت، وأدق وأخطر، لحظة المقارنة في حرب
وجود وعدمه، ودون أن يحاولوا التفكير أن الداعشي لا يستثني أحداً من كرده هو، وهو
بالذات أيضاً، وهو لا يتردد في وضع يده على مؤخرته مراراً مراراً، ويستشعر- ربما –
إسهالاً قبل الأوان، مثلما يتلمس رقبته وثمة شبح داعشي ومصور داعشي وحراس داعشيون،
وفي الأسفل، أسفله حصراً، ثمة ما …..!