إلا أنه في الواقع الكردستاني عامة وفي غرب كردستان خاصة تظهر جدلية العكس والتناقض السلبي، فالمثقف المستقل وخاصة الكاتب المؤثر على الساحة يضعف سنده، وكثيراً ما يهاجم بلا هوادة من قبل المثقف المنتمي قبل السياسي، إلى حد التخوين، والنهش والنقد المغلق والتعرض للشخصنة، دون اعتبار لقيم الاختلافات الفكرية، وعليه تضعف توجهات هذه الشريحة وتأثيرها الكلي على القوى السياسية أو قدراتها على إحداث تغيير ملموس في الثقافة الحاضرة المشوهة، وهذا ما تبحث عنه القوى السياسية الانتهازية في غربي كردستان، أو من خارج جغرافيتها ومثلهم بشكل أوسع القوى الإقليمية، والتي من مهامها تشويه الحراك الثقافي الكردستاني الوطني واللامنتمي وربطها بالحصار السياسي الحزبي.
المجتمع البشري وعلى مر التاريخ ينحاز إلى مفهومين في الحياة، إما المثالية ، أي الروحانية وسيطرة الفكر الديني، أو الواقعية المادية حيث العلوم والإيديولوجيات، لكن وبعد صراعات فكرية وميدانية طويلة بينهما، ظهرت فلسفة التوحيد وانتشرت على مدى قرون من الزمن، اشتهر بها فلاسفة عظام في التاريخ، برزوا في العلوم والسياسة مثلما في الأديان، ولا تزال تأثيراتها واسعة في العديد من المجالات، جرفت إليها بطرق متنوعة مثقفون كرد وعلى مدى التاريخ، وكانت المذاهب الصوفية، التي كان لها حضورها في الواقع الكردي الفكري المثالي أو المادي، رائدة في إظهارها، بحثت في وحدة الوجود، ووحدة الإنسانية، والكرد من المعروفين في التاريخ بمدى تبنيهم لهذا المذهب بطرقه المتعددة، وانتشاره كان له حضوره الشاسع في جغرافيتهم، بل كانوا في كثير من الأحيان قادته، لكن هذه الصوفية حوصرت في أبعادها المثالية، وعتمت عليها في بعدها العلمي – المادي وتشوهت في الواقع السياسي الكردستاني، بل وانعدمت في غرب كردستان.
لم يستطع الحراك الثقافي في هذه البقعة أن يخلق التوحيد لا فلسفياً ولا سياسياً، بل انغمس في تجليات البعدين المتناقضين والمتصارعين، وشارك في توسيع الهوة، أحياناً بسكوته وأحياناً بقبوله الإملاءات المفروضة عليها، وصاحبت هذه المسيرة نزعة التعصب لدى البعض منه لجهة كردية مقابل جهة أخرى، إلى أن أصبح الاختلاف عداوة. واليوم تنتشر بشكل رهيب فلسفة التفريق، وكأن الأغلبية من الحراك الثقافي لم يقرأ التراث والتاريخ الكردي قراءة صائبة حتى ولو كان قد قرأهما البعض بتوسع.
كما لم تتمكن شريحتنا الثقافية من القضاء أو التضييق على فلسفة أو سياسة التفريق، بين الذات الحزبية والآخر، التي اتبعتها الأحزاب السياسية أو فرضت عليها سلطة كانت طاغية، والأبشع هو أن الأغلبية من الحركة الثقافية في غرب كردستان تبنت مفاهيم العزل وإلغاء الأخر عن وعي وإدراك وأُلبِست بأردية فكرية مهترئة، والبعض حاول الاعتراض، لكنهم استخدموا أدوات بدائية، واتّبعوا منطقاً خاطئاً، وسردية كلامية غير لائقة، بشعب يراد له التحرر من ثقافة موبوءة، وانغمست مجموعات في التشكيلات التنظيمية كأي حركة سياسية، تاركين البعد الثقافي، ومتناسين أن مهمتهم تكمن في توعية الشعب وتنوير الأحزاب السياسية، وتنبيهها إلى أخطائها.
كما تكالب البعض على فتح المكاتب في المدن والقصبات الكردية، وتشكيل هيئات تبحث عن الكم العددي لا النوع الفكري، ووضعت خدماتها تحت تصرف القوى السياسية الغارقة في الصراعات والأخطاء والولاءات لقوى إقليمية، فأصبحت في حقيقتها مكاتب إعلامية تخدم الأحزاب، لا الوطن، وفرزت في كثيره من قبل القوى الحزبية لأداء دور المُجمِّل لأعمالها البشعة، وعلى أثرها ظهرت التجمعات المتنوعة وبسرعة غريبة بين الشريحة الثقافية، تشتتت وانقسمت على بعضها وخسرت الكثير من رونقها ونبوءتها، بل واهترأت مكانتها واحترامها لدى العامة من الشعب وبالتأكيد لدى الحراك السياسي نفسه، فلم تعد ترهبها الكلمة ولا القلم، فهي قد أصبحت في خدمتها الكلية، والعلاقة بينهما أصبحت كعلاقة السيد والموالي.
يتبع…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
صدرت في جريدة بينوسا نو العدد (20) الناطقة باسم رابطة الكتاب والصحفيين الكرد في سوريا