ثنائية الجمالي والمعرفي في النص الفيسبوكي:

إبراهيم اليوسف   

  
  
لا يخفى على أحد البتة، أن شبكات
التواصل الاجتماعي، بشكل عام، و ومن ضمنها الفيسبوك، قد باتت الأكثر استقطاباً
لدائرة المتفاعلين معها، ضمن العمارة الكونية حيث تتعدد أغراض هؤلاء، من ذلك، كما
هي سمة العلاقة-عموماً- مع العالم الافتراضي كله، لاسيما أن المقاربة بين الواقعي
والافتراضي باتت تتلاشى، وهو ما لم يتم الانتباه إليه من قبل كثيرين، وتعود أسباب
ذلك إلى مدى تطويع الشبكة العنكبوتية لحاجات الكائن البشري، بحيث باتت  تستطيع الإجابة عن أسئلته كلها، سواء أكانت
معرفية، أم فنية، أم اجتماعية، أم اقتصادية، بل وحتى عسكرية، على اعتبار أن الغرض
الرئيس لاختراع الإنترنيت، في بداياته، أي في ستينيات القرن الماضي- حيث سيحتفل في
العام 2019 بمرور نصف قرن على ولادته-كان من أجل مهمة خدمة الحربية الأمريكية، وإن
لم يدخل حيز التطبيق العام إلا بعد عقود زمنية.
وبدهي، أن مجرد تسمية عالم
الإلكترون، بكل مفرداته، ب”العالم الافتراضي”  يلفت الانتباه إلى وجود عالم مواز لعالمنا
الواقعي، بكل تفاصيله الصغيرة منها، والكبيرة، في آن، عالم يموج بأصداء الحياة،
بصورة الحياة، بانعكاسها، عالم يكاد يكون صورة طبق الأصل عن عالمنا،  لقد صار بمثابة معين لديمومة
النسخة-الواقعية-من العالم، وصار ذاكرة له، بل وموازياً له، ومتواشجاً معه، إلى
تلك الدرجة التي نكاد نفشل في أن نفصل بين حدوديهما، في يومياتنا، ومعارفنا، إلى
حد اللبس والتطابق.
 
ضمن هذا الإطار، فقد جاء الفيسبوك
كأحد مفردات ثورة المعلومات، من خلال الدفق اليومي ليس لما هو في حدود
المعلومة-فقط- بل ما يطفح ببعديه: المعرفي والجمالي، فإلى جانب أن الفيسبوك عبارة
عن بوابة كونية مفتوحة على امتداد الأربع والعشرين ساعة من اليوم، تتيح لمليارات
سكان العمارة الكونية من التواصل مع بعضهم بعضاً، عبر تبادل المعلومة، في إطار
المفردة، أو الصورة، فإنه في الوقت ذاته فضاء مفتوح للإبداع، بات يستقطب نسبة
عالية من الساردين والشعراء، كما هو مفتوح أمام سائر الفنون الأخرى المرئية،
والمسموعة.
 
 
وإذا كان الفضاء الفيسبوكي له غوايته
بالنسبة لكل من يقع في شباكه، على اختلاف درجة ثقافته، أوسنه، أو مكانه، فإن
المبدعين-عامة- وجدوا لاسيما بعد نجاح الفيسبوك في تحقيق اختراقات يومية،  منذ أن أن استطاع الدخول في حيز التداول، وصار
مفردة يومية تعيش مع أفراد الأسرة، صغيرها و كبيرها في آن، بل وإن ذلك تم في الوقت
الذي صار يتم الحديث، وعلى نحو عالمي، عن انحسار المدونة الورقية، لصالح المدونة
الافتراضية، إذ لم يرد هؤلاء المبدعون أن يبتعدوا عن الاستفادة من هذه التقنية
الكونية الكبرى، بل صار يعنى بإيصال خطابه عن طريقها، وإذا كان هذا حال المبدع المعروف،
ذي الحضور الفعلي في مرحلة ما قبل انتشار هذا المنبر الافتراضي، فإن نسبة كبيرة
ممن يمتلكون أدوات الموهبة، احتضن هذا العالم إبداعاتهم الأولى، وصار لبعضهم حضوره
إلى جانب المبدع الذي عرف من قبل، اعتماداً على المدونة الورقية،  الأمر الذي خلق حراكاً غير مسبوق في تاريخ  الخطاب الإبداعي، على صعيدي: الإرسال والتلقي،
مادام أن العالم الافتراضي هو عالم التلقي، وأن في المقابل، لا يمكن تصور أي تلق
من دون عملية إرسال.
 
مفهوم المعرفي والجمالي في الخطابين
التقليدي والحداثي:
 
 
من يعد إلى الإبداع عبر التاريخ، يجد
أنه قد حقق شرطين رئيسن معاً، وهما: الفائدة والمتعة، دون أن يتخلى أحد طرفيه عن
الآخر، في متوالية جمالية معرفية، بيد أن النظرة إلى هذين الشرطين، قد اختلفت مع
الزمن، لاسيما بعد أن تم توظيف الأدب في خدمة التعليم، حيث وظفه بعضهم كأداة، في
سبيل خدمة ما هو معرفي، ما خلق الكثير من اللبس في جملة المفاهيم، ومن بينها ما
يخص العلاقة بين المعرفة والجمال، ضمن إطار النص الإبداعي، وهو أحد أسباب ردود
الفعل من قبل المدارس الإبداعية الحديثة التي انحازت إلى ما هو جمالي، لاسيما في
بعض منها، إلى درجة إلغاء بعضها لدور المعرفي، إذ تم ترويج مقولة “لا
يمكن  للشعر أن يكون وسيلة لمحو
الأمية”، وغيرها من المقولات المشابهة التي راحت تضع الشعر-على نحو خاص- في
أحد أبراجه العاجية، ليكون فن الأنتلجنسيا، بل صار تدريجياً فن “نخبة
النخبة”، وهو ما جاء على حساب جماهيريته التي كاد أن يجهز عليها.
 
 
 
 وهنا، نجد أنه قد تباينت الآراء إلى حد التضارب،
في ما يخص دور ثنائية المعرفي والجمالي، في الآداب والفنون، حيث قلل بعضهم من شأن
المعرفي لصالح الجمالي، بل رأى آخرون أن ما هو معرفي ضروري في العملية الإبداعية،
مقل من راحوا يؤكدون أن المعرفي والجمالي ليسا إلا بمثابة الجناحين بالنسبة إلى
الطائر، لا يمكنه التحليق دونهما معاً.
 
 
ومن يعد إلى الإبداعات الأدبية-سرداً
وشعراً- يجد أن من سمات الأول منهما الوضوح، كما هو تعريفه التقليدي من قبل
النقاد-وأن من سمات الشعر أن يكتنفه بعض الغموض، وإن تراوحت ترجمة الغموض على أيدي
الشعراء ما بين ما هو بسيط، وما هو مسرف، أو متماد فيه، إلى درجة الإبهام،
والاستغلاق، والتلغيز.
 
ليس بإمكان أي نص-في الحقيقة-أن
يرتقي إلى مستوى  النصية التي تحقق
شروط-الخطاب الإبداعي- في ما إذا كان خاوياً من الناحية المعرفية، وإلا فإننا نكون
هنا أمام محض مفردات، خارج دورها الدلالي، حيث هناك شروط لدور المفردة في الجملة،
بما يفتح الآفاق لخلق علاقات جديدة، ومعان جديدة، بعيداً عما هو مستهلك، وهنا يكمن
سر اختلاف الكلام عن اللغة، أو الشفهي عن المدون، حيث أن الشفهي عام، بينما المدون
خاص، أي أن روح الإبداع تتجلي في الثاني منهما، باعتبار أن الأول مشترك بين عامة
المتحدثين.  وإن اللغة في الخطاب، تدخل في
إطار البنية الشكلية، فإن جماليته تعد روحه الحقيقية التي بها ينبض بالحياة، وبها
يستطيع أن يحقق صفة تجاوز الذات والآخر المطلوبة من أي خطاب إبداعي عادة، لذلك فإن
المعادلة الإبداعية لا تتحقق في أي نص، في ظل غياب العنصر الجمالي، هذا العنصر الذي
هو علامته الفارقة التي تميزه عن سواه.
 
 
مفهوم الجمالي والمعرفي في خطاب ما بعد
الحداثة:
 
كرس خطاب “ماب عد الحداثة”
ثيمة التركيز على العنصر الجمالي، على حساب العنصر المعرفي، وهو ماأزاد الهوة بين
النص ومتلقيه، حيث راحت دائرة جماهيريته تتقلص، بل كان ذلك سبباً في انكفاء
الإبداع الشعري، من خلال وجهات نظر بعض النقاد الذين يرون أن العقود الزمنية
السابقة كانت تحفل بأسماء الشعراء المائزين، بل يمكننا أن نضيف في هذا المقام، أن
رحيل شاعر من طراز محمود درويش،  لم يترك
فراغاً هائلاً، فحسب، وإنما راح يدعو وفي ظل عدم ظهور من يستطيع أن يحقق حضوره
الإبداعي، للتساؤل”هل حقاً لم يعد يظهر شعراء كبار منذ مطلع العشرية الأولى
من القرن الحادي والعشرين، على نحو أخص..؟.
 
ويبدو أن الانتشار المعلوماتي
الهائل، لاسيما من خلال شبكة التواصل الاجتماعي التي يعد الفيسبوك أنموذجها
الأبرز، ولجوء المتفاعلين فيسبوكياً  إلى التواصل مع بعضهم
بعضاً، دعانا لنكون أمام نصوص هائلة في الفيسبوك، بينها “الغثّ”
والسمين” في آن، وإذا كان الغث-في الأصل- هو الأكثر-وهو أمر طبيعي- مادام أن
في مكنة كل  من لديه “خط
إنترنيت” و”جهاز كمبيوتر” و”حساب فيسبوكي” أن ينشر ما يريد
في هذا الفضاء، فهو ما جعل النصوص المائزة أشبه ب”إبرة الذهب” الأسطورية
التي تضيع وسط ما هو مكرر بلا هوية أو بصمة إبداعية من “جبال القش” غير الإبداعية،
إلا أنه ورغم بون المسافة/ المفارقة بين حالتي “الذهب” و
“القش”، إلا أن كلاهما موجود، بل أن كثرة الكتابات الغثة، جاء استجابة
لواقعة ما بعد” حرية النشر” 
التي يحققها النشر الإلكتروني، وصارفي إمكان كل متحرر من أميته أن يغدو
كاتباً وناشراً.
 
وبعيداً عن التأثير السلبي لمثل هذا
الواقع على الذائقة الشعرية، إلا أن الشاعر المتمكن من أدواته صار يتفهم متطلبات
المتلقي الافتراضي الذي لا وقت لديه لقراءة المطولات التي لها موقعها في
المدونتين: الورقية أو الإلكترونية، حيث أن هذه الأخيرة ذاتها قد غدت تقليدية أمام
واقع النشر ما بعد الحداثي الذي عزز حالة إسقاط الرقابة، وبات يستفيد منها أردياء
الموهبة وممتلكوها معاً. وهو قد يحفز-ولو ضمن حدود ضيقة- لبعض أصحاب الكتابات غير
الإبداعية أن يشتغلوا على أدواتهم لتقديم نصوص تنبض في الحياة، كما أنها-في
المقابل- باتت تدفع الشاعر الأصيل إلى كتابة نص مكن التداول من قبل المتلقي
الافتراضي.
 
ونجح-بحق-عدد من الشعراء المتمكنين
في تأسيس جماليات النص الفيسبوكي، وإن كان فيه الكثير من خصائص قضية الومضة، أو
اللقطة، أو الفلاش، أو السوناتا، أو الهايكو، بيد أن السمة الأكثر بروزاً في هذا
النص هو أن الناص  يحقق
ثنائية”الجمالي المعرفي، إذ بات لزاماً عليه أن يحقق تمايز نصه، عن هذا الكم
الهائل، وهولا يتم إلا من خلال عمق الموهبة، و أصالتها، كما أنه مطالب بأن يركز
على ما هو معرفي، لأن متابع الفضاء الإلكتروني عام، وليس متخصصاً، ولهذا فإننا هنا
أمام سطوة المتلقي التي من بين أدواتها فرض الجانب  المعرفي، من دون التخلي عن الجانب
الجمالي.   
 
فصل من مخطوط “إبرة الذهب”
في  جماليات النص الفيسبوكي”
 
 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…