ديرك بساتين الزبيب

صبري
رسول

 

رفعَت حبةً بلورية بين إصبعيها قائلة: إنّها تحملُ رائحة
الأجداد، وروحُ الأرض نائمةٌ في عروقها، انعكستْ على نضارةِ الحبة وجهُ أختي
المدور. وضعتْها بين الأكوام المتناثرة على المفروشة على الحصير الملون شبه
المهترئ. 
كانت بساتين العنب تحيطُ خاصرة مدينة ديرك من جهة (كري
كرا) وطريق (مامه شور). تنام المدينة صيفاً على أشجار العنب المعرّشة وعناقيد
العنب البلورية تبقى معلقة بين الأوراق، تحتفظ بنضارتها حتى تأتي لحظة قطافها،
والكثير من تلك العناقيد يبقى دون أن يطالَها القطاف، فتنكمش حباتها على نفسها، فتجفُّ
الحياة في عروقها، فتتحوّلُ إلى زبيبٍ طعمه أحلى من العسل وألذّ.
في نهايات الخريف تذهبُ النّساء لقطفِ عناقيد الزبيب،
ونشرها تحت شمس أيلول، لتجفّ الحبات الطرية التي حالفها الحظُّ واحتفظت بنشوة
الحياة في داخلها. البساتين محاطة بأسوارٍ حجرية مغرورة بروح البازلت، لاترتفع
أكثر من مترٍ واحد. ذات مرة رافقتُ أختي إلى البستان، ولم أستطع تخطي أحجار السور،
أصبحتُ معلقاً، ناديتُ أختي التي أنّبتني على فعلي، قائلة: تعالَ أيّها الشقي، لا
أعرف أيّة امرأة ستتورّط بالزواج منك. هذه المرة الأخيرة ترافقني فيها إلى
البستان. 
في زيارتي الأخيرة لديرك مسقط رأسي يوم الأربعاء
3/9/2014 مررتُ بالقرب من
المكان، الكتلُ الإسمنتية زحفت مكان البساتين، وفي أطرافها اجتاحت بيوت وطيئة توحي
بالبؤس الأصفر. 
المكان هو ذاته، والخريف هذا العام يشبه خريف العقود
الماضية، الأمر الذي تغيّر في
المكان هو اختفاء بساتين وعرائش العنب، وابتلاع السطوح الإسمنتية المظهر الخيالي
لمواطن الزبيب. 
لم أعرفْ طبيعة المشاعر التي انتابتني، أحببْتُ أنْ
أغمضَ عينيّ لأحتفظ بالمشاهد
الجميلة لبساتين العنب في داخلي، أخذني المخيال إلى ماضٍ بعيد. صغيرتي آسيك
أيقظتني من الخيال: بمَ تفكّر يا أبي؟ هل تكلّمُ نفسك؟ قلت لها: لا آسيك، أفكّرُ
بزبيب الماضي، إنّه يشبهك بالجمال. 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

دريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…