إبراهيم محمود
(في غرفة شبه عارية، سوى الجدار المواجه للنظّارة، لوحة كبيرة معلقة عليه، غير واضحة المعالم، عبارة عن دوائر وخطوط باهتة، إلا من خط عريض قليلاً، وطويل ومتعرج، ملون بالأسود يغطي على ما عداه، وثمة كلمة تقرَأ عن بعد ” نهر جغجغ “، بينما تظهر صورة ضفدعة خضراء داكنة اللون، كما لو أنها على وشك الخروج من اللوح في أسفل الخط النهري. اللوحة تقع على الخلف من رجل ستيني يبدو أشعث الشعر، وبعينين دابلتين وشفتين مذمومتين ولباس بالكاد يُرى، لأن ثمة معطفاً يغطي كامل جسمه، بحيث إن أطرافه تلامس الأرض، وهو جالس إلى كرسي متآكل الجوانب لا يخفي قِدَمه، وثمة أوراق تفتقر إلى الترتيب وقلم ناشف من النوع الرخيص، يتحرك بين أصابع يده اليمنى، وهو منحن على الطاولة كما لو أنه مسمَّر بها، ومشدود إليها، أما الضوء فشبه خافت. ليس هناك سوى هذا الرجل وطاولته وأوراقه وما هو معلَّق على الجدار، وثمة أصوات بالكاد تفهم يتردد صداها في الداخل، رجالية في العموم ).
مشهد أول
( كما لو أن الجدار المقابل للمسرح انشق، ومن أسفل اللوحة، يخرج ما يشبه الطيف أو الشبح غير واضح المعالم بدوره، وهو يثبت نظراته على الجالس” وسنسمّيه رجل الطاولة “، وظهره إلى الجمهور، وسنسميه طيفاً، أو شبحاً عند اللزوم ).
الطيف ” بصور خفيض ومسموع “: ما كان عليك أن تستدعيني بهذه الطريقة، وفي هذا الوقت العصيب بالذات.
رجل الطاولة ” متنبهاً إلى الصوت بسرعة “: استدعيتك أنت، ومن أنت ؟
الطيف” بنوع من السخرية “: تُراك نسيت من يجب أن أكون، أنا شريكك فيما كتبت وتفكر فيه .
رجل الطاولة” وهو يرفع صوته مع ضعف لا يخفى “: ليس لي شركاء في كل ما كتبت، فكيف فيما كتبته حديثاً ؟ .
الطيف ” محرّكاً يده باتجاه الصالة للفت الأنظار “: انظروا إليه، تُرى كيف يمكنك أن تأخذ بقمحك إلى الطاحونة ولا تفكّر في الطحان ها ؟
رجل الطاولة” دون أن ينظر إليه، وكأنما يصرفه بحركة يده التي تحمل القلم “: ليس لدي قمح لأفكر في الطحان ..
الطيف ” بصوت مسموع أكثر “: إن ما كتبته هو قمحك، وأنا طحانك الذي لا يمكنك الاستغناء عنه، وأنا نخالتك، وإذا شئت فالكثير مما تجهل ولا تبرَّأ منه .
رجل الطاولة” مع بعض الفضول يرفع رأسه وينظر ناحيته دون تدقيق “: أوجز بالله عليك، فأنا لم أنم منذ ستين عاماً ..
الطيف ” رافعاً يديه وبثقة “: ها قد بدأنا نمثّل ونسلك الطريق المطلوب.
رجل الطاولة ” عن أي تمثيل تتحدث يا …
الطيف ” ببعض ابتسامة “: ناد يا طيف أو شبح، وإذا أردت فأنا المخرج حرفياً.
رجل الطاولة ” يحاول الوقوف، إنما يرجع إلى وضعيته السابقة “: أي مخرج وأي تمثيل ؟
الطيف” مستمراً في تحريك يديه “: ما كتبته حديثاً، ولأول مرة في حياتك كما أعرف، يعنيني، وأنا أعنيك أيضاً..
رجل الطاولة” ببعض الانتعاش في الصوت ” : ولكن ذلك قراري الخاص و..
الطيف” محركاً يده اليمنى ناحية الجمهور، وهو على بعد مترين منه “: بمجرد أنك سطّرت الكلمة الأولى، لا بل تخيلتها كنتُ موجوداً، فأنا الذي يمنح حياة لكل كلمة تكتبها وكما أقدّر..
رجل الطاولة” محاولاً الوقوف “: ولكن ..
الطيف” ملمحاً إليه بضرورة البقاء جالساً”: ابق مكانك لو سمحت، فلدينا وقت كاف لنتفاهم، ووقت التمثيل لم يبدأ بعد أساساً، إنما هناك إجراءات، لا بل بعض الضروريات التي يجب عليك وحتى علي أنا بالذات، أخذ العلم بها ..
رجل الطاولة ” شاعراً بنشاط ما غير أنه سهر طويلاً “: ضروريات.. أخذ العلم..و..
الطيف” باندفاع “: أنا هنا وبعيد عن الديار، وحتى لو كنت هناك، كان عليك باستشارة بعض الذين لهم خبرة في هذا المجال الذي تخوضه، أن تلتقي بسمير إيشوع، بأحمد شويش، بابراهيم يوسف بأنطوان أبرط، بعدنان عبدالجليل، بعيسى حنا، بأحمد اسماعيل اسماعيل..لأن ليس من المعقول أن تخوض هذه التجربة وأمام الملأ.
رجل الطاولة” ينظر ما حوله هذه المرة ، وبسخرية”: وتعرف أسماء من أعرفهم جيداً، ثم ما أدراك بهم بهذه الطريقة، وكلٌّ في مكان وله لغته .
الطيف” مع بعض القهقهة “: المهم هو أن هناك من تعرفهم، ولك صلة بهم.
رجل الطاولة” وهو يضرب الطاولة بيده “: إنما لا يجوز التصرف هكذا.
الطيف : بصوت مسموع أكثر “: ليس هم فقط إنما آخرون، لديك حديثاً قاسم بياتلي، ونوزاد ، وكڤال وآخرون على الخط، ولكل منهم تأثيره، وربما تكتب لتظهر أنك تستطيع مجاراتهم…
رجل الطاولة ” ببعض الغضب” : مهلاً مهلاً، إلى أين أنت ماض، وتلفظ أسماء بهذه الطريقة..
الطيف: إنها أسماء، ولهذا تهجأتها على طريقتي، وسمّيتها لأن أصحابها لا بد أنهم حاضرون معك بصورة ما، ثم إنني أعرف حدودي، وأنا أشير إليها، باعتباري داخلة في الموضوع.
رجل الطاولة” يلتفت إلى الوراء، ثم يواجهه مقاطعاً إياه “: ولكن ذلك غير جائز.
الطيف: لا بأس لا بأس، ولكن كان عليك التأني والتروي.
رجل الطاولة : كلنا نمثل، وإن لم نمثل، لا بل إننا عندما نمثل نتوقف عن التمثيل، فأن نمثل يتقمص أو يجسد كل منا دوراً، أما ألا نمثل فلا أحد يعرف كم عدد الأدوار التي نمثل في اللحظة الواحدة: بين ما هو ظاهري وما هو خفي، وما بينهما .
الطيف : يبدو أن ظهوري كان مجدياً إذاً، وها أنت تتحدث فيما هو مطلوب قوله ؟
رجل الطاولة: ولكنني لم أرسل في طلبك.
الطيف: لا لزوم لهذا الطلب، فمثلي يحضر دون ميعاد، وألازم كل كلمة وحركة جسدية، وهذا هو عملي، مثلما أنك تكتب دون ميعاد، وتظهر لك أفكارك بأشكال وألوان تمثل أمامك وتحاورك، وإذا أردت، أو لم ترد، فهي تنبه الآخرين إليك، وأنا بسببها هنا.
رجل الطاولة: إنما أسماء من ذكرت، دعوى تعالم.
الطيف: لا بل من صلب الموضوع، فأنت لا تعلم بحقيقة ما تقوم به، وأنت مندمج بعالم لعله يقلقك ويؤلمك، ولا بد أن هؤلاء لهم حضور داخلك مؤاساة أو محاباة أو معاناة، وأنت نفسك أشرت إلى التمثيل ودرجاته، لذلك هناك صِلات قوية مع كل اسم وأنت منكبٌّ على الكتابة.
رجل الطاولة : كأنك بدأت تقنعني .
الطيف: ليست مسألة إقناع، إنما حقيقة أخرى أنت تهتم بها بطريقتك، وأنا بطريقتي، وهذا المكان معد للمسرح، لا بل إن ثمة ما يشير إلى موضوع يمكن البحث فيه من خلال وجودك هنا وهذه اللوحة ” يشير إليها بيد معلقة في الهواء “.
رجل الطاولة: كأنك الآن تعرف كل شيء عني.
الطيف: لا بل أعرف عنك أحياناً أكثر مما تعرفه أنت عن نفسك، وأنت بين قامشلو ودهوك.
رجل الطاولة” محتداً “: مهلاً مهلاً، أنا لا أكون الذي تسمّيه باسمه، إنما شخص آخر، وخلطك بين ذاك الذي تسميه وما تراني عليه، يشير إلى جهلك بأصول التعامل، وهذه وشاية مكانية.
الشبح: لقد أصبحت شبحاً، لأعلِمك أنك يجب أن تصغي إلي، وذلك هو الرهان لترى نفسك في وضع آخر، فما كتبته يعنيني ويعنيني طيفاً وآخر.
رجل الطاولة” ساخراً “: الطيف الذي صار شبحاً، والشبح الذي يصبح ..
الشبح: الذي يصبح طيفاً أو يبقى خلافهما، وهأنذا أعلمك، ونحن على المسرح، أنك جاهل بجسدك فيما تقول وتفعل، اسأل إذا أحببت قاسم بياتلي الذي مَسرح الجسد كثيراً، أو فلأسمعك حقيقة ما تهتم به وتتجاهله هنا، وهو لزوم التزام المرونة، فأنت تمثّل الآن ..
رجل الطاولة ” ببعض غضب ” أمثل مع شبح .
” أصوات متداخلة في الخارج، لا يُطمأن إليها “.
الشبح: ” ماداً يده باتجاه مصدر الأصوات كأنها تأتي من وراء الجدار ” : اسمع.. اسمع يا رجل الطاولة، هذه الأصوات المغمغمة والمزعجة كثيراً، أصوات بشر، ستصدم بهم إن رأيتهم واقعاً، والأصوات تترجمهم، الأمر الآخر هو الاستغراب مما أنت فيه: ألا تعلم أنني نظير شبح هاملت؟
رجل الطاولة” ببعض السخرية “: والآن شكسبير؟ أنت تستفزني أمام هؤلاء الناس في الصالة وهم ربما ينتظرون أقل إشارة أو حقيقة تخصني، ليبدأوا في نسجها على طريقتهم و..
الشبح: أو تريدهم أن يتكلموا كما تريد؟ إنهم أيضاً يمثلون فيما بينهم، وعلى بعضهم بعضاً، وداخلهم، وبمفردهم، حسب المكان والزمان، ولكل منهم شبحه وطيفه، لا بل أشباحه وأطيافه، ومسرحه النفسي، ومخرجه الذي لا يستقر، أما الشبح المسمى فليتك تعرف أنه لولا الشبح لما كان هاملت، ولا كان حديث عن شكسبير الذي عرَّفنا بهاملت من خلال شبحه وما يكونه.
رجل الطاولة” حاملاً القلم بيده وهو في حالة إطراق “: في هذه ربما جعلتني أفكر بطريقة أخرى.
الطيف: أن أحضر على طريقتي أن أصبح شبحاً، أو يكون المخرج أياً منا أو كلينا، أو أنت نفسك تصبح شبحاً أو طيفاً وأنت غير دار بذلك، أو مخرجاً من دون علمك هنا وهناك .
رجل الطاولة : هذا مثير من حيث لا أعلم و..
الطيف ” الآن جاء دوري مجددي “: لنختصر، أي مسرحية كتبتها وكيف ستؤدى ؟
رجل الطاولة ” بنوع من الحماس “: المخرج الفطين لا يحتاج إلى السؤال كثيراً، لا بد أنك استدعيت بعض الأفكار المتعلقة من خلال المكان واللوحة.
الطيف ” مع بعض القهقهة، ثم الهدوء “: ما أراه عبارة عن لوحة، و” يقترب منها ” عبارة هي ” نهر جغجغ “، و..” يقترب أكثر وهو ينظر، ومن ثم يواجهه “: ضفدعة..ضفدعة ..
رجل الطاولة ” بسخرية “: ها أنت التقطت بعض الخيوط إنما ..
الطيف : إنما عليك أن تعرف كما أعرف، وكما يعلم آخرون أن ” جغجغ ” نهر شبه ميت في قامشلو، مدينتك، وعبارة عن مجرور مفتوح غالباً، وأنت هنا في دهوك، وهذه الضفدعة ما شأنها بموضوعنا ؟
رجل الطاولة” بصوت مرفوع “: الأمكنة والأزمنة ” ليست أكثر من خيالات رحالة، وخاصة لمن يعرفها، وما أسهل أن تذهب إليها أو تأتي بها إليك، أما الضفدعة فهي شريكتي..
الطيف: شريكتك ؟
رجل الطاولة: نعم، نعم، ولسوف ترى كيف..
الطيف : ولكن العنوان ما هو..؟
رجل الطاولة : ها قد تقاربنا: جغجغ وضفدعة وأنا .
الطيف: هذا يتطلب الكثير من الجهد للربط بين هذه المفردات الثلاث .!
رجل الطاولة” محركا سبابته إليه ، وناظراً إلى الجمهور لأول مرة “: مخرج ويتحدث هكذا، المخرج الحقيقي لا يسأل عما يريد القيام به، فلديه كل ما يلزم لهذا العمل .
الطيف ” بضحكة مسموعة “: ربما، ولكن توجد حدود؟ والحدود تعلمنا الكثير يا رجل الطاولة!
رجل الطاولة” بسخرية جلية “: في عالم فقد الحدود، وباسم الحدود تسفَك دماء، وعليها، تقرَّر مصائر، وما يجري في أبعد من قامشلو، وقد اضطربت الحدود، يمكن لنهر بحكم الميْت أن يكون شريكاً في عملك المسرحي، ولضفدعة أن تقول الكثير بأكثر من دور رصين، ومن يكون ممثلاً فعلياً، إنما ليس أنا تماماً، بل شخص قد يشبهني ولكنه ممثل مع ضفدعة، نعم، ضفدعة .
الطيف” محركاً يديه”: إنما المشكلة هي في كيفية الربط بين المشاهد، وأنت تريدها مسرحية من فصل واحد، وهذا يتطلب تدخلاً، خصوصاً وأنك حديث العهد بحرَفية الكتابة المسرحية.
رجل الطاولة: لعلمك” قالها وهو يوجه سبابته إليه “، أن الحياة كلها فصل واحد، وفيه مشاهد، وكل مسرحية عبارة عن فصل واحد مكون من مشاهد تطول أو تقصر، وما قيل حول المسرح القديم أو الحديث أو المعاصر، ليس أكثر من تسميات لشيء واحد، حول موضوعات مكرَّرة.
الطيف” ببعض الإعجاب “: يعني ذلك ..؟
رجل الطاولة: يعني ذلك أنه يمكن أن ننهي كل شيء دفعة واحدة حتى من دون مشاهد، وإنما جاءت المشاهد كنوع من التنويع للذين يتفرجون، ومن باب الإيحاء أن هناك تجديداً.
الطيف ” متنفساً بعمق “: كأن علينا البدء إذاً !
رجل الطاولة: تقول البدء، بينما قد انتهيت من كل شيء .
الطيف” محركاً سبابته وهو يتجه صوب النقطة التي خرج منها حتى وهو يكاد يختفي عن النظر، بينما بقيت السبابة تتحرك في الخلف، ليبقى آخر جزء من جسمه “: أيها الخبيث..الخـ ..
مشهد ثان
( اللوحة ذاتها، ولا أثر للخط الأسود المتعرج، إنما وحدها الضفدعة في مكانها، وهناك أصوات كأنها تخرج من اللوحة، وهي تهتز، وتتحرك على الخشبة كأنها أجسام ملتوية متموجة يصعب التعرف عليها، والضوء شحيح ) .
صوت: كيف يمكن أن نبدأ خاصتنا ؟
صوت: كيف يمكن أن نبدأ خاصتنا!
صوت: كيف يمكن أن نبدأ خاصتنا.
صوت: النهر خاصة الجميع.
صوت: حتى لون جغجغ ؟
صوت: جغجغ نهر. كان نهراً، وما زال نهراً، أقدم من الجميع، والشاهد على الجميع.
” كأن هناك سماع ارتطام أمواج بالصخور مع ارتفاع وانخفاض “
صوت: على الناس أن يأخذوا شهادة براءة ذمة من النهر، أن يعرفوا من هم عبر النهر.
صوت ” بصيغة سؤال “: حتى لو كان المؤلف والمخرج ؟
صوت: لا استثناء هنا لأحد. الجميع معروفون بي. أما المؤلف فيا لبؤسه. لكم سبح في مائي واصطاد سمكاً وكنت نهراً، أما عندما أصبحت شبه ميت فشأن آخر، وهو يعرفني جيداً، وإلا لما كتب عني كثيراً، وعلى المخرج أن يعلَم بذلك، وإلا فسوف يكون فاشلاً.
صوت: هذا يحتاج لإيضاحات .
صوت : للذين يجهلون جغجغ من بعيد.
صوت: ومن قريب أيضاً، خصوصاً عندما يتلبسنا الإيهام بأن البعيد غامض، والقريب واضح، وهذا يترك الباب مفتوحاً لأقوال وأقوال، والناس كثيراً ما يكونون ضحايا ما هو قريب جداً، أكثر من كونهم ضحايا ما هو بعيد، وأكثرية المشاكل قائمة نظراً لأن القريب لا يدقَّق فيه، بينما يصار إلى اتهام البعيد، كما الحال هنا، فالعدو المعتبر بعيداً، أكثر وضوحاً مما يتم التخاصم عليه في القريب، في الداخل، بحيث لا يمكن الفصل بين الواحد والآخر، فالعدو الأكبر هم ، هم!
صوت” كأنه في وسط الخشبة، وهو يثبت ويتلوى مقابل الجمهور “: كان يا ما كان إذاً .
صوت اعتراض، قل النهر مباشرة، فهو موجود، وليس في عداد الموتى كالبشر، كما يُتصور .
صوت: موافق. جغجغ نهر، وله أكثر من اسم، وهذا يثبت تاريخه الطويل، كما تقول الجغرافيا، ما آل إليه أمره كان بفعل الناس والذين أرادوا اللعب بمصائرهم. من جهة الشمال تكون ولادته دائماً، ويعلم بذلك أهل ” العين البيضاء ” بجوار نصيبين قبل كل شيء، ماء العين مشروب وبارد، والناس ترتاح إلى العين والنهر الفعلي، والعشاق أدرى بذلك، والقاجاغجية حين يعبرونه، وقبلهم الثوار منذ أيام العثمانلية والفرنساوية، وجب فرنسا بجوار قامشلو ” والمؤلف نفسه سبح في هذا الجب داخل النهر “، وهو يعلم بذلك تماماً، ولكن للأتراك فيما يذهبون إليه شئون وشجون، عبر التصرف بمصير النهر، في حبسه، وتلغيمه، والتصرف به، وهو يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة صيفاً، جرّاء حبسه، ويبقى المرئي فيه أشبه بمجرور، كما يعلم أهل قامشلو، وهو يعبر تحت الجسرين وجسر بشيرية.
صوت: هذا كلام تقريري، جغرافي وسياسي كثيراً ؟
صوت: بعض التقرير لا بد منه في بعض الأمور، لإيضاح أمور أخرى لا تنفصل عنها.
صوت: كأن الناس لا تعرف قيمة النهر، وهم يخلطون بين مائه النظيف وسماحهم لمجاريرهم في أن تختلط به، وهم ينفرون منه بعد ذلك.
صوت “من الزاوية” : هنا تكمن الحكمة الكبيرة، حكمة مفارقات الناس، وحكمة أهل قامشلو.
صوت ” من الزاوية المقابلة “: ما ينفرون منه هو فعلهم وعملهم، والنهر مرآتهم و..
صوت ” من الوسط، وهو نفسه من سرَد حياته “: سنتابع أكثر، هذا النهر يا سادة، يا أهل الماء والهواء والتراب والنار، يمكن أن يشكل تاريخ قامشلو، وهو يشق قامشلو، وحتى بين الذين يسمون أنفسهم بالغربية والآشيتية من الكرد : الأولون غربه والآخرون شرقه، وهذا من عجيب أمر الكرد وطرافتهم وخرافتهم، رغم أنه حتى الآن ورغم اعتباره مجروراً أحياناً، يكون ثروة لمن يسقون بساتينهم أو أراضيهم، والجواميس التي تنتعش فيه.
” كأنه يسعل، وهو يتلكأ ” إنهم لا يصدقون متى يعودون إليه، ويختارون بقعة بجواره، في ليالي الصيف خاصة، وفي الشتاء يتأملونه، منتظرين الصيف من جديد، وهم أنفسهم لا يصدقون متى يرمون فيه أوساخهم وزبالتهم أيضاً، ويقولون بتأفف وقرف: يا للقذارة .. يا للقذارة .
” تستمر الأصوات في الخارج، وهي أشبه بارتطام الأمواج “
صوت: لكنه لا شأن له بكل ما يقولون ويفعلون وما هم عليه الآن .
صوت” بحدة ملحوظة “: كيف لا شأن له بهم يا شبيهي المائي ؟ لو لم يكن له شأن لما كان حاضراً باسمه وما يتردد عنه هنا. لا بل إن ما يجري يمكن أن يعرَف من خلاله. إنه تاريخ حي لقامشلو وأبعد من حدود قامشلو، لا بل إن قامشلو كانت هبة جغجغ أيام زمان.
صوت: ألا ترى أن المؤلف مبالغ هنا كعادته في أمور كثيرة، وهذا إحراج للمخرج الذي قد لا يعلم شيئاً بأمر جغجغ، والذين يجسدون أدواراً تعنيه ؟
صوت: وهل الحديث بأن الناس غير مبالين بنهرهم مبالغة ؟ هل الحديث بأن أهل قامشلو من الذين يرمون زبالتهم أو يظهرون قرفهم منه، هم سبب كبير في ذلك؟
صوت: لا تنسى دور السياسة في ذلك .
صوت: لكن علينا ألا نعتبر السياسة أساس كل شيء ” متوقفاً قليلاً ” وخاصة حين يعتبر البعض لا بل الكثيرين السياسة حجة لتصريف كل شيء من خلالها، وكأن الاهتمام بالنهر سياسة، ورمي الأوساخ فيه سياسة، ومحاولة سد النهر وتجفيفه كلياً سياسة، وليس وعياً اجتماعياً، ولا دخل للثقافة في كل ذلك.. السياسة موجودة، ولكن علينا أن نميز يا نظيري المائي بين السياسة والثقافة والمجتمع، لئلا يختلط الحابل والنابل.
صوت: كما هو حال قامشلو اليوم تماماً .
صوت : لا بل يظهر النهر لامبالياً بهم، وهم لا يكفون عن كتم أنفاسهم بأوساخهم وزبالتهم، وكأنه ليس نهرهم.. أليس هذا بغريب عجيب؟ جغجغ للجميع، وما هو عليه يخص الجميع، إنه حياتهم وموتهم، حكايتهم وروايتهم وخرافتهم، الكثير مما يتنكرون له في العمق.
صوت: لكنهم ناسون أن هناك نهراً، ناسون أن جغجغ لا يقطع قامشلو من شمالها إلى جنوبها فقط، وإنما يشهد على كل شيء، ومنه تؤتى الحكمة رغم كل بؤسه .
صوت: ولكنهم على دراية تامة أن جغجغ قائم، ويعلمون بأمره، سوى أنهم مقطوعو الجذور بحقيقة النهر، بما يقومون به، لأن ما يرمى في جغجغ هو الذي يعرّف بحقيقة أمرهم كثيراً ..
صوت : هل يعني ذلك أن المؤلف لم يبالغ حقاً فيما قاله ؟
أصوات متداخلة معاً: للمؤلف جغجغه، لكلٍّ جغجغه، والمؤلف أراد أن يقول شيئاً عبر جغجغه.
صوت: ما يهم هو ألا ينفر المرء مما يتحدث عنه .
صوت: هنا بيت القصيد، بيت قامشلو المهجور، فهم ينفرون من أشياء كثيرة، وهي أشياؤهم وأشياء غيرهم، وهم يسمّون أشياء كثيرة ويحاولون التبرؤ منها، وهم يحيلون أشياء كثيرة خراباً، ويتهربون منها، وهم يتخاصمون على ما يخربونه، وكأنهم يتنكرون له.
صوت: يعني أن هناك الكثير الذي يمكن إيصاله عن طريق النهر، هناك الكثير الذي يمكن معرفته بالعودة إلى النهر، هناك الكثير والمخبَّأ الذي يمكن التعرف إليه من خلال جغجغ.
صوت: وهذا ما يجب أن يتضح لكل من أوتي نظراً وسمعاً، قل: حواساً خمساً، لأن لجغجغ حتى الآن أكثر من خمس حواس، رغم ما يشاع عنه، كما يعرفه أهل قامشلو، ومن يعلم بحقيقة قامشلو، ومن رأى جغجغ من قبل ومن بعد .
صوت: كأنك تترجم ما يريد أن يقوله المؤلف، وما يجب على المخرج أن يهتم به.
صوت: لا بل ما يجب على كل ساكن قامشلو بالقرب من جغجغ وبعيداً عنه الأخذ به .
” أصوات ارتطام أمواج تعلو وتغطي على كل شيء “
مشهد ثالث
( اللوحة ذاتها، إنما لا أثر للضفدعة، لأن ثمة مخلوقاً يشبهها بحجم كبير، على خشبة عالية، وأسفل اللوحة مباشرة، في وضعية الضفدعة مواجهاً جمهور الصالة، وهو في قناع ضفدعة، بينما رجل الطاولة، فقد أبعد الطاولة إلى الزاوية، وبقي الكرسي وهو يدقق في الضفدعة )
الضفدعة: قرررر ..!
رجل الكرسي: لكم اشتقت إليك أيتها الضفدعة ..
الضفدعة : قرررر ، أكثر من من ؟
رجل الكرسي: اشتقت إليك دون أن أسمّي أحداً .
الضفدعة” وهي تتحرك في المكان “: لأنه لم يعد هناك من تطمئن إليه .
رجل الكرسي ” محركاً رجليه “: ربما كنت محقة أكثر من ..
الضفدعة: أكثر مِن مَن ؟
رجل الكرسي : من نفسي أنا بالذات .
الضفدعة: قرررر، ولكنني هنا بفضلك، كما هو النهر الذي قدّمته قبل قليل، وهذا يجب أن يقال.
رجل الكرسي : جغجغ والضفدعة قبلي أنا وقبل أي مؤلف يدعي أنه يعرف أكثر منكما .
الضفدعة:قرررر..قرررررر… قرررررر .
رجل الكرسي: ما بالك وأن تنقين.. قرررر .. ما الذي ألهمك بـ قررررر ؟
الضفدعة: ما قلته وتقوله، إذ لأول مرة أجدني متماسكة وأنق دون أن يرميني أحدهم بحجر.
رجل الكرسي” ينقر على الطاولة، ولحظة التدقيق يظهر أنه يحمل قلماً عادياً “: قلمي أنا أيضاً ينق، أنا أنق، وكل من يريد أن يتكلم خلاف الآخرين يعرَف بالنقيق.
الضفدعة” تحاول الارتفاع عن المكان، في حركة وثب والعودة إليه”: تدفع بي إلى أن أنسى ضفدعيتي يا…
رجل الطاولة : قولي رجل الطاولة ..
الضفدعة: قرررر، ولماذا رجل الطاولة، أهو اسمك، أو ما تراه اسماً مميَّزاً به ؟
رجل الطاولة: الاثنان معاً . فما أصعب أن يعرف أحدنا باسم يليق به، وليس في مقدور أي كان أن يعرَف بالطاولة، ويكون عنوانه الطاولة، لا بل يجعل حياته وموته من خلال الطاولة.
الضفدعة: قررررررر، هناك ما يجب ضبطه، قررررر، هناك ما يجب إيضاحه، فهناك طاولة القمار، وطاولة الطعام، وطاولة قطع الخشب وفرم اللحم و….
رجل الطاولة: قررررر، سأتصرف مثلك، إن سمحت لي، فهذه الأوراق التي ترينها تعني أنني رجل طاولة، وأن على هذه الطاولة أكون امرئاً آخر و..
الضفدعة: قرررررر، قرررر، نسيت الأهم من كل ذلك، يا رجل الطاولة، أعني بذلك الطاولة التي ترسَم وتوضع وتقرّر عليها مصائر الشعوب والأمم والإنسان الواحد نفسه .
رجل الطاولة: ذلك ما يبقينا قريبين من الطاولة، فموت الإنسان وحياته يوقَّع عليهما من على الطاولة، والكتابة حياة وموت، والتفكير ملازم لطاولة ما، وها نحن هنا عبر الطاولة.
الضفدعة: لا تتشكسبر علي؟
رجل الطاولة ” باستغراب “: تتشكسبر ؟
الضفدعة: نعم، تتشكسبر، وما الغرابة في ذلك، ألا تقولون : تتعنتر علي، تتأفلم، تتسينم، تتكهرب، تتمغنط،فلماذا لا يجوز استعمال : تتشكسبير، بدلاً من قولك: لا تجعل من نفسك شكسبيراً علي.
رجل الطاولة” مع ضحك خفيف “: وما صلتك بشكسبير، أهكذا تعرفينه؟
الضفدعة: قرررررر، قررررر، يا لأمركم العجيب! وما الفرق بيني وبين شكسبير، بيني وبينك وفقاً لمبدأ الطبيعة؟ فما يعرفه شكسبير عن الضفدعة، يمكن أن تعرفه الضفدعة عن شكسبير، أو عنك، وأحياناً أكثر من كليكما، لأنكم يا بني البشر تنسون ارتباطكم بالطبيعة، وتزعمون أنكم تعرفون عن الحيوانات أكثر مما تعرفه الحيوانات عن نفسها، بينما تكونون بعيدين عن أنفسكم كثيراً، ثم ألم يقل فيلسوفكم سقراط: اعرف نفسك ؟ ولا أدري ماذا كان يعرف سقراطم عن الضفادع والسحالي والديدان وأفراس النهر والضباع والصقور..الخ، ليقول ما قاله .
رجل الطاولة: لقد بلبلت علي أفكاري.
الضفدعة: لا بد أنها مبلبلة في الأساس، أما أن تبلبل ضفدعة، ضفدعة وليس غيرها، أفكار رجل معتد بنفسه، فهنا السؤال الغريب، وهو بالكاد يعطي اعتباراً للضفدعة .
رجل الطاولة: علِم أيضاً، علم يا ضفدعة .
الضفدعة: قررررر، حتى وأنت في وضعك البائس ؟
رجل الطاولة: المهم ما يتقرر، ويقدَّم قبل كل شيء أيتها العزيزة الضفدعة و..
الضفدعة: قرررررررر، رجاء، دعك من كلمة ” العزيزة “، فهذه أولاً لا تخصني، ولا أتشرف بسماعها، لأن حيوانيتي لا تسمح بتقبلها بسهولة، وثانياً، لأنها تعنيكم أنتم يا رجل الطاولة، وما يتم ابتزازه من خلالها، يقول أحدكم للمرأة، يا عزيزة، ومقصده كيفية الإيقاع بها، يخاطبها يا عزيزتي، ولا يصدق متى ينال بغيته منها، نادني يا ضفدعة ودعنا في الموضوع.
رجل الطاولة: أعترف هنا أنك أكثر تركيزاً مني على ما يشغلنا اليوم و..
الضفدعة: قررررررر، والصحيح على ما يشغلك أنت وليس أنا يا رجل الطاولة، حتى إذا كنت موجودة باسمك هنا، وأتكلم من خلالك، ولكن لي طريقتي الضفدعية، لي كياني، كما كان أسلافي وتاريخ كل سلالاتي من الضفادع المعروفة والمجهولة من قبلكم، فنحن كما نحن، ولأحطك علماً بما نحن عليه، فأنا أنتمي إلى هذا المكان، ولدي الكثير مما يخصك ويخص سواك في هذا المكان، ولهذا يمكننا أن نتحدث وكل منا في موقعه وما هو مطلوب منه.
رجل الطاولة” يضحك قليلاً “: لم أضحك من روحي منذ سنوات وسنوات، ولقد حفَّزتني على الضحك من أعماق روحي، لأنك جعلتني أفكر في حدود المطلوب مني، ولكل منا حدوده.
الضفدعة قرررررر، الحدود…الحدود… الحدود ” تنط في المكان ” قررررر، تلك هي المسألة، أين هي حدود كل منا إذاً؟ لنتحرك اعتماداً على الحدود التي كانت سبباً لهذا اللقاء .
رجل الطاولة: شوقي إلى الكلام في زمن رخص فيه الكلام كثيراً..
الضفدعة: قرررر، هذا كلام قديم، فالكلام كان أرخص سلعة بين البشر. هناك جبال من الكلمات، وأطنان من الأوراق والوثائق والمعاهدات والاتفاقيات والمخطوطات المعروفة والمجهولة، وكلها كلام في كلام في كلام وكلام لا يتوقف: مقروء ومسموع ومكتوب، ويبدو أنكم يا رجل الطاولة، من كثرة شغفكم بالكلام، وأنتم تتباهون به، وبه تعلنون عن أنكم مميَّزين عن كل المخلوقات، نسيتم حقيقتكم، بينما نحن فخلافكم، فأنا الضفدعة على سبيل المثال، لكل نقيق لي علامة ومغزى، ولا داعي للسؤال عن مقصد النقيق بين ضفدع وضفدعة، بين ضفدع وآخر، نحن الضفادع نتفاهم بالقليل من النقيق: لغتنا الخاصة، مجتمعنا، وما قل دل، أما أنتم، فلأنكم تكثرون من الكلام، تكونون بأمس الحاجة إلى الكثير من الوقت لتكونوا في النقطة التي ننطلق منها نحن الضفادع وأي كان منا، نحن جماعة ” البكماوات “، وهذه بدعة أخرى لكم.
رجل الطاولة” يقهقه لبعض الوقت “: لقد أفحمتني يا ضفدعة.
الضفدعة: ليتك تحدد قصدك بـ” أفحمتِني ” ؟
رجل الطاولة ” صمت لبعض الوقت، مع حركة رأسية في أكثر من اتجاه “:أفحمتني يعني أفحمتني فقط.
الضفدعة: وهذه إحدى مشاكلكم الكبرى، إذ يظن أحدكم أنه واضح فيما يقول بينما الآخر خلافه.
رجل الطاولة: آآآآه ، تذكرت، إنها تعني التالي: لقد غلبتِني .
الضفدعة: قررررر، لا بأس أن أتلقى منك هذا التعبير، رغم أنني الضفدعة، ومنتمية إلى عالم البكماوات غير مقتنعة به، لأن ليس بيننا من يَغلب ومن يُغلب، إنما هناك علاقة وحدود، لا قواعد موضوعة يلتزم فيها البعض ويرفضها البعض على سواه، ويستفيد منها الآخر.
رجل الطاولة: هو ما ذهبت إليه، ولهذا أردتك في هذا المكان .
الضفدعة: أردتني ؟ هذه كلمة مخيفة يا رجل الطاولة ! من أنا لتريدني بالله عليك ؟ ثم إن الكلمة، ومن خبرتي بعالمكم الإنسي: تعني أنتِ أو أنتَ لي، أو في تبعيتي.
رجل الطاولة: يبدو أننا لن ندخل في صلب الموضوع سريعاً.
الضفدعة: هذا عائد إليك، بل إليكم ” أرأيت كيف بلبلتني وأنا أسمعك صوتي بطريقتك؟ لكم تصيبون بالعدوى عالمنا الحيواني، وأنتم تقررون عنا ما تشاؤون.
رجل الطاولة: أقر لك بذلك، أقر، أقر.
الضفدعة: حسن إذاً، قررر، هل يمكن البدء إذاً ؟
رجل الطاولة: ألا ترين معي يا ضفدعة أننا قطعنا شوطاً لا بأس فيه في موضوعنا ؟
الضفدعة:قرررر، قد أوافقك، ولكن ذلك يعنيك أنت ولا يعنيني، لأن كل شيء عندنا محسوب بدقة، وما خضنا فيه، كان بسببك، أي لكي تعرف أنت نفسك، ومن تسمعهم صوتك ما المطلوب.
رجل الطاولة: موافق، موافق..يا ضفدعة جغجغ.
الضفدعة: قررررر، وهل لي أن أقول يا رجل جغجغ ؟
رجل الطاولة: لا اعتراض لدي، وإنما لكي نستطيع التواصل أكثر معاً .
صوت: ادخلا في الموضوع، ولا تطيلا، لأن المسرحية لا تتحمل الإطالة .
الضفدعة: أرأيت يا رجل الطاولة، ويا رجل جغجغ كيف اعترض الـ…
رجل الطاولة: هو صوت المخرج .
الضفدعة: أرأيت كيف ووجهت بما لم تتهيأ له !
رجل الطاولة: لأكون معروفاً أكثر، ناديني منذ الآن بـ” المؤلف “.
الضفدعة: قررررر، ليكون العنوان مكتملاً.
المؤلف: لنكون قادرين على القيام بأدوارنا أكثر.
صوت: كفى، سنسدل الستارة إن لم تباشرا .
المؤلف: أتعرفين يا ضفدعة مدى انشغالي بجغجغ .
الضفدعة: قررررر، أقدر ذلك، وخصوصاً الآن..
المؤلف : خصوصاً الآن أكثر.
الضفدعة: ولا بد أن لديك أسبابك يا مؤلف ؟!
المؤلف: المؤلفون عوالم غريبة يا ضفدعة وخصوصاً بالنسبة إلينا.
الضفدعة : لماذا لا تتحدث عن نفسك ؟
المؤلف: أمثّل عالمي البرّي وأنت تمثلين عالمك النهري.
الضفدعة: قرررر، قررر، لم يعد برك براً ولا جغجغي نهراً، ورغم ذلك لا بد من التفريق بين برك ونهري، فما آل إليه وضعي نهري يتصل بوضع برك قبل كل شيء، والذين يعيشون على برك فقدوا الكثير من لغة النهر، ويبدو أنهم يريدون دون أن يريدوا أن يأتوا على كل شيء.
المؤلف: أوه يا ضفدعة، أنت تلهمينني، وأعترف بأنني الآن في نظر الكثيرين منهم نقاقاً.
الضفدعة:قرررررررر، عدنا إلى النقيق. لماذا النقيق ؟ ألا تكفيكم لغتكم، وحدود تحركاتكم وما تقولونه من خزعبلات تعنيكم، لتأتوا علينا، فتشركونا معكم ؟ لكَم أنتم أنانيون أنانيون و..
المؤلف: تخاطبينني يا ضفدعة وكأنني أتصرف مثل غيري ؟
الضفدعة: لتحسن الإصغاء إلي أكثر، وألا يغرنك أنك بعيد عن هؤلاء فتنتشي, قرررر. هنا تكمن المشكلة، مشكلتكم أنتم، وخاصة على امتداد هذا البر النهري الذي أعلم به. من تتضايقون منه تعتبرونه نقاقاً أو عوّاء أو نبّاحاً أو ثعلباً أو عقرباً أو حيَّة أو أي حيوان لا صلة له بينكم، وبالطريقة هذه لا يعود من مجال للفصل في أصل المشكلة، لأن مجرد الحكم بهذا السلخ، وقوع في مشكلة كبيرة، فما يجري يخصكم وليس أي واحد من عالمنا الحيواني، كما هو الآن، فندفع نحن الثمن غالياً إزاء هذه التجاوزات الفظيعة. كما هو حالك أنت الآن. إذ ما علاقتك بالنقيق؟
المؤلف: إنني أنقل إليك بعضاً مما يؤلمني يا ضفدعة.
الضفدعة: عالمكم أصبح مخيفاً يا مؤلف، وجغجغ الذي كان يهدر ويترقرق ويجذب العشاق والناس إليه في ليالي الصيف، قد فقد الاتصال بكم، صار منبوذاً وفيه الكثير مما يخصهم.
المؤلف: لعلهم نسوا أنفسهم يا ضفدعة.
صوت: ركّزا على هذه النقطة !
” يلتفت الاثنان إلى مصدر الصوت الذي يملأ فضاء الخشبة ”
المؤلف: أنظر إلى جغجغ فأتألم يا ضفدعة، لقد أصبح مهجوراً. أصبح من على بره مجانين يا ضفدعة، كل له مواله ومقاله .
الضفدعة: بل لم يعد هناك من له قدرة على التفريق بين العاقل والمجنون.. حتى الأمس القريب كنتم تقولون: خذوا الحكمة من أفواه المجانين، ويعني ذلك أن وجود المجنون حالة صحية، رغم أن الكثيرين لا يريدون أن يكونوا مجانين، وإنما يريدون المجانين، ولا يكونون هم المجانين، ليجدوا راحتهم من خلالهم، وهذه أنانية قاتلة، والمجنون مطلوب، ولكنه مشبوه عند المعتبر عاقلاً، ولكي يسمعه الناس جيداً، يجب على هذا العاقل أن ينتبه إلى أن المجنون لا ينفصل عنه، لذلك الصحيح الآن أكثر من أي وقت مضى أن تقول: خذوا الحكمة من نقيق الضفادع .
” المؤلف يضحك بصوت عال “
الضفدعة: قرررررر، كأنك تسخر مني وقد رضيت أن أجالسك وأسمع الآخرين حقيقة نقيقي؟
المؤلف: حاشاك حاشاك .
الضفدعة: ماذا تقصد بحاشاك ؟
المؤلف: أي أستثنيك، ولا أقصدك بذلك.
الضفدعة: قرررر، لقد ارتفعت درجة حرارتي، لأنني أشعر أن الخطر يتهددني، لأنني منذ زمان طويل، مثلك وأكثر، حرمت من الهدوء ومن ماء نقي، ولم أنعم بالعشب الأخضر، إنما ما يثقل على جغجغي ويزيد في بؤسه ويتهددنا.
المؤلف: يعجبني أن تقولي بأن نأخذ الحكمة من نقيق الضفدع .
الضفدعة: يعجبك أو لا يعجبك، ذلك هو المسار الذي يمكن النظر فيه.
المؤلف: هذا يصعّب الموضوع وكيفية توضيحه لمن لا يملك أدنى استعداداً لتفهم حدوده.
الضفدعة: لأن الضفدعة كأي حيوان يعرف حدوده، تعرف حدودها، ونحن لا نعرف حدودنا فقط، بل نقدّرها، وحب الوطن الذي تتباهون به كثيراً ما تخرقون حدوده، ويكون مصيبة للكثيرين وأداة للبعض للوصول إلى ما يريد. نحن الضفادع لا نغادر موطننا حتى نموت فيه، المكان الذي نولد فيه، نكبر فيه ونموت فيه.
الضفدعة: هذا اتهام لي قبل أي كان ؟
الضفدعة: ليس من الضرورة أن أفصّل كما تصرفون، إنما أعتمد على نقيقي، لغتي فقط.قررر!
المؤلف: أنت تعممين يا ضفدعة.
الضفدعة: لا أقصد أناساً محددين، ولكن أقول عن أن حب الوطن دعوى مزيفة للكثيرين، إننا لا نسيء إلى بيئتنا، ولدينا قدرة على تحمل المتغيرات أكثر منكم. لدينا قناعة تكفينا لأن نعيش ونمارس نقيقنا، ولكل ضفدعة نقيقها، ولكل نقيق تعبير خاص، نقيق للمغازلة، نقيق للاجتماع، نقيض للإعلام، نقيق للعب، نقيق للعودة إلى الصمت والهدوء كما ذكرت سابقاً، يغرفنا المستنقع وبركة الماء والغيضة والنهر..أترى كما نمتلك خبرة عن الماء وأحواله، ونحن نجمع بين البر والماء. وجغجغ رغم كل ما تعرض له من تغيرات لا يمكننا مفارقته، حتى وأنتم لوثتموه كثيراً، فنحن جزء منه، وأمركم عجيب، وأنا كضفدعة كائن برمائي، ولكنكم أحياناً لا تستطيعون التأقلم حتى مع خاصيتكم البرّية، بل تسيئون إلى البر وكل ما ينتمي إليه، فتسيئون إلى أنفسكم بالتالي.
المؤلف: أحب أن أسمع المزيد المزيد منك يا ضفدعة.
الضفدعة: أخشى أن يصيبني مكروه دون أن أعلم، وألاحق من شخص يترصدني وأنا غارقة في بعض التفاصيل اضطراراً، أخشى أن أنسى نوعي الضفدعي وأنا أجاريك أحياناً في بعض ما يهمك، ويكون الثمن فادحاً، فلا أعود قادرة على معايشة ضفدعيتي، وأنم بارعون في الإيقاع بين الكائن ونوعه، بين ذكره وأنثاه، بينه وبين اسمه. إن لدينا تاريخاً سيئاً جداً لعلاقاتنا معاً مع بني البشر، نحن نعلم عنهم أكثر مما يعلمونه عنا، وتلخيصنا بالنقيق إهانة لنا يا مؤلف.
المؤلف: وهأنذا أصغي إليك يا ضفدعة، وهذا اعتراف بخصوصيتك .
الضفدعة: تقول اعتراف، ويعني ذلك أنك كنت تجهل ما نحن عليه قبله .
المؤلف: إنما أعني أن ما تقولينه صحيح.
الضفدعة: نقول الصحيح دائماً يا مؤلف، لأننا نعيش خاصتنا وعلى قدر ما لدينا من علم بما حولنا نترجمه إلى نقيق، ونحن جماعة الضفادع نتواصل فيما بيننا من خلاله، كما أعلمتك.
المؤلف: جغجغ صار مجهولاً يا ضفدعة، لأن أهله نسوا أنفسهم فعلاً.
الضفدعة: هناك أشياء كثيرة عليك بمعرفتها، وعلى هؤلاء الذي يهتمون بأمرنا أن يعرفوه وهو أن ما يظهر في جغجغ غير ما هو في القاع، جغجغ لديه أسرار مدن كاملة، وقامشلو منها، أما عن قامشلو، فثمة حكايات من قتلوا على ضفافه، ومازالوا يقتلون ويرمون فيه، أو يدفنون سريعاً أسفل حافته، ومن يرمى فيه حياً حتى يموت فطيساً، ثمة من تتخلص من جنينها وترميه في أسفله، من يموت على حافته دون أن يعلم بحقيقته أحد، من هو شاهد على كل ذلك ويتكتم عليه، ما في القاع وينتظر من يكشف عنه، وعمره مئات السنين وليس مائة سنة، يصدم الكثيرين، وأنت ماذا كتبت عن جغجغ وعن ضفدعة جغجغ، وفي صمته بلاغة؟ القليل القليل.
المؤلف: ها أنت قلت وأوجزت يا ضفدعة.
الضفدعة: قررررر، الإسهاب والإيجاز خاصتكم، قلت ما يجب قوله، ونحن لا نسهب أو نوجز، لكل نقيق لنا علامة وإشارة، ومن الصعب جداً عليكم أن تفهموا ذلك. لا بل المصيبة هي أنكم تنظمون كتباً عن الحيوانات وخصائصها وبالألوان، وطباعها وبالتفصيل، وتعلمون أطفالكم، وتشرحونها وكأنها مطواعة ودون رحمة أو تردد، وتنسون الأهم الأهم، وهو أن تتعرفوا إلى أنفسكم، وأنتم تسقطون أفكاركم وتصوراتكم وأوهامكم علينا بلا هوادة، ولهذا تتخبطون.
المؤلف: أقدر فيك هذا النقيق يا ضفدعة، ولكن ما حيلتي، وما ذنبي في كل ما يجري ؟
الضفدعة: قرررر، ثبّتْ ذلك، وليتك تستفيد مما سمعت، وتوصله إلى غيرك بعدها.
المؤلف: كل ذلك في الحفظ والصون .
” صوت يملأ فضاء الخشبة “: يكفي حتى الآن، انتهى الوقت المخصص لكما.
الضفدعة: قررررر.
” تختفي الضفدعة ويبقى رجل الطاولة في محله، وهو يتأمل أوراقه ” .
مشهد خامس
( خشبة المسرح شبه معتمة، يبدو رجل الطاولة مركوناً إلى زاوية، ووجهه إلى الحائط، وكأنه منكب على ورقة يحاول الكتابة، وأصوات في الخارج وهي تقترب حتى تكون في الداخل، لتتداخل ألوان مختلفة مع تنوع الأصوات )
صوت: ما الذي دفع به لأن يغيّر مكانه.
صوت: لقد أتعبته مجالسة الضفدعة وما سمعه عن جغجغ.
صوت: هذا يشير إلى مشكلة مستعصية، فأن يعطي كل هذا الوقت لضفدعة، يعني أنه يعني قطيعة مع المنتمين إليه .
صوت: ألا يستحق الرثاء ؟
صوت: ومن يقدر على رثائه وهو في هذه الحالة؟ من في المدينة يصلح لأن يدرك حقيقة ما يجري، فلا يرثيه وإنما يكون قريباً منه؟
صوت: ربما هو نفسه لا يعرف أين يقيم حقيقة ؟
صوت: لقد تقاسمته أمكنة، مثلما أنه لم يعد قادراً بين النوم واليقظة، بين الحركة والسكون، لقد التبس عليه الواقع، أتراه مجنوناً ؟
صوت: الجنون فضيلة العقل الكبرى، وربما هو مجنون نفسه، وهو الموزع بين أمكنة كثيرة.
صوت: إنه حال البلد، حال قامشلو ونهرها، حال من يقولون صرنا مثل جغجغ، بينما هم سبب كل ما تعرض له جغجغ، إنما حال من يجهلون حتى جغجغ الذي مازال يجري، مازال يحتفظ بالحياة، ولو أن أهل المدينة هذه يشعرون بالحياة لتنبهوا قبل أن تنغلق عليهم السبل .
” أصوات أخرى تدخل، وهي تهمهم”
صوت: لنغادر المكان، فثمة من هم قادمون نحونا.
” صمت يغطي الصالة ، ينتبه رجل لطاولة “
رجل الطاولة: الشبح نفسه أم الطيف نفسه، أم الاثنان ؟
” ثمة صوت مركّب، وكأنه يخص أكثر من واحد، حيث يتراءى وجهان غير واضحي المعالم، وكأنهما مقنعان “: ربما هما اثنان حسبما أنت عليه .
رجل الطاولة: حالي كحال هذا الضوء الذي بالكاد يمكنني من رؤية يدي، الذي بالكاد يمكنني من أن أرى القلم بيدي، ويصعب علي النظر في أوراقي والكتابة.
وجه: لا تقلق كثيراً، أنت الذي بدأت ولعلك وصلت النهاية .
الوجه الآخر: بدأت من المشكلة وبقيت في المشكلة.
رجل الطاولة: أتحدث كرجل طاولة، ولدي كل هذه الأوراق .
وجه: باعتباري الطيف، أرى أنه يجب عليك التروي.
الوجه الآخر” بصوت متوتر”: هذه المدينة غاب عنها التروي، وتداخلت الصور والأصوات .
وجه: ولكن يا شبح، لا تغالي كثيراً، فما سمعناه يعني أن ثمة فرصة للاستمرار؟
وجه: أرى أن لديه ما يمكنه من الكتابة، فالمشكلة فيما هو عليه الآن، وعليه المحاولة.
الوجه الآخر: ليعلم الجميع، أن فرصاً كثيرة استنفدوها، وهم ينتقمون من بعضهم بعضاً، ينتقمون من أنفسهم، ينتقمون من الحياة نفسها، ينتقمون من كل ما يصلهم بالحياة، يتأففون والمشكلة ماثلة أمامهم، يتهربون منها، ويريدون حلاً، يتصايحون وينادون بالعقل، ينادون بالعقل ويستعملون ما ينفي العقل.. الحكمة في نقيق الضفادع فعلاً، في النهر الذي اسمه جغجغ.
وجه: كأنك تقف في وجهي يا شبح ؟
الوجه الآخر: بل أنا صنيع كل هذه المهاترات والشاهد عليها، وإذا أردت فأنا خصمك أيضاً إذا لم تدقق في هول الجاري .
وجه: لكل منا مساره .
رجل الطاولة: أنا لمؤلف، وعليكما أن تخففا من حدتكما .
الوجه الآخر: رجل الطاولة، المؤلف، صرنا مستقلين عنك، نحن الآن من يقرر مصيرك أكثر من أن تقرر أياً منا، ومن أردت تسميتهم.
رجل الطاولة: سأنهي كل شيء.
وجه: ربما هناك ما لم نصل إليه بعد.
الوجه الآخر: أنا الشبح، أنا الكابوس، أنا الحقيقة الأهم، لقد اتضح كل شيء، أي لم يعد من مجال للبحث عن الحقيقة حيث اختلطت الأمور، إلى إشعار آخر.
وجه: ولكن عليك ألا تنسى أن لك حدوداً فتوقف عندها.
الوجه الآخر: الحدود تداخلت وهذا يلزمني بأن أظهر.
رجل الطاولة: أين المخرج، ليأتي المخرج .
وجه: المخرج موجود ويسمعنا، معنا وإزاءنا.
الوجه الآخر: بعض منه داخلي، وبعض منه داخل الوجه المقابل، وبعض منه يخصك.
رجل الطاولة: أريد مخرجاً واحداً، هل أصبح هو نفسه منقسماً على نفسه. ما هذا؟
” ثم يلتفت “: أين أنتما يا وجهان ؟
” يتداخل الوجهان، كأنهما يتعاركان من خلال جلبة تستمر لبعض الوقت، بينما رجل الطاولة فيظهر في نوع من الذهول، ووجه صوب الجمهور، من خلال ملامحه المضاءة، ولا يريم حراكاً، كأنه تمثال، وعيناه مفتوحتان على وسعهما “
” يتلاشى الضوء ويختفي وجه رجل الطاولة، ويعتم المكان “
مشهد سادس
( اللوحة في مكانها، لا وجود للنهر وما من أثر للضفدعة، إنما ثمة ما يشبهها على حجرة بارزة أسفل اللوحة تقريباً، بينما يرجع رجل الطاولة إلى ما كان عليه، سوى أن الأوراق التي كانت موضوعة على الطاولة تكون متناثرة في أغلبها على الخشبة، والبعض منها مدعوك ومطوي وممزق، والضوء خفيف جداً، حيث يظهر الرجل ورأسه على حافة الطاولة وكأنه نائم )
رجل الطاولة” وهو يرفع رأسه ببطء شديد، وشفتاه مرتخيتان، ويفتح عينيه بصعوبة، ويداه مؤسبلتين، وهو يرفعهما، داعكاً عينيه بكفيه “: يا له من حلم مزعج، يا له ما حلم مزعج ..
” ومن ثم واقفاً كأنه رجل آلي، ويتحرك كأن جسمه منمَّل، وهو يحرك يديه في محاولة لتنشيط دورته الدموية دون أن يتوقف عن التثاؤب “: لا بل كابوس..” ثم يرتد إلى الوراء ، وينظر إلى الجمهور ويثبت عليه نظراته، وكأنه يخاطبه “: لا بد أنكم لاحظتم كل شيء ” يتثاءب، وهو يضرب براحة يده على فمه، مع صوت: أوووه “: ولكن هل لاحظتم، تابعتم كل شيء؟ أرأيتم ماذا تفعل الأحلام المزعجة، أم الكوابيس فينا باختصار..” ثم متحمساً، ومركّزاً أكثر على الجمهور”: لا بد أنكم عشتم، أم تعيشون أحلاماً مزعجة أو كوابيس على مقاسكم ” يحرك يديه وبصيغة سؤال “: ما الفرق بينهما؟ لا بد أنهما الشيء المخيف، أم المقرف ذاته؟ ” ثم مواجهاً الجمهور وعيناه إلى الأعلى “: لا أحد يتمنى أن يعيش الأحلام المزعجة أو الكوابيس . ” ثم يتحرك على الخشبة وكأنه يكلم نفسه”: كلهم يعيشون أحلاماً وأكثرها تكون مزعجة وكوابيس بشكل دوري، وتبعاً للزمان والمكان، فتكون أحياناً بديلاً عن الواقع نفسه، وربما هم الآن يعيشونها دون دراية ” محركاً يده اليمنى “: إنهم لا يريدون التصريح بحقيقة ما هم عليه، يا لطباع البشر الغريبة، يا لطباع الكرد الأغرب، ونحن أكثر ” يتوقف ويسأل”: ما المقصود بـ” نحن “؟ ليجيبوا هم، لعلهم، لعلنا نعيش من الكوابيس أكثر من الأحلام التي نتوق إليها أكثر، لعلنا أنفسنا كوابيس لبعضنا بعضاً، لعلنا مجرد كوابيس في الغالب، ولا نعترف بحقيقة ما نحن عليه.
” ثم مقترباً من الجمهور”: أترون كم أهذي أنا إزاء هذه الكوابيس ، نعم، قلت الكوابيس هذه المرة، ربما لأنني أخضع لحالة الخوف منها. أما تخافون الكوابيس ؟ لا بل الأحلام ذاتها، وهل يمكنكم أن تفصّلوا في أحلامكم، أن تؤاتيكم الجرأة على تسميتها؟ الأحلام الكثيرة صنعة العاطلين عن الحياة، أما الكوابيس” يواجه الجمهور ” فهي صنعة من يجهل حياته ويريد تعطيل حياة سواه. أوووه، يبدو أنني متأثر بما رأيت في منامي، إنما هل نمت ؟ هل يمكنكم أن تكونوا شهوداً؟ ولكن ما الذي يجزم أنكم لم تعيشوا أحلاماً مزعجة أو كوابيس، وأنتم مع الطيف والشبح وما رأيتموه؟ ” محركاً يديه ومتجهاً إلى وسط الخشبة ويمناه إلى الجمهور ” إنني أحب الحياة، رغم غزو الأحلام المزعجة وما كتبته وعشته، ولكم تؤلمنا الأحلام المزعجة، لأصحُ إذاً.
أين أنت يا مخرج، شاركني كوابيسي، والقليل القليل من ثمالة أحلامي؟ أين أنت أين أنت؟
” فجأة تهتز الخشبة، أو ما يشبه الاهتزاز وقهقهات “: ما هذا؟ أهي أحلام مزعجة أخرى، أم ما يجري في الواقع ؟.
” يستمر اهتزاز الخشبة ، ثمة أصوات من الخارج، وكأنها تصبح في الداخل، ويزداد الضوء خفوتاً، أصوات متقطعة تتردد: أحلام، كوابيس، بشر، نهر، جغجغ، ضفدعة، المؤلف، الجمهور، المخرج، الخشبة، الجمهور، المخرج، المؤلف، المخرج، المؤلف، جغجغ، ضفدعة، أنا من..حياة موت، موت، موت..ثمة أصوات قصف لرعود وربما مدافع، وأزيز رصاص، وصراخ وزعيق، وأصوات نساء وبكاء أطفال واستغاثات، وهدير صاخب “
رجل الطاولة: أكان حلماً مزعجاً حقاً ؟ أكان حلماً مزعجاً ؟ هل من جواب، من يسمعني من؟
” ظلام تدريجي يغطي الخشبة، يتراءى الرجل وكأنه ينهار، وسط جلبة وتداخل أصوات مخيفة أكثر، وانقلاب الطاولات وتطاير الأوراق في الهواء، وسقوط اللوحة على الأرض، وسماع صوت لا يخفى: علي أنا الضفدعة أن أعود إلى جغجغي، يا للمجاني ” يسمع صوت ارتطام جسمها بالماء “.
الظلام الشديد يسود المسرح كاملاً، ثم صمت مطبق، يتخلله أنين متقطع .
لا تُسدل الستارة طبعاً !
( كما لو أن الجدار المقابل للمسرح انشق، ومن أسفل اللوحة، يخرج ما يشبه الطيف أو الشبح غير واضح المعالم بدوره، وهو يثبت نظراته على الجالس” وسنسمّيه رجل الطاولة “، وظهره إلى الجمهور، وسنسميه طيفاً، أو شبحاً عند اللزوم ).
الطيف ” بصور خفيض ومسموع “: ما كان عليك أن تستدعيني بهذه الطريقة، وفي هذا الوقت العصيب بالذات.
رجل الطاولة ” متنبهاً إلى الصوت بسرعة “: استدعيتك أنت، ومن أنت ؟
الطيف” بنوع من السخرية “: تُراك نسيت من يجب أن أكون، أنا شريكك فيما كتبت وتفكر فيه .
رجل الطاولة” وهو يرفع صوته مع ضعف لا يخفى “: ليس لي شركاء في كل ما كتبت، فكيف فيما كتبته حديثاً ؟ .
الطيف ” محرّكاً يده باتجاه الصالة للفت الأنظار “: انظروا إليه، تُرى كيف يمكنك أن تأخذ بقمحك إلى الطاحونة ولا تفكّر في الطحان ها ؟
رجل الطاولة” دون أن ينظر إليه، وكأنما يصرفه بحركة يده التي تحمل القلم “: ليس لدي قمح لأفكر في الطحان ..
الطيف ” بصوت مسموع أكثر “: إن ما كتبته هو قمحك، وأنا طحانك الذي لا يمكنك الاستغناء عنه، وأنا نخالتك، وإذا شئت فالكثير مما تجهل ولا تبرَّأ منه .
رجل الطاولة” مع بعض الفضول يرفع رأسه وينظر ناحيته دون تدقيق “: أوجز بالله عليك، فأنا لم أنم منذ ستين عاماً ..
الطيف ” رافعاً يديه وبثقة “: ها قد بدأنا نمثّل ونسلك الطريق المطلوب.
رجل الطاولة ” عن أي تمثيل تتحدث يا …
الطيف ” ببعض ابتسامة “: ناد يا طيف أو شبح، وإذا أردت فأنا المخرج حرفياً.
رجل الطاولة ” يحاول الوقوف، إنما يرجع إلى وضعيته السابقة “: أي مخرج وأي تمثيل ؟
الطيف” مستمراً في تحريك يديه “: ما كتبته حديثاً، ولأول مرة في حياتك كما أعرف، يعنيني، وأنا أعنيك أيضاً..
رجل الطاولة” ببعض الانتعاش في الصوت ” : ولكن ذلك قراري الخاص و..
الطيف” محركاً يده اليمنى ناحية الجمهور، وهو على بعد مترين منه “: بمجرد أنك سطّرت الكلمة الأولى، لا بل تخيلتها كنتُ موجوداً، فأنا الذي يمنح حياة لكل كلمة تكتبها وكما أقدّر..
رجل الطاولة” محاولاً الوقوف “: ولكن ..
الطيف” ملمحاً إليه بضرورة البقاء جالساً”: ابق مكانك لو سمحت، فلدينا وقت كاف لنتفاهم، ووقت التمثيل لم يبدأ بعد أساساً، إنما هناك إجراءات، لا بل بعض الضروريات التي يجب عليك وحتى علي أنا بالذات، أخذ العلم بها ..
رجل الطاولة ” شاعراً بنشاط ما غير أنه سهر طويلاً “: ضروريات.. أخذ العلم..و..
الطيف” باندفاع “: أنا هنا وبعيد عن الديار، وحتى لو كنت هناك، كان عليك باستشارة بعض الذين لهم خبرة في هذا المجال الذي تخوضه، أن تلتقي بسمير إيشوع، بأحمد شويش، بابراهيم يوسف بأنطوان أبرط، بعدنان عبدالجليل، بعيسى حنا، بأحمد اسماعيل اسماعيل..لأن ليس من المعقول أن تخوض هذه التجربة وأمام الملأ.
رجل الطاولة” ينظر ما حوله هذه المرة ، وبسخرية”: وتعرف أسماء من أعرفهم جيداً، ثم ما أدراك بهم بهذه الطريقة، وكلٌّ في مكان وله لغته .
الطيف” مع بعض القهقهة “: المهم هو أن هناك من تعرفهم، ولك صلة بهم.
رجل الطاولة” وهو يضرب الطاولة بيده “: إنما لا يجوز التصرف هكذا.
الطيف : بصوت مسموع أكثر “: ليس هم فقط إنما آخرون، لديك حديثاً قاسم بياتلي، ونوزاد ، وكڤال وآخرون على الخط، ولكل منهم تأثيره، وربما تكتب لتظهر أنك تستطيع مجاراتهم…
رجل الطاولة ” ببعض الغضب” : مهلاً مهلاً، إلى أين أنت ماض، وتلفظ أسماء بهذه الطريقة..
الطيف: إنها أسماء، ولهذا تهجأتها على طريقتي، وسمّيتها لأن أصحابها لا بد أنهم حاضرون معك بصورة ما، ثم إنني أعرف حدودي، وأنا أشير إليها، باعتباري داخلة في الموضوع.
رجل الطاولة” يلتفت إلى الوراء، ثم يواجهه مقاطعاً إياه “: ولكن ذلك غير جائز.
الطيف: لا بأس لا بأس، ولكن كان عليك التأني والتروي.
رجل الطاولة : كلنا نمثل، وإن لم نمثل، لا بل إننا عندما نمثل نتوقف عن التمثيل، فأن نمثل يتقمص أو يجسد كل منا دوراً، أما ألا نمثل فلا أحد يعرف كم عدد الأدوار التي نمثل في اللحظة الواحدة: بين ما هو ظاهري وما هو خفي، وما بينهما .
الطيف : يبدو أن ظهوري كان مجدياً إذاً، وها أنت تتحدث فيما هو مطلوب قوله ؟
رجل الطاولة: ولكنني لم أرسل في طلبك.
الطيف: لا لزوم لهذا الطلب، فمثلي يحضر دون ميعاد، وألازم كل كلمة وحركة جسدية، وهذا هو عملي، مثلما أنك تكتب دون ميعاد، وتظهر لك أفكارك بأشكال وألوان تمثل أمامك وتحاورك، وإذا أردت، أو لم ترد، فهي تنبه الآخرين إليك، وأنا بسببها هنا.
رجل الطاولة: إنما أسماء من ذكرت، دعوى تعالم.
الطيف: لا بل من صلب الموضوع، فأنت لا تعلم بحقيقة ما تقوم به، وأنت مندمج بعالم لعله يقلقك ويؤلمك، ولا بد أن هؤلاء لهم حضور داخلك مؤاساة أو محاباة أو معاناة، وأنت نفسك أشرت إلى التمثيل ودرجاته، لذلك هناك صِلات قوية مع كل اسم وأنت منكبٌّ على الكتابة.
رجل الطاولة : كأنك بدأت تقنعني .
الطيف: ليست مسألة إقناع، إنما حقيقة أخرى أنت تهتم بها بطريقتك، وأنا بطريقتي، وهذا المكان معد للمسرح، لا بل إن ثمة ما يشير إلى موضوع يمكن البحث فيه من خلال وجودك هنا وهذه اللوحة ” يشير إليها بيد معلقة في الهواء “.
رجل الطاولة: كأنك الآن تعرف كل شيء عني.
الطيف: لا بل أعرف عنك أحياناً أكثر مما تعرفه أنت عن نفسك، وأنت بين قامشلو ودهوك.
رجل الطاولة” محتداً “: مهلاً مهلاً، أنا لا أكون الذي تسمّيه باسمه، إنما شخص آخر، وخلطك بين ذاك الذي تسميه وما تراني عليه، يشير إلى جهلك بأصول التعامل، وهذه وشاية مكانية.
الشبح: لقد أصبحت شبحاً، لأعلِمك أنك يجب أن تصغي إلي، وذلك هو الرهان لترى نفسك في وضع آخر، فما كتبته يعنيني ويعنيني طيفاً وآخر.
رجل الطاولة” ساخراً “: الطيف الذي صار شبحاً، والشبح الذي يصبح ..
الشبح: الذي يصبح طيفاً أو يبقى خلافهما، وهأنذا أعلمك، ونحن على المسرح، أنك جاهل بجسدك فيما تقول وتفعل، اسأل إذا أحببت قاسم بياتلي الذي مَسرح الجسد كثيراً، أو فلأسمعك حقيقة ما تهتم به وتتجاهله هنا، وهو لزوم التزام المرونة، فأنت تمثّل الآن ..
رجل الطاولة ” ببعض غضب ” أمثل مع شبح .
” أصوات متداخلة في الخارج، لا يُطمأن إليها “.
الشبح: ” ماداً يده باتجاه مصدر الأصوات كأنها تأتي من وراء الجدار ” : اسمع.. اسمع يا رجل الطاولة، هذه الأصوات المغمغمة والمزعجة كثيراً، أصوات بشر، ستصدم بهم إن رأيتهم واقعاً، والأصوات تترجمهم، الأمر الآخر هو الاستغراب مما أنت فيه: ألا تعلم أنني نظير شبح هاملت؟
رجل الطاولة” ببعض السخرية “: والآن شكسبير؟ أنت تستفزني أمام هؤلاء الناس في الصالة وهم ربما ينتظرون أقل إشارة أو حقيقة تخصني، ليبدأوا في نسجها على طريقتهم و..
الشبح: أو تريدهم أن يتكلموا كما تريد؟ إنهم أيضاً يمثلون فيما بينهم، وعلى بعضهم بعضاً، وداخلهم، وبمفردهم، حسب المكان والزمان، ولكل منهم شبحه وطيفه، لا بل أشباحه وأطيافه، ومسرحه النفسي، ومخرجه الذي لا يستقر، أما الشبح المسمى فليتك تعرف أنه لولا الشبح لما كان هاملت، ولا كان حديث عن شكسبير الذي عرَّفنا بهاملت من خلال شبحه وما يكونه.
رجل الطاولة” حاملاً القلم بيده وهو في حالة إطراق “: في هذه ربما جعلتني أفكر بطريقة أخرى.
الطيف: أن أحضر على طريقتي أن أصبح شبحاً، أو يكون المخرج أياً منا أو كلينا، أو أنت نفسك تصبح شبحاً أو طيفاً وأنت غير دار بذلك، أو مخرجاً من دون علمك هنا وهناك .
رجل الطاولة : هذا مثير من حيث لا أعلم و..
الطيف ” الآن جاء دوري مجددي “: لنختصر، أي مسرحية كتبتها وكيف ستؤدى ؟
رجل الطاولة ” بنوع من الحماس “: المخرج الفطين لا يحتاج إلى السؤال كثيراً، لا بد أنك استدعيت بعض الأفكار المتعلقة من خلال المكان واللوحة.
الطيف ” مع بعض القهقهة، ثم الهدوء “: ما أراه عبارة عن لوحة، و” يقترب منها ” عبارة هي ” نهر جغجغ “، و..” يقترب أكثر وهو ينظر، ومن ثم يواجهه “: ضفدعة..ضفدعة ..
رجل الطاولة ” بسخرية “: ها أنت التقطت بعض الخيوط إنما ..
الطيف : إنما عليك أن تعرف كما أعرف، وكما يعلم آخرون أن ” جغجغ ” نهر شبه ميت في قامشلو، مدينتك، وعبارة عن مجرور مفتوح غالباً، وأنت هنا في دهوك، وهذه الضفدعة ما شأنها بموضوعنا ؟
رجل الطاولة” بصوت مرفوع “: الأمكنة والأزمنة ” ليست أكثر من خيالات رحالة، وخاصة لمن يعرفها، وما أسهل أن تذهب إليها أو تأتي بها إليك، أما الضفدعة فهي شريكتي..
الطيف: شريكتك ؟
رجل الطاولة: نعم، نعم، ولسوف ترى كيف..
الطيف : ولكن العنوان ما هو..؟
رجل الطاولة : ها قد تقاربنا: جغجغ وضفدعة وأنا .
الطيف: هذا يتطلب الكثير من الجهد للربط بين هذه المفردات الثلاث .!
رجل الطاولة” محركا سبابته إليه ، وناظراً إلى الجمهور لأول مرة “: مخرج ويتحدث هكذا، المخرج الحقيقي لا يسأل عما يريد القيام به، فلديه كل ما يلزم لهذا العمل .
الطيف ” بضحكة مسموعة “: ربما، ولكن توجد حدود؟ والحدود تعلمنا الكثير يا رجل الطاولة!
رجل الطاولة” بسخرية جلية “: في عالم فقد الحدود، وباسم الحدود تسفَك دماء، وعليها، تقرَّر مصائر، وما يجري في أبعد من قامشلو، وقد اضطربت الحدود، يمكن لنهر بحكم الميْت أن يكون شريكاً في عملك المسرحي، ولضفدعة أن تقول الكثير بأكثر من دور رصين، ومن يكون ممثلاً فعلياً، إنما ليس أنا تماماً، بل شخص قد يشبهني ولكنه ممثل مع ضفدعة، نعم، ضفدعة .
الطيف” محركاً يديه”: إنما المشكلة هي في كيفية الربط بين المشاهد، وأنت تريدها مسرحية من فصل واحد، وهذا يتطلب تدخلاً، خصوصاً وأنك حديث العهد بحرَفية الكتابة المسرحية.
رجل الطاولة: لعلمك” قالها وهو يوجه سبابته إليه “، أن الحياة كلها فصل واحد، وفيه مشاهد، وكل مسرحية عبارة عن فصل واحد مكون من مشاهد تطول أو تقصر، وما قيل حول المسرح القديم أو الحديث أو المعاصر، ليس أكثر من تسميات لشيء واحد، حول موضوعات مكرَّرة.
الطيف” ببعض الإعجاب “: يعني ذلك ..؟
رجل الطاولة: يعني ذلك أنه يمكن أن ننهي كل شيء دفعة واحدة حتى من دون مشاهد، وإنما جاءت المشاهد كنوع من التنويع للذين يتفرجون، ومن باب الإيحاء أن هناك تجديداً.
الطيف ” متنفساً بعمق “: كأن علينا البدء إذاً !
رجل الطاولة: تقول البدء، بينما قد انتهيت من كل شيء .
الطيف” محركاً سبابته وهو يتجه صوب النقطة التي خرج منها حتى وهو يكاد يختفي عن النظر، بينما بقيت السبابة تتحرك في الخلف، ليبقى آخر جزء من جسمه “: أيها الخبيث..الخـ ..
مشهد ثان
( اللوحة ذاتها، ولا أثر للخط الأسود المتعرج، إنما وحدها الضفدعة في مكانها، وهناك أصوات كأنها تخرج من اللوحة، وهي تهتز، وتتحرك على الخشبة كأنها أجسام ملتوية متموجة يصعب التعرف عليها، والضوء شحيح ) .
صوت: كيف يمكن أن نبدأ خاصتنا ؟
صوت: كيف يمكن أن نبدأ خاصتنا!
صوت: كيف يمكن أن نبدأ خاصتنا.
صوت: النهر خاصة الجميع.
صوت: حتى لون جغجغ ؟
صوت: جغجغ نهر. كان نهراً، وما زال نهراً، أقدم من الجميع، والشاهد على الجميع.
” كأن هناك سماع ارتطام أمواج بالصخور مع ارتفاع وانخفاض “
صوت: على الناس أن يأخذوا شهادة براءة ذمة من النهر، أن يعرفوا من هم عبر النهر.
صوت ” بصيغة سؤال “: حتى لو كان المؤلف والمخرج ؟
صوت: لا استثناء هنا لأحد. الجميع معروفون بي. أما المؤلف فيا لبؤسه. لكم سبح في مائي واصطاد سمكاً وكنت نهراً، أما عندما أصبحت شبه ميت فشأن آخر، وهو يعرفني جيداً، وإلا لما كتب عني كثيراً، وعلى المخرج أن يعلَم بذلك، وإلا فسوف يكون فاشلاً.
صوت: هذا يحتاج لإيضاحات .
صوت : للذين يجهلون جغجغ من بعيد.
صوت: ومن قريب أيضاً، خصوصاً عندما يتلبسنا الإيهام بأن البعيد غامض، والقريب واضح، وهذا يترك الباب مفتوحاً لأقوال وأقوال، والناس كثيراً ما يكونون ضحايا ما هو قريب جداً، أكثر من كونهم ضحايا ما هو بعيد، وأكثرية المشاكل قائمة نظراً لأن القريب لا يدقَّق فيه، بينما يصار إلى اتهام البعيد، كما الحال هنا، فالعدو المعتبر بعيداً، أكثر وضوحاً مما يتم التخاصم عليه في القريب، في الداخل، بحيث لا يمكن الفصل بين الواحد والآخر، فالعدو الأكبر هم ، هم!
صوت” كأنه في وسط الخشبة، وهو يثبت ويتلوى مقابل الجمهور “: كان يا ما كان إذاً .
صوت اعتراض، قل النهر مباشرة، فهو موجود، وليس في عداد الموتى كالبشر، كما يُتصور .
صوت: موافق. جغجغ نهر، وله أكثر من اسم، وهذا يثبت تاريخه الطويل، كما تقول الجغرافيا، ما آل إليه أمره كان بفعل الناس والذين أرادوا اللعب بمصائرهم. من جهة الشمال تكون ولادته دائماً، ويعلم بذلك أهل ” العين البيضاء ” بجوار نصيبين قبل كل شيء، ماء العين مشروب وبارد، والناس ترتاح إلى العين والنهر الفعلي، والعشاق أدرى بذلك، والقاجاغجية حين يعبرونه، وقبلهم الثوار منذ أيام العثمانلية والفرنساوية، وجب فرنسا بجوار قامشلو ” والمؤلف نفسه سبح في هذا الجب داخل النهر “، وهو يعلم بذلك تماماً، ولكن للأتراك فيما يذهبون إليه شئون وشجون، عبر التصرف بمصير النهر، في حبسه، وتلغيمه، والتصرف به، وهو يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة صيفاً، جرّاء حبسه، ويبقى المرئي فيه أشبه بمجرور، كما يعلم أهل قامشلو، وهو يعبر تحت الجسرين وجسر بشيرية.
صوت: هذا كلام تقريري، جغرافي وسياسي كثيراً ؟
صوت: بعض التقرير لا بد منه في بعض الأمور، لإيضاح أمور أخرى لا تنفصل عنها.
صوت: كأن الناس لا تعرف قيمة النهر، وهم يخلطون بين مائه النظيف وسماحهم لمجاريرهم في أن تختلط به، وهم ينفرون منه بعد ذلك.
صوت “من الزاوية” : هنا تكمن الحكمة الكبيرة، حكمة مفارقات الناس، وحكمة أهل قامشلو.
صوت ” من الزاوية المقابلة “: ما ينفرون منه هو فعلهم وعملهم، والنهر مرآتهم و..
صوت ” من الوسط، وهو نفسه من سرَد حياته “: سنتابع أكثر، هذا النهر يا سادة، يا أهل الماء والهواء والتراب والنار، يمكن أن يشكل تاريخ قامشلو، وهو يشق قامشلو، وحتى بين الذين يسمون أنفسهم بالغربية والآشيتية من الكرد : الأولون غربه والآخرون شرقه، وهذا من عجيب أمر الكرد وطرافتهم وخرافتهم، رغم أنه حتى الآن ورغم اعتباره مجروراً أحياناً، يكون ثروة لمن يسقون بساتينهم أو أراضيهم، والجواميس التي تنتعش فيه.
” كأنه يسعل، وهو يتلكأ ” إنهم لا يصدقون متى يعودون إليه، ويختارون بقعة بجواره، في ليالي الصيف خاصة، وفي الشتاء يتأملونه، منتظرين الصيف من جديد، وهم أنفسهم لا يصدقون متى يرمون فيه أوساخهم وزبالتهم أيضاً، ويقولون بتأفف وقرف: يا للقذارة .. يا للقذارة .
” تستمر الأصوات في الخارج، وهي أشبه بارتطام الأمواج “
صوت: لكنه لا شأن له بكل ما يقولون ويفعلون وما هم عليه الآن .
صوت” بحدة ملحوظة “: كيف لا شأن له بهم يا شبيهي المائي ؟ لو لم يكن له شأن لما كان حاضراً باسمه وما يتردد عنه هنا. لا بل إن ما يجري يمكن أن يعرَف من خلاله. إنه تاريخ حي لقامشلو وأبعد من حدود قامشلو، لا بل إن قامشلو كانت هبة جغجغ أيام زمان.
صوت: ألا ترى أن المؤلف مبالغ هنا كعادته في أمور كثيرة، وهذا إحراج للمخرج الذي قد لا يعلم شيئاً بأمر جغجغ، والذين يجسدون أدواراً تعنيه ؟
صوت: وهل الحديث بأن الناس غير مبالين بنهرهم مبالغة ؟ هل الحديث بأن أهل قامشلو من الذين يرمون زبالتهم أو يظهرون قرفهم منه، هم سبب كبير في ذلك؟
صوت: لا تنسى دور السياسة في ذلك .
صوت: لكن علينا ألا نعتبر السياسة أساس كل شيء ” متوقفاً قليلاً ” وخاصة حين يعتبر البعض لا بل الكثيرين السياسة حجة لتصريف كل شيء من خلالها، وكأن الاهتمام بالنهر سياسة، ورمي الأوساخ فيه سياسة، ومحاولة سد النهر وتجفيفه كلياً سياسة، وليس وعياً اجتماعياً، ولا دخل للثقافة في كل ذلك.. السياسة موجودة، ولكن علينا أن نميز يا نظيري المائي بين السياسة والثقافة والمجتمع، لئلا يختلط الحابل والنابل.
صوت: كما هو حال قامشلو اليوم تماماً .
صوت : لا بل يظهر النهر لامبالياً بهم، وهم لا يكفون عن كتم أنفاسهم بأوساخهم وزبالتهم، وكأنه ليس نهرهم.. أليس هذا بغريب عجيب؟ جغجغ للجميع، وما هو عليه يخص الجميع، إنه حياتهم وموتهم، حكايتهم وروايتهم وخرافتهم، الكثير مما يتنكرون له في العمق.
صوت: لكنهم ناسون أن هناك نهراً، ناسون أن جغجغ لا يقطع قامشلو من شمالها إلى جنوبها فقط، وإنما يشهد على كل شيء، ومنه تؤتى الحكمة رغم كل بؤسه .
صوت: ولكنهم على دراية تامة أن جغجغ قائم، ويعلمون بأمره، سوى أنهم مقطوعو الجذور بحقيقة النهر، بما يقومون به، لأن ما يرمى في جغجغ هو الذي يعرّف بحقيقة أمرهم كثيراً ..
صوت : هل يعني ذلك أن المؤلف لم يبالغ حقاً فيما قاله ؟
أصوات متداخلة معاً: للمؤلف جغجغه، لكلٍّ جغجغه، والمؤلف أراد أن يقول شيئاً عبر جغجغه.
صوت: ما يهم هو ألا ينفر المرء مما يتحدث عنه .
صوت: هنا بيت القصيد، بيت قامشلو المهجور، فهم ينفرون من أشياء كثيرة، وهي أشياؤهم وأشياء غيرهم، وهم يسمّون أشياء كثيرة ويحاولون التبرؤ منها، وهم يحيلون أشياء كثيرة خراباً، ويتهربون منها، وهم يتخاصمون على ما يخربونه، وكأنهم يتنكرون له.
صوت: يعني أن هناك الكثير الذي يمكن إيصاله عن طريق النهر، هناك الكثير الذي يمكن معرفته بالعودة إلى النهر، هناك الكثير والمخبَّأ الذي يمكن التعرف إليه من خلال جغجغ.
صوت: وهذا ما يجب أن يتضح لكل من أوتي نظراً وسمعاً، قل: حواساً خمساً، لأن لجغجغ حتى الآن أكثر من خمس حواس، رغم ما يشاع عنه، كما يعرفه أهل قامشلو، ومن يعلم بحقيقة قامشلو، ومن رأى جغجغ من قبل ومن بعد .
صوت: كأنك تترجم ما يريد أن يقوله المؤلف، وما يجب على المخرج أن يهتم به.
صوت: لا بل ما يجب على كل ساكن قامشلو بالقرب من جغجغ وبعيداً عنه الأخذ به .
” أصوات ارتطام أمواج تعلو وتغطي على كل شيء “
مشهد ثالث
( اللوحة ذاتها، إنما لا أثر للضفدعة، لأن ثمة مخلوقاً يشبهها بحجم كبير، على خشبة عالية، وأسفل اللوحة مباشرة، في وضعية الضفدعة مواجهاً جمهور الصالة، وهو في قناع ضفدعة، بينما رجل الطاولة، فقد أبعد الطاولة إلى الزاوية، وبقي الكرسي وهو يدقق في الضفدعة )
الضفدعة: قرررر ..!
رجل الكرسي: لكم اشتقت إليك أيتها الضفدعة ..
الضفدعة : قرررر ، أكثر من من ؟
رجل الكرسي: اشتقت إليك دون أن أسمّي أحداً .
الضفدعة” وهي تتحرك في المكان “: لأنه لم يعد هناك من تطمئن إليه .
رجل الكرسي ” محركاً رجليه “: ربما كنت محقة أكثر من ..
الضفدعة: أكثر مِن مَن ؟
رجل الكرسي : من نفسي أنا بالذات .
الضفدعة: قرررر، ولكنني هنا بفضلك، كما هو النهر الذي قدّمته قبل قليل، وهذا يجب أن يقال.
رجل الكرسي : جغجغ والضفدعة قبلي أنا وقبل أي مؤلف يدعي أنه يعرف أكثر منكما .
الضفدعة:قرررر..قرررررر… قرررررر .
رجل الكرسي: ما بالك وأن تنقين.. قرررر .. ما الذي ألهمك بـ قررررر ؟
الضفدعة: ما قلته وتقوله، إذ لأول مرة أجدني متماسكة وأنق دون أن يرميني أحدهم بحجر.
رجل الكرسي” ينقر على الطاولة، ولحظة التدقيق يظهر أنه يحمل قلماً عادياً “: قلمي أنا أيضاً ينق، أنا أنق، وكل من يريد أن يتكلم خلاف الآخرين يعرَف بالنقيق.
الضفدعة” تحاول الارتفاع عن المكان، في حركة وثب والعودة إليه”: تدفع بي إلى أن أنسى ضفدعيتي يا…
رجل الطاولة : قولي رجل الطاولة ..
الضفدعة: قرررر، ولماذا رجل الطاولة، أهو اسمك، أو ما تراه اسماً مميَّزاً به ؟
رجل الطاولة: الاثنان معاً . فما أصعب أن يعرف أحدنا باسم يليق به، وليس في مقدور أي كان أن يعرَف بالطاولة، ويكون عنوانه الطاولة، لا بل يجعل حياته وموته من خلال الطاولة.
الضفدعة: قررررررر، هناك ما يجب ضبطه، قررررر، هناك ما يجب إيضاحه، فهناك طاولة القمار، وطاولة الطعام، وطاولة قطع الخشب وفرم اللحم و….
رجل الطاولة: قررررر، سأتصرف مثلك، إن سمحت لي، فهذه الأوراق التي ترينها تعني أنني رجل طاولة، وأن على هذه الطاولة أكون امرئاً آخر و..
الضفدعة: قرررررر، قرررر، نسيت الأهم من كل ذلك، يا رجل الطاولة، أعني بذلك الطاولة التي ترسَم وتوضع وتقرّر عليها مصائر الشعوب والأمم والإنسان الواحد نفسه .
رجل الطاولة: ذلك ما يبقينا قريبين من الطاولة، فموت الإنسان وحياته يوقَّع عليهما من على الطاولة، والكتابة حياة وموت، والتفكير ملازم لطاولة ما، وها نحن هنا عبر الطاولة.
الضفدعة: لا تتشكسبر علي؟
رجل الطاولة ” باستغراب “: تتشكسبر ؟
الضفدعة: نعم، تتشكسبر، وما الغرابة في ذلك، ألا تقولون : تتعنتر علي، تتأفلم، تتسينم، تتكهرب، تتمغنط،فلماذا لا يجوز استعمال : تتشكسبير، بدلاً من قولك: لا تجعل من نفسك شكسبيراً علي.
رجل الطاولة” مع ضحك خفيف “: وما صلتك بشكسبير، أهكذا تعرفينه؟
الضفدعة: قرررررر، قررررر، يا لأمركم العجيب! وما الفرق بيني وبين شكسبير، بيني وبينك وفقاً لمبدأ الطبيعة؟ فما يعرفه شكسبير عن الضفدعة، يمكن أن تعرفه الضفدعة عن شكسبير، أو عنك، وأحياناً أكثر من كليكما، لأنكم يا بني البشر تنسون ارتباطكم بالطبيعة، وتزعمون أنكم تعرفون عن الحيوانات أكثر مما تعرفه الحيوانات عن نفسها، بينما تكونون بعيدين عن أنفسكم كثيراً، ثم ألم يقل فيلسوفكم سقراط: اعرف نفسك ؟ ولا أدري ماذا كان يعرف سقراطم عن الضفادع والسحالي والديدان وأفراس النهر والضباع والصقور..الخ، ليقول ما قاله .
رجل الطاولة: لقد بلبلت علي أفكاري.
الضفدعة: لا بد أنها مبلبلة في الأساس، أما أن تبلبل ضفدعة، ضفدعة وليس غيرها، أفكار رجل معتد بنفسه، فهنا السؤال الغريب، وهو بالكاد يعطي اعتباراً للضفدعة .
رجل الطاولة: علِم أيضاً، علم يا ضفدعة .
الضفدعة: قررررر، حتى وأنت في وضعك البائس ؟
رجل الطاولة: المهم ما يتقرر، ويقدَّم قبل كل شيء أيتها العزيزة الضفدعة و..
الضفدعة: قرررررررر، رجاء، دعك من كلمة ” العزيزة “، فهذه أولاً لا تخصني، ولا أتشرف بسماعها، لأن حيوانيتي لا تسمح بتقبلها بسهولة، وثانياً، لأنها تعنيكم أنتم يا رجل الطاولة، وما يتم ابتزازه من خلالها، يقول أحدكم للمرأة، يا عزيزة، ومقصده كيفية الإيقاع بها، يخاطبها يا عزيزتي، ولا يصدق متى ينال بغيته منها، نادني يا ضفدعة ودعنا في الموضوع.
رجل الطاولة: أعترف هنا أنك أكثر تركيزاً مني على ما يشغلنا اليوم و..
الضفدعة: قررررررر، والصحيح على ما يشغلك أنت وليس أنا يا رجل الطاولة، حتى إذا كنت موجودة باسمك هنا، وأتكلم من خلالك، ولكن لي طريقتي الضفدعية، لي كياني، كما كان أسلافي وتاريخ كل سلالاتي من الضفادع المعروفة والمجهولة من قبلكم، فنحن كما نحن، ولأحطك علماً بما نحن عليه، فأنا أنتمي إلى هذا المكان، ولدي الكثير مما يخصك ويخص سواك في هذا المكان، ولهذا يمكننا أن نتحدث وكل منا في موقعه وما هو مطلوب منه.
رجل الطاولة” يضحك قليلاً “: لم أضحك من روحي منذ سنوات وسنوات، ولقد حفَّزتني على الضحك من أعماق روحي، لأنك جعلتني أفكر في حدود المطلوب مني، ولكل منا حدوده.
الضفدعة قرررررر، الحدود…الحدود… الحدود ” تنط في المكان ” قررررر، تلك هي المسألة، أين هي حدود كل منا إذاً؟ لنتحرك اعتماداً على الحدود التي كانت سبباً لهذا اللقاء .
رجل الطاولة: شوقي إلى الكلام في زمن رخص فيه الكلام كثيراً..
الضفدعة: قرررر، هذا كلام قديم، فالكلام كان أرخص سلعة بين البشر. هناك جبال من الكلمات، وأطنان من الأوراق والوثائق والمعاهدات والاتفاقيات والمخطوطات المعروفة والمجهولة، وكلها كلام في كلام في كلام وكلام لا يتوقف: مقروء ومسموع ومكتوب، ويبدو أنكم يا رجل الطاولة، من كثرة شغفكم بالكلام، وأنتم تتباهون به، وبه تعلنون عن أنكم مميَّزين عن كل المخلوقات، نسيتم حقيقتكم، بينما نحن فخلافكم، فأنا الضفدعة على سبيل المثال، لكل نقيق لي علامة ومغزى، ولا داعي للسؤال عن مقصد النقيق بين ضفدع وضفدعة، بين ضفدع وآخر، نحن الضفادع نتفاهم بالقليل من النقيق: لغتنا الخاصة، مجتمعنا، وما قل دل، أما أنتم، فلأنكم تكثرون من الكلام، تكونون بأمس الحاجة إلى الكثير من الوقت لتكونوا في النقطة التي ننطلق منها نحن الضفادع وأي كان منا، نحن جماعة ” البكماوات “، وهذه بدعة أخرى لكم.
رجل الطاولة” يقهقه لبعض الوقت “: لقد أفحمتني يا ضفدعة.
الضفدعة: ليتك تحدد قصدك بـ” أفحمتِني ” ؟
رجل الطاولة ” صمت لبعض الوقت، مع حركة رأسية في أكثر من اتجاه “:أفحمتني يعني أفحمتني فقط.
الضفدعة: وهذه إحدى مشاكلكم الكبرى، إذ يظن أحدكم أنه واضح فيما يقول بينما الآخر خلافه.
رجل الطاولة: آآآآه ، تذكرت، إنها تعني التالي: لقد غلبتِني .
الضفدعة: قررررر، لا بأس أن أتلقى منك هذا التعبير، رغم أنني الضفدعة، ومنتمية إلى عالم البكماوات غير مقتنعة به، لأن ليس بيننا من يَغلب ومن يُغلب، إنما هناك علاقة وحدود، لا قواعد موضوعة يلتزم فيها البعض ويرفضها البعض على سواه، ويستفيد منها الآخر.
رجل الطاولة: هو ما ذهبت إليه، ولهذا أردتك في هذا المكان .
الضفدعة: أردتني ؟ هذه كلمة مخيفة يا رجل الطاولة ! من أنا لتريدني بالله عليك ؟ ثم إن الكلمة، ومن خبرتي بعالمكم الإنسي: تعني أنتِ أو أنتَ لي، أو في تبعيتي.
رجل الطاولة: يبدو أننا لن ندخل في صلب الموضوع سريعاً.
الضفدعة: هذا عائد إليك، بل إليكم ” أرأيت كيف بلبلتني وأنا أسمعك صوتي بطريقتك؟ لكم تصيبون بالعدوى عالمنا الحيواني، وأنتم تقررون عنا ما تشاؤون.
رجل الطاولة: أقر لك بذلك، أقر، أقر.
الضفدعة: حسن إذاً، قررر، هل يمكن البدء إذاً ؟
رجل الطاولة: ألا ترين معي يا ضفدعة أننا قطعنا شوطاً لا بأس فيه في موضوعنا ؟
الضفدعة:قرررر، قد أوافقك، ولكن ذلك يعنيك أنت ولا يعنيني، لأن كل شيء عندنا محسوب بدقة، وما خضنا فيه، كان بسببك، أي لكي تعرف أنت نفسك، ومن تسمعهم صوتك ما المطلوب.
رجل الطاولة: موافق، موافق..يا ضفدعة جغجغ.
الضفدعة: قررررر، وهل لي أن أقول يا رجل جغجغ ؟
رجل الطاولة: لا اعتراض لدي، وإنما لكي نستطيع التواصل أكثر معاً .
صوت: ادخلا في الموضوع، ولا تطيلا، لأن المسرحية لا تتحمل الإطالة .
الضفدعة: أرأيت يا رجل الطاولة، ويا رجل جغجغ كيف اعترض الـ…
رجل الطاولة: هو صوت المخرج .
الضفدعة: أرأيت كيف ووجهت بما لم تتهيأ له !
رجل الطاولة: لأكون معروفاً أكثر، ناديني منذ الآن بـ” المؤلف “.
الضفدعة: قررررر، ليكون العنوان مكتملاً.
المؤلف: لنكون قادرين على القيام بأدوارنا أكثر.
صوت: كفى، سنسدل الستارة إن لم تباشرا .
المؤلف: أتعرفين يا ضفدعة مدى انشغالي بجغجغ .
الضفدعة: قررررر، أقدر ذلك، وخصوصاً الآن..
المؤلف : خصوصاً الآن أكثر.
الضفدعة: ولا بد أن لديك أسبابك يا مؤلف ؟!
المؤلف: المؤلفون عوالم غريبة يا ضفدعة وخصوصاً بالنسبة إلينا.
الضفدعة : لماذا لا تتحدث عن نفسك ؟
المؤلف: أمثّل عالمي البرّي وأنت تمثلين عالمك النهري.
الضفدعة: قرررر، قررر، لم يعد برك براً ولا جغجغي نهراً، ورغم ذلك لا بد من التفريق بين برك ونهري، فما آل إليه وضعي نهري يتصل بوضع برك قبل كل شيء، والذين يعيشون على برك فقدوا الكثير من لغة النهر، ويبدو أنهم يريدون دون أن يريدوا أن يأتوا على كل شيء.
المؤلف: أوه يا ضفدعة، أنت تلهمينني، وأعترف بأنني الآن في نظر الكثيرين منهم نقاقاً.
الضفدعة:قرررررررر، عدنا إلى النقيق. لماذا النقيق ؟ ألا تكفيكم لغتكم، وحدود تحركاتكم وما تقولونه من خزعبلات تعنيكم، لتأتوا علينا، فتشركونا معكم ؟ لكَم أنتم أنانيون أنانيون و..
المؤلف: تخاطبينني يا ضفدعة وكأنني أتصرف مثل غيري ؟
الضفدعة: لتحسن الإصغاء إلي أكثر، وألا يغرنك أنك بعيد عن هؤلاء فتنتشي, قرررر. هنا تكمن المشكلة، مشكلتكم أنتم، وخاصة على امتداد هذا البر النهري الذي أعلم به. من تتضايقون منه تعتبرونه نقاقاً أو عوّاء أو نبّاحاً أو ثعلباً أو عقرباً أو حيَّة أو أي حيوان لا صلة له بينكم، وبالطريقة هذه لا يعود من مجال للفصل في أصل المشكلة، لأن مجرد الحكم بهذا السلخ، وقوع في مشكلة كبيرة، فما يجري يخصكم وليس أي واحد من عالمنا الحيواني، كما هو الآن، فندفع نحن الثمن غالياً إزاء هذه التجاوزات الفظيعة. كما هو حالك أنت الآن. إذ ما علاقتك بالنقيق؟
المؤلف: إنني أنقل إليك بعضاً مما يؤلمني يا ضفدعة.
الضفدعة: عالمكم أصبح مخيفاً يا مؤلف، وجغجغ الذي كان يهدر ويترقرق ويجذب العشاق والناس إليه في ليالي الصيف، قد فقد الاتصال بكم، صار منبوذاً وفيه الكثير مما يخصهم.
المؤلف: لعلهم نسوا أنفسهم يا ضفدعة.
صوت: ركّزا على هذه النقطة !
” يلتفت الاثنان إلى مصدر الصوت الذي يملأ فضاء الخشبة ”
المؤلف: أنظر إلى جغجغ فأتألم يا ضفدعة، لقد أصبح مهجوراً. أصبح من على بره مجانين يا ضفدعة، كل له مواله ومقاله .
الضفدعة: بل لم يعد هناك من له قدرة على التفريق بين العاقل والمجنون.. حتى الأمس القريب كنتم تقولون: خذوا الحكمة من أفواه المجانين، ويعني ذلك أن وجود المجنون حالة صحية، رغم أن الكثيرين لا يريدون أن يكونوا مجانين، وإنما يريدون المجانين، ولا يكونون هم المجانين، ليجدوا راحتهم من خلالهم، وهذه أنانية قاتلة، والمجنون مطلوب، ولكنه مشبوه عند المعتبر عاقلاً، ولكي يسمعه الناس جيداً، يجب على هذا العاقل أن ينتبه إلى أن المجنون لا ينفصل عنه، لذلك الصحيح الآن أكثر من أي وقت مضى أن تقول: خذوا الحكمة من نقيق الضفادع .
” المؤلف يضحك بصوت عال “
الضفدعة: قرررررر، كأنك تسخر مني وقد رضيت أن أجالسك وأسمع الآخرين حقيقة نقيقي؟
المؤلف: حاشاك حاشاك .
الضفدعة: ماذا تقصد بحاشاك ؟
المؤلف: أي أستثنيك، ولا أقصدك بذلك.
الضفدعة: قرررر، لقد ارتفعت درجة حرارتي، لأنني أشعر أن الخطر يتهددني، لأنني منذ زمان طويل، مثلك وأكثر، حرمت من الهدوء ومن ماء نقي، ولم أنعم بالعشب الأخضر، إنما ما يثقل على جغجغي ويزيد في بؤسه ويتهددنا.
المؤلف: يعجبني أن تقولي بأن نأخذ الحكمة من نقيق الضفدع .
الضفدعة: يعجبك أو لا يعجبك، ذلك هو المسار الذي يمكن النظر فيه.
المؤلف: هذا يصعّب الموضوع وكيفية توضيحه لمن لا يملك أدنى استعداداً لتفهم حدوده.
الضفدعة: لأن الضفدعة كأي حيوان يعرف حدوده، تعرف حدودها، ونحن لا نعرف حدودنا فقط، بل نقدّرها، وحب الوطن الذي تتباهون به كثيراً ما تخرقون حدوده، ويكون مصيبة للكثيرين وأداة للبعض للوصول إلى ما يريد. نحن الضفادع لا نغادر موطننا حتى نموت فيه، المكان الذي نولد فيه، نكبر فيه ونموت فيه.
الضفدعة: هذا اتهام لي قبل أي كان ؟
الضفدعة: ليس من الضرورة أن أفصّل كما تصرفون، إنما أعتمد على نقيقي، لغتي فقط.قررر!
المؤلف: أنت تعممين يا ضفدعة.
الضفدعة: لا أقصد أناساً محددين، ولكن أقول عن أن حب الوطن دعوى مزيفة للكثيرين، إننا لا نسيء إلى بيئتنا، ولدينا قدرة على تحمل المتغيرات أكثر منكم. لدينا قناعة تكفينا لأن نعيش ونمارس نقيقنا، ولكل ضفدعة نقيقها، ولكل نقيق تعبير خاص، نقيق للمغازلة، نقيق للاجتماع، نقيض للإعلام، نقيق للعب، نقيق للعودة إلى الصمت والهدوء كما ذكرت سابقاً، يغرفنا المستنقع وبركة الماء والغيضة والنهر..أترى كما نمتلك خبرة عن الماء وأحواله، ونحن نجمع بين البر والماء. وجغجغ رغم كل ما تعرض له من تغيرات لا يمكننا مفارقته، حتى وأنتم لوثتموه كثيراً، فنحن جزء منه، وأمركم عجيب، وأنا كضفدعة كائن برمائي، ولكنكم أحياناً لا تستطيعون التأقلم حتى مع خاصيتكم البرّية، بل تسيئون إلى البر وكل ما ينتمي إليه، فتسيئون إلى أنفسكم بالتالي.
المؤلف: أحب أن أسمع المزيد المزيد منك يا ضفدعة.
الضفدعة: أخشى أن يصيبني مكروه دون أن أعلم، وألاحق من شخص يترصدني وأنا غارقة في بعض التفاصيل اضطراراً، أخشى أن أنسى نوعي الضفدعي وأنا أجاريك أحياناً في بعض ما يهمك، ويكون الثمن فادحاً، فلا أعود قادرة على معايشة ضفدعيتي، وأنم بارعون في الإيقاع بين الكائن ونوعه، بين ذكره وأنثاه، بينه وبين اسمه. إن لدينا تاريخاً سيئاً جداً لعلاقاتنا معاً مع بني البشر، نحن نعلم عنهم أكثر مما يعلمونه عنا، وتلخيصنا بالنقيق إهانة لنا يا مؤلف.
المؤلف: وهأنذا أصغي إليك يا ضفدعة، وهذا اعتراف بخصوصيتك .
الضفدعة: تقول اعتراف، ويعني ذلك أنك كنت تجهل ما نحن عليه قبله .
المؤلف: إنما أعني أن ما تقولينه صحيح.
الضفدعة: نقول الصحيح دائماً يا مؤلف، لأننا نعيش خاصتنا وعلى قدر ما لدينا من علم بما حولنا نترجمه إلى نقيق، ونحن جماعة الضفادع نتواصل فيما بيننا من خلاله، كما أعلمتك.
المؤلف: جغجغ صار مجهولاً يا ضفدعة، لأن أهله نسوا أنفسهم فعلاً.
الضفدعة: هناك أشياء كثيرة عليك بمعرفتها، وعلى هؤلاء الذي يهتمون بأمرنا أن يعرفوه وهو أن ما يظهر في جغجغ غير ما هو في القاع، جغجغ لديه أسرار مدن كاملة، وقامشلو منها، أما عن قامشلو، فثمة حكايات من قتلوا على ضفافه، ومازالوا يقتلون ويرمون فيه، أو يدفنون سريعاً أسفل حافته، ومن يرمى فيه حياً حتى يموت فطيساً، ثمة من تتخلص من جنينها وترميه في أسفله، من يموت على حافته دون أن يعلم بحقيقته أحد، من هو شاهد على كل ذلك ويتكتم عليه، ما في القاع وينتظر من يكشف عنه، وعمره مئات السنين وليس مائة سنة، يصدم الكثيرين، وأنت ماذا كتبت عن جغجغ وعن ضفدعة جغجغ، وفي صمته بلاغة؟ القليل القليل.
المؤلف: ها أنت قلت وأوجزت يا ضفدعة.
الضفدعة: قررررر، الإسهاب والإيجاز خاصتكم، قلت ما يجب قوله، ونحن لا نسهب أو نوجز، لكل نقيق لنا علامة وإشارة، ومن الصعب جداً عليكم أن تفهموا ذلك. لا بل المصيبة هي أنكم تنظمون كتباً عن الحيوانات وخصائصها وبالألوان، وطباعها وبالتفصيل، وتعلمون أطفالكم، وتشرحونها وكأنها مطواعة ودون رحمة أو تردد، وتنسون الأهم الأهم، وهو أن تتعرفوا إلى أنفسكم، وأنتم تسقطون أفكاركم وتصوراتكم وأوهامكم علينا بلا هوادة، ولهذا تتخبطون.
المؤلف: أقدر فيك هذا النقيق يا ضفدعة، ولكن ما حيلتي، وما ذنبي في كل ما يجري ؟
الضفدعة: قرررر، ثبّتْ ذلك، وليتك تستفيد مما سمعت، وتوصله إلى غيرك بعدها.
المؤلف: كل ذلك في الحفظ والصون .
” صوت يملأ فضاء الخشبة “: يكفي حتى الآن، انتهى الوقت المخصص لكما.
الضفدعة: قررررر.
” تختفي الضفدعة ويبقى رجل الطاولة في محله، وهو يتأمل أوراقه ” .
مشهد خامس
( خشبة المسرح شبه معتمة، يبدو رجل الطاولة مركوناً إلى زاوية، ووجهه إلى الحائط، وكأنه منكب على ورقة يحاول الكتابة، وأصوات في الخارج وهي تقترب حتى تكون في الداخل، لتتداخل ألوان مختلفة مع تنوع الأصوات )
صوت: ما الذي دفع به لأن يغيّر مكانه.
صوت: لقد أتعبته مجالسة الضفدعة وما سمعه عن جغجغ.
صوت: هذا يشير إلى مشكلة مستعصية، فأن يعطي كل هذا الوقت لضفدعة، يعني أنه يعني قطيعة مع المنتمين إليه .
صوت: ألا يستحق الرثاء ؟
صوت: ومن يقدر على رثائه وهو في هذه الحالة؟ من في المدينة يصلح لأن يدرك حقيقة ما يجري، فلا يرثيه وإنما يكون قريباً منه؟
صوت: ربما هو نفسه لا يعرف أين يقيم حقيقة ؟
صوت: لقد تقاسمته أمكنة، مثلما أنه لم يعد قادراً بين النوم واليقظة، بين الحركة والسكون، لقد التبس عليه الواقع، أتراه مجنوناً ؟
صوت: الجنون فضيلة العقل الكبرى، وربما هو مجنون نفسه، وهو الموزع بين أمكنة كثيرة.
صوت: إنه حال البلد، حال قامشلو ونهرها، حال من يقولون صرنا مثل جغجغ، بينما هم سبب كل ما تعرض له جغجغ، إنما حال من يجهلون حتى جغجغ الذي مازال يجري، مازال يحتفظ بالحياة، ولو أن أهل المدينة هذه يشعرون بالحياة لتنبهوا قبل أن تنغلق عليهم السبل .
” أصوات أخرى تدخل، وهي تهمهم”
صوت: لنغادر المكان، فثمة من هم قادمون نحونا.
” صمت يغطي الصالة ، ينتبه رجل لطاولة “
رجل الطاولة: الشبح نفسه أم الطيف نفسه، أم الاثنان ؟
” ثمة صوت مركّب، وكأنه يخص أكثر من واحد، حيث يتراءى وجهان غير واضحي المعالم، وكأنهما مقنعان “: ربما هما اثنان حسبما أنت عليه .
رجل الطاولة: حالي كحال هذا الضوء الذي بالكاد يمكنني من رؤية يدي، الذي بالكاد يمكنني من أن أرى القلم بيدي، ويصعب علي النظر في أوراقي والكتابة.
وجه: لا تقلق كثيراً، أنت الذي بدأت ولعلك وصلت النهاية .
الوجه الآخر: بدأت من المشكلة وبقيت في المشكلة.
رجل الطاولة: أتحدث كرجل طاولة، ولدي كل هذه الأوراق .
وجه: باعتباري الطيف، أرى أنه يجب عليك التروي.
الوجه الآخر” بصوت متوتر”: هذه المدينة غاب عنها التروي، وتداخلت الصور والأصوات .
وجه: ولكن يا شبح، لا تغالي كثيراً، فما سمعناه يعني أن ثمة فرصة للاستمرار؟
وجه: أرى أن لديه ما يمكنه من الكتابة، فالمشكلة فيما هو عليه الآن، وعليه المحاولة.
الوجه الآخر: ليعلم الجميع، أن فرصاً كثيرة استنفدوها، وهم ينتقمون من بعضهم بعضاً، ينتقمون من أنفسهم، ينتقمون من الحياة نفسها، ينتقمون من كل ما يصلهم بالحياة، يتأففون والمشكلة ماثلة أمامهم، يتهربون منها، ويريدون حلاً، يتصايحون وينادون بالعقل، ينادون بالعقل ويستعملون ما ينفي العقل.. الحكمة في نقيق الضفادع فعلاً، في النهر الذي اسمه جغجغ.
وجه: كأنك تقف في وجهي يا شبح ؟
الوجه الآخر: بل أنا صنيع كل هذه المهاترات والشاهد عليها، وإذا أردت فأنا خصمك أيضاً إذا لم تدقق في هول الجاري .
وجه: لكل منا مساره .
رجل الطاولة: أنا لمؤلف، وعليكما أن تخففا من حدتكما .
الوجه الآخر: رجل الطاولة، المؤلف، صرنا مستقلين عنك، نحن الآن من يقرر مصيرك أكثر من أن تقرر أياً منا، ومن أردت تسميتهم.
رجل الطاولة: سأنهي كل شيء.
وجه: ربما هناك ما لم نصل إليه بعد.
الوجه الآخر: أنا الشبح، أنا الكابوس، أنا الحقيقة الأهم، لقد اتضح كل شيء، أي لم يعد من مجال للبحث عن الحقيقة حيث اختلطت الأمور، إلى إشعار آخر.
وجه: ولكن عليك ألا تنسى أن لك حدوداً فتوقف عندها.
الوجه الآخر: الحدود تداخلت وهذا يلزمني بأن أظهر.
رجل الطاولة: أين المخرج، ليأتي المخرج .
وجه: المخرج موجود ويسمعنا، معنا وإزاءنا.
الوجه الآخر: بعض منه داخلي، وبعض منه داخل الوجه المقابل، وبعض منه يخصك.
رجل الطاولة: أريد مخرجاً واحداً، هل أصبح هو نفسه منقسماً على نفسه. ما هذا؟
” ثم يلتفت “: أين أنتما يا وجهان ؟
” يتداخل الوجهان، كأنهما يتعاركان من خلال جلبة تستمر لبعض الوقت، بينما رجل الطاولة فيظهر في نوع من الذهول، ووجه صوب الجمهور، من خلال ملامحه المضاءة، ولا يريم حراكاً، كأنه تمثال، وعيناه مفتوحتان على وسعهما “
” يتلاشى الضوء ويختفي وجه رجل الطاولة، ويعتم المكان “
مشهد سادس
( اللوحة في مكانها، لا وجود للنهر وما من أثر للضفدعة، إنما ثمة ما يشبهها على حجرة بارزة أسفل اللوحة تقريباً، بينما يرجع رجل الطاولة إلى ما كان عليه، سوى أن الأوراق التي كانت موضوعة على الطاولة تكون متناثرة في أغلبها على الخشبة، والبعض منها مدعوك ومطوي وممزق، والضوء خفيف جداً، حيث يظهر الرجل ورأسه على حافة الطاولة وكأنه نائم )
رجل الطاولة” وهو يرفع رأسه ببطء شديد، وشفتاه مرتخيتان، ويفتح عينيه بصعوبة، ويداه مؤسبلتين، وهو يرفعهما، داعكاً عينيه بكفيه “: يا له من حلم مزعج، يا له ما حلم مزعج ..
” ومن ثم واقفاً كأنه رجل آلي، ويتحرك كأن جسمه منمَّل، وهو يحرك يديه في محاولة لتنشيط دورته الدموية دون أن يتوقف عن التثاؤب “: لا بل كابوس..” ثم يرتد إلى الوراء ، وينظر إلى الجمهور ويثبت عليه نظراته، وكأنه يخاطبه “: لا بد أنكم لاحظتم كل شيء ” يتثاءب، وهو يضرب براحة يده على فمه، مع صوت: أوووه “: ولكن هل لاحظتم، تابعتم كل شيء؟ أرأيتم ماذا تفعل الأحلام المزعجة، أم الكوابيس فينا باختصار..” ثم متحمساً، ومركّزاً أكثر على الجمهور”: لا بد أنكم عشتم، أم تعيشون أحلاماً مزعجة أو كوابيس على مقاسكم ” يحرك يديه وبصيغة سؤال “: ما الفرق بينهما؟ لا بد أنهما الشيء المخيف، أم المقرف ذاته؟ ” ثم مواجهاً الجمهور وعيناه إلى الأعلى “: لا أحد يتمنى أن يعيش الأحلام المزعجة أو الكوابيس . ” ثم يتحرك على الخشبة وكأنه يكلم نفسه”: كلهم يعيشون أحلاماً وأكثرها تكون مزعجة وكوابيس بشكل دوري، وتبعاً للزمان والمكان، فتكون أحياناً بديلاً عن الواقع نفسه، وربما هم الآن يعيشونها دون دراية ” محركاً يده اليمنى “: إنهم لا يريدون التصريح بحقيقة ما هم عليه، يا لطباع البشر الغريبة، يا لطباع الكرد الأغرب، ونحن أكثر ” يتوقف ويسأل”: ما المقصود بـ” نحن “؟ ليجيبوا هم، لعلهم، لعلنا نعيش من الكوابيس أكثر من الأحلام التي نتوق إليها أكثر، لعلنا أنفسنا كوابيس لبعضنا بعضاً، لعلنا مجرد كوابيس في الغالب، ولا نعترف بحقيقة ما نحن عليه.
” ثم مقترباً من الجمهور”: أترون كم أهذي أنا إزاء هذه الكوابيس ، نعم، قلت الكوابيس هذه المرة، ربما لأنني أخضع لحالة الخوف منها. أما تخافون الكوابيس ؟ لا بل الأحلام ذاتها، وهل يمكنكم أن تفصّلوا في أحلامكم، أن تؤاتيكم الجرأة على تسميتها؟ الأحلام الكثيرة صنعة العاطلين عن الحياة، أما الكوابيس” يواجه الجمهور ” فهي صنعة من يجهل حياته ويريد تعطيل حياة سواه. أوووه، يبدو أنني متأثر بما رأيت في منامي، إنما هل نمت ؟ هل يمكنكم أن تكونوا شهوداً؟ ولكن ما الذي يجزم أنكم لم تعيشوا أحلاماً مزعجة أو كوابيس، وأنتم مع الطيف والشبح وما رأيتموه؟ ” محركاً يديه ومتجهاً إلى وسط الخشبة ويمناه إلى الجمهور ” إنني أحب الحياة، رغم غزو الأحلام المزعجة وما كتبته وعشته، ولكم تؤلمنا الأحلام المزعجة، لأصحُ إذاً.
أين أنت يا مخرج، شاركني كوابيسي، والقليل القليل من ثمالة أحلامي؟ أين أنت أين أنت؟
” فجأة تهتز الخشبة، أو ما يشبه الاهتزاز وقهقهات “: ما هذا؟ أهي أحلام مزعجة أخرى، أم ما يجري في الواقع ؟.
” يستمر اهتزاز الخشبة ، ثمة أصوات من الخارج، وكأنها تصبح في الداخل، ويزداد الضوء خفوتاً، أصوات متقطعة تتردد: أحلام، كوابيس، بشر، نهر، جغجغ، ضفدعة، المؤلف، الجمهور، المخرج، الخشبة، الجمهور، المخرج، المؤلف، المخرج، المؤلف، جغجغ، ضفدعة، أنا من..حياة موت، موت، موت..ثمة أصوات قصف لرعود وربما مدافع، وأزيز رصاص، وصراخ وزعيق، وأصوات نساء وبكاء أطفال واستغاثات، وهدير صاخب “
رجل الطاولة: أكان حلماً مزعجاً حقاً ؟ أكان حلماً مزعجاً ؟ هل من جواب، من يسمعني من؟
” ظلام تدريجي يغطي الخشبة، يتراءى الرجل وكأنه ينهار، وسط جلبة وتداخل أصوات مخيفة أكثر، وانقلاب الطاولات وتطاير الأوراق في الهواء، وسقوط اللوحة على الأرض، وسماع صوت لا يخفى: علي أنا الضفدعة أن أعود إلى جغجغي، يا للمجاني ” يسمع صوت ارتطام جسمها بالماء “.
الظلام الشديد يسود المسرح كاملاً، ثم صمت مطبق، يتخلله أنين متقطع .
لا تُسدل الستارة طبعاً !
دهوك