الدكتور زيفاكو (Jivako) السوري

صالح بوزان
 

كنت في الصف الحادي عشر عندما اشتريت رواية “الدكتور زيفاكو” للكاتب الروسي بوريس باسترناك. اشتريتها من مكتبة في شارع اسكندرون في حلب كانت تبيع الكتب القديمة. تأثرت كثيراً بهذه الرواية. فأحداثها تجري بعد ثورة أكتوبر عام 1917 عندما انزلقت روسيا إلى الحرب الأهلية. في هذه الحرب كان المتقاتلون من الجيش الأحمر تحت قيادة للحزب الشيوعي، والحرس الأبيض المدعوم من الغرب والرافض للسلطة الشيوعية، وغيرهم من الكتائب المسلحة من الفوضويين واللصوص وقطاع الطرق في حرب ضروس فيما بينهم. كان هؤلاء جميعاً يتصرفون بطريقة متشابهة. فإذا دخل الجيش الأحمر إلى بلدة أو قرية يقتل الحرس الأبيض وكل مواطن كان يتعاون معهم.
وإذا دخل الحرس الأبيض بلدة أو قرية فيقتل الشيوعيين وكل من كان يتعاون معهم. أما اللصوص وقطاع الطرق فكانوا بدورهم إذا دخلوا بلدة أو قرية يقتلون ما يقتلون وينهبون البلدة وأحياناً يغتصبون النساء أو يأخذونهن معهم. كان الدكتور زيفاكو بطل الرواية شاهداً على هذه الأحداث التراجيدية.
الرواية جميلة وشيقة جداً بأحداثها وبتقنيتها الأدبية. وقد وقفت مشدوهاً في نهاية الرواية عندما يلتجيء بطل الرواية خلال هروبه من الجميع إلى بيت ريفي داخل غابة وقد هجره ساكنيه. وفي الليل يبدأ بكتابة شعررومانسي بديع على ضوء شمعة، بينما كانت الذئاب الجائعة (في الشتاء الروسي الثلجي القاسي) تحوم حول البيت تبحث عن منفذ للدخول إلى البيت وافتراسه.
عندما قرأت هذه الرواية في ذلك السن من عمري، كنت عضواً في الحزب الشيوعي السوري. وصدف أن زارني في البيت مسؤول حزبي كبير لأمر حزبي، فوجد على الطاولة هذه الرواية. قال لي كيف تقرأ لهذا الكاتب المرتد والمعادي للسوفييت. لقد هرب إلى الغرب ولموقفه هذا منحه الغرب جائزة نوبل. طبعاً أبديت تأييدي لقول المسؤول الحزبي. وبعد كم يوم رجعت لقراءة الرواية من جديد لكي أكتشف بنفسي نزعة الكاتب المعادية للسوفييت. غير أنني لم أكتشف شيئاً في ذلك العمر.
وصدف أن سافرت إلى الاتحاد السوفييتي. وتعلمت اللغة الروسية وبدأت أسأل من معارفي الروس عن سبب هذا العداء ضد بوريس باسترناك. فأضاف أحدهم إلى معلوماتي معلومة جديدة وهي أن الحكومة السوفييتية أسقطت الجنسية عنه. بحثت في المكاتب والمجلات القديمة وفي مكتبة الجامعة عنه فلم أحصل على شيئ.
تكونت صداقة بيني وبين رسام عراقي شيوعي(لم أعد أتذكر اسمه اڵ-;—;–ان) جاء إلى الاتحاد السوفييتي لدراسة الرسم. تعرفت عليه في معرض لرسامين عراقيين في جامعة موسكو. أتذكر أنني وقفت أمام لوحة من لوحاته” وهی-;—;– بالأبيض والأسود، كانت عبارة عن جسد انسان غير واضح المعالم، لكن قلبه مقسم إلى قسمين نصفه أسود والنصف الآخر أبيض. سألته عن مغزى هذا التقسيم. فقال لي هذا هو حزب البعث نصفه طبيعي والنصف الآخر أسود دلالة على الجرائم التي يرتكبها.
كنا مرة في سهرة سوياً، طرحت عليه هذا السؤال: ما قصة بوريس باسترناك في رواية “الدكتور زيفاكو”؟ ورويت له ماقاله لي مسؤولي الحزبي عنه في حلب. قلت أنا شخصياً أعجبت كثيراً بالرواية. فلماذا هذا الموقف الشيوعي الشديد العداء له؟. قال لي يرى النقاد السوفييت أن باسترناك شخّص تلك المرحلة من حياة روسيا بمرحلة دموية، وأن المواطن الروسي العادي هو الذي دفع الثمن في تلك الحرب الأهلية، وهذا، حسب رأي النقاد الروس، يطعن بأهمية ثورة أكتوبر العظيمة والنضال البطولي من أجل الا شتراكية.
لقد مضى على هذا الحدث معي حوالي أربعين سنة. وأتذكره اليوم كلما أنظر إلى حالة المواطن السوري العادي خلال هذ ه الحرب الأهلية الأكثر دموية بين الجهات المتصارعة على أرض الواقع في سوريا. هذه الحرب التي يدفع ضريبتها المواطن العادي من الأطفال والشيوخ والنساء وخيرة شبابنا. فكل فئة من هذه الفئات المتصارعة تفرض قوانيها الخاصة وتصوراتها الخيالية وتجبر المواطنين على الطاعة بقوة السلاح. هذه القوانين، لا علاقة لها بالحرية ولا بالديمقراطي ولا بحقوق الانسان والقوميات والديانات…إلخ.
أتسأءل بيني وبين نفسي: هل سيخرج من بين كتابنا السوريين باسترناك سوري ليكتب الدكتور زيفاكو سوري ويحصل على جائزة نوبل دلالة على أكبر إدانة معاصرة لما يجري في سوريا ولهذا التواطؤ الخارجي الأكثر دناءة في تاريخ البشرية؟

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

نجاح هيفو

تاريخ المرأة الكوردية زاخر بالمآثر والمواقف المشرفة. فمنذ القدم، لم تكن المرأة الكوردية مجرّد تابع، بل كانت شريكة في بناء المجتمع، وحارسة للقيم، ومضرب مثل في الشجاعة والكرم. عُرفت بقدرتها على استقبال الضيوف بوجه مبتسم ويد كريمة، وبحضورها الفعّال في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية. لقد جسّدت المرأة الكوردية معنى الحرية، فلم تتوانَ يومًا عن…

زوزان ويسو بوزان
1
كوباني على الحدودِ تصرخ..
تودِّع أبناءها واحدًا.. واحدا
وترحلُ في الليلِ مثقلةً بالوجيعةْ
تحملُ أحلامَها فوقَ أكتافها المتعبةْ
منهم من خرجْ.. حافيَ الروحِ والقدمينْ
ومنهم من تركْ غنائمَ العمرٍ الطويلْ
وسافرَ وحدَه مع ذاكرتهْ

فماذا جنتْ الشيخةٌ في الخريفْ
بأيِّ ذنبٍ تُشرَّدُ الطفولة
كأنَّ البلادَ نسيتْ أنَّهم من رَحِمِ الأرضِ
وُلدوا ها هنا
2
أيُّ دينٍ يبيحُ ذبحَ العجائزْ
أيُّ دستورٍ يشرعُ قتلَ الأباريح
أيُّ بلاد…

رضوان شيخو

بطبعة أنيقة وحلة قشيبة، وبمبادرة كريمة وعناية كبيرة من الأستاذ رفيق صالح، مدير مركز زين للتوثيق الدراسات في السليمانية، صدر حديثا كتاب “علم التاريخ في أوروبا وفلسفته وأساليبه وتطوره”، للدكتور عصمت شريف وانلي، رحمه الله. والكتاب يعتبر عملا فريدا من نوعه، فهو يتناول علم التاريخ وفلسفته من خلال منهج علمي دقيق لتطور الشعوب والأمم…

خلات عمر

في قريتنا الصغيرة، حيث الطرقات تعانقها الخضرة، كانت سعادتنا تزهر كل صباح جديد. كنا ننتظر وقت اجتماعنا المنتظر بلهفة الأطفال، نتهيأ وكأننا على موعد مع فرح لا ينتهي. وعندما نلتقي، تنطلق أقدامنا على دروب القرية، نضحك ونمزح، كأن الأرض تبتسم معنا.

كانت الساعات تمر كالحلم، نمشي طويلًا بين الحقول فلا نشعر بالوقت، حتى يعلن الغروب…