ثقافة الخديعة

ابراهيم اليوسف

هل للخديعة ثقافة؟، هو سؤال جدير بالطرح، لأن أي جمع بين الكلمتين المتنافرتين: الثقافة – الخديعة، يعد استفزازياً -بحق- لأن الأولى منهما تعني إلى كل معاني الوعي، والمعرفة، والعلم، وحتى الفن، والأخلاق، والقيم السامية، بيد أن ثانيتهما هي نتاج عقل موبوء، وهي على أنواع، حيث أن جميعها وبائية، وتنم عن مناخ ملوث، تنعدم فيه الرؤيا والرؤى السليمان، ما يدفع بالسلوكيات المتنتنة تنشىء لنفسها أدوات تواصلها مع المحيط، وهي جميعها مستقاة من الريبة، والزيف، والتبطين، وعدم الوضوح، بل التقنع بأكثر من وجه، وإظهار عكس ما يضمر،
 حيث يؤسس  ممارس الخديعة، شبكة تكتيكات، يتدرأ وراءها، ولا يمكن له أن يعيش خارج حدودها، مادام أنه افتقد شرطه الإنساني-في أعماقه- وإن تظاهر به، أو تقنع بوجه جميل، سواء أكان عبر طلاوة اللسان، والكلمة المنمقة، وحتى إدعاء مؤازرة سواه، ضمن دائرة ضيقة، بغرض  توظيف مثل هذه المؤازرة في خدمة خططه، ومشاريعه التي تدر عليه بالمنافع الآنية، تدريجياً، ليفتقد، في المقابل، لا ليريق ماء وجهه، ولا ليهدر ثقله الاجتماعي، بل ليفتقد مصداقيته، وشخصيته، ويتم اكتشافه، من قبل محيطه، وإن كان سيسعى، إثر غوره في مستنقع الأدران، من خلال إنتاج المزيد من الأقنعة، وتبديل الجلد، كي يواصل الفتك بمن حوله، بسلوك وحشي، افتراسي.

ومؤكد، أن القاص، أو الروائي، أو المسرحي، الذين يتناولون شخصية المخادع، فإنهم عارفون أن فضاء الخديعة شاسع، بيد أن هذه الشخصية لا يمكن لها أن تتقيد بالنواميس المتعارف عليها، مهما كانت نبيلة، لأن لوثة الخديعة تجعلها على عداء أزلي مع المحيط، وذلك لأن من يقبل بإيذاء من حوله، مقترفاً صغائر الإساءات،  عبر موقف سريع، دون أي رادع أخلاقي، قيمي، فإنه لا يتورع البتة من ارتكاب كبائر الإساءات، ويستوي –هنا-القريب، والغريب، بحيث لا منجاة لأحد من شرور هذا النموذج.
وإذا كان بعض العاملين في فلك السياسة، يسوغون، بعض أشكال الخديعة، إلا أنها-على أي حال- تنم عن افتقاد سمة الصدق، وهيمنة الريبة، وهي حتى وإن خدمت مصالح عامة، ضمن فضاء زمكاني، معين، فإنها، من جهة أخرى، كارثية، ليس في زمان الحرب، وحدها، بل حتى في زمان السلام، لأنها دليل على ابتذال الضمير، وسقوط القيم النبيلة، ولها آثارها الكارثية، لأنها تخلق الشعور بالثقة، المدمر، الذي يعد من أخطر فيروسات الانهيار.
وطبيعي، أننا نجد أن هذه الشخصية، المخادعة، باتت تتوسل أدوات ثورة الاتصالات، ما ضمن لها ممارسة المزيد من الأذى، بحق الآخرين، ونشر هذه الثقافة، من خلال توسيع دائرتها، إلى أقصى مدى ممكن، يساعدها في ذلك أنها باتت تتخلص من القيود الاجتماعية التي فرضتها عليها بيئتها، ما سعى لتحجيمها، وعزلتها، بيد أنها صارت الآن قادرة حتى على تشكيل المؤسسة الحاضنة لها، والتغرير بأكبر عدد ممكن من الضحايا الذين يتم الإيقاع بهم، في مصيدة المخادع، لاسيما من يعمل منهم في الحقل الثقافي، أو السياسي، أو العام، خاصة أنها تطرح الشعارات الصحيحة، تلك الشعارات التي لم تشتغل عليها، طوال حياتها .

أمام هذه الخطورة المحدقة بنا، فإنه ليترتب علينا الإشارة إلى سلوكات هذه الشخصية، و مخاطرها، وشرورها، وهو لا يتأتى، إلا من خلال جرأة تسميتها، وتبيان كنهها، الأمر الذي لن يثمر من خلال جهود فردية، بل عبر تكاتف الجهود، آخذين – في الاعتبار – أن هذه الشخصية، المريضة، هي في عمقها جبانة، منهزمة، وكل ما تقوم به، إنما هو نتاج عقدة تجاه كل ما هو نظيف في عالمنا.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

نجاح هيفو

تاريخ المرأة الكوردية زاخر بالمآثر والمواقف المشرفة. فمنذ القدم، لم تكن المرأة الكوردية مجرّد تابع، بل كانت شريكة في بناء المجتمع، وحارسة للقيم، ومضرب مثل في الشجاعة والكرم. عُرفت بقدرتها على استقبال الضيوف بوجه مبتسم ويد كريمة، وبحضورها الفعّال في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية. لقد جسّدت المرأة الكوردية معنى الحرية، فلم تتوانَ يومًا عن…

زوزان ويسو بوزان
1
كوباني على الحدودِ تصرخ..
تودِّع أبناءها واحدًا.. واحدا
وترحلُ في الليلِ مثقلةً بالوجيعةْ
تحملُ أحلامَها فوقَ أكتافها المتعبةْ
منهم من خرجْ.. حافيَ الروحِ والقدمينْ
ومنهم من تركْ غنائمَ العمرٍ الطويلْ
وسافرَ وحدَه مع ذاكرتهْ

فماذا جنتْ الشيخةٌ في الخريفْ
بأيِّ ذنبٍ تُشرَّدُ الطفولة
كأنَّ البلادَ نسيتْ أنَّهم من رَحِمِ الأرضِ
وُلدوا ها هنا
2
أيُّ دينٍ يبيحُ ذبحَ العجائزْ
أيُّ دستورٍ يشرعُ قتلَ الأباريح
أيُّ بلاد…

رضوان شيخو

بطبعة أنيقة وحلة قشيبة، وبمبادرة كريمة وعناية كبيرة من الأستاذ رفيق صالح، مدير مركز زين للتوثيق الدراسات في السليمانية، صدر حديثا كتاب “علم التاريخ في أوروبا وفلسفته وأساليبه وتطوره”، للدكتور عصمت شريف وانلي، رحمه الله. والكتاب يعتبر عملا فريدا من نوعه، فهو يتناول علم التاريخ وفلسفته من خلال منهج علمي دقيق لتطور الشعوب والأمم…

خلات عمر

في قريتنا الصغيرة، حيث الطرقات تعانقها الخضرة، كانت سعادتنا تزهر كل صباح جديد. كنا ننتظر وقت اجتماعنا المنتظر بلهفة الأطفال، نتهيأ وكأننا على موعد مع فرح لا ينتهي. وعندما نلتقي، تنطلق أقدامنا على دروب القرية، نضحك ونمزح، كأن الأرض تبتسم معنا.

كانت الساعات تمر كالحلم، نمشي طويلًا بين الحقول فلا نشعر بالوقت، حتى يعلن الغروب…