السيَّرُ الذاتية لحيوانات إبراهيم محمود

فرمان صالح بونجق

لعل الكاتب والباحث والمترجم والقاصّ لاحقاً ، إبراهيم محمود ، لم يهجرعشق المقالة والدراسة والبحث ، وهو الذي زيّن أرفف المكتبات بأكثر من أربعين كتاباً منشوراً ، ويستعد لنشر أربعين آخر منها أو يزيد ، جُلُّها تتعرض لقضايا فكرية ، ناهيك عن رصيده الجمِّ من المقالة . وهو يأذن لنفسه اليوم باقتحام عالم القصة القصيرة الشائك والمعقد والمثير في آن ، وقد اقتحمها برفق ، إيذاناً بمرحلة تآلف جديدة مع جنس آخر من الأجناس الأدبية ، وهو القادر والمتمكن لإدارة جذوة مفردات اللغة وتطويعها ، وإيداعها في مكمنها اللائق بها ، من حيث توظيفها كإحدى أدوات الكتابة ، لتؤدي ما هو مأمول منها كوظيفة ، حيث يراها هو ، ويستطيع من خلالها نسج وقائعه التي أراد لها أن تُدون ضمن نسيجه القصصي ، الذي يحمل بصمتهُ ونكهته وعبقه كنصٍّ مُبتدَع ، يأخذنا عبره الكاتب إلى دواخل عوالم ما كان لنا أن نراها ، لو لم يكن هو قد رآها وعلى طريقته من ذي قبل .
لم يتسلل إبراهيم محمود إلى عالم حيواناته ، ليدوّن ملاحظاتهِ وتأملاته حول أيّ نمط من أنماط حيواتها فحسب ، وإنما استطاع أن يتآلف مع أحلامها القسرية ومعاناتها المديدة مع الكائن الإنسان ، عبر الضغط على جراحها واستنطاقها بلغة لا تخلو من الطرافة والقسوة أحياناً ، في مسعاه الفوق إنساني ، لتدوين رسالته إلى هذا الكائن ، وقد وُفِّقَ إلى حد بعيد في فتح بوابته الملحمية إلى عالم الحيوان المحكم الإغلاق ، من خلال تصدر قصة ” اجتماع شمل الحيوانات ” لمجموعته القصصية ” الحيوانات تستعيد ذاكرتها ” ذي الثلاثةٍ وثلاثينَ نصاً ، وكأن الإنسان بقسوته وأنانيته وتوحشه ، قد أيقظ ذاكرة الحيوانات الخاملة أو النائمة أو الغائبة ، لتسرد كلاً منها سيرتها الذاتية الموجعة والمؤلمة مع هذا الكائن الإنسان .
استخدم إبراهيم محمود تقنيات عديدة ومتباينة في نسج نصوصه القصصية ، لإبراز ” المشاعر الحيوانية ” إن شئت ، وقد أُسقطت هذه التقنيات على مناحٍ أربع . ففي النموذج الأول ، استبدّ بالقصة الحوار الحيواني ــ الحيواني ، المشحون والمتدفق بالعاطفة وأشجانها ، ولم يكن الإنسان أحد أطراف هذا الحوار ، كما في قصتيْ : “الأسد وآلام ماضيه ” ، و “الثعلب المستغرق في الضحك ” . وفي النموذج الثاني ، كان الإنسان والحيوان طرفين في حوار غير متكافئ ، استطاع الحيوان فيه أن يثبت ذاته الحيوانية ، ويهزم الكائن الإنسان ، كما في قصتيْ “الحمار الذي آلمته صحبة الإنسان ” ، و “دجاجات تستجوب الشاعر جكرخوين” . واستند النموذج الثالث إلى الحوار الداخلي ( المونولوج الداخلي ) المتخم بالصور ، كما في ” الفأر ذو البلاغة ” ، و “ولعصفور الدوري مآسيه المحفوظة أيضاً ” . وكان لأسلوب الخطابة أيضاً نصيبه ، كما في قصة ” الفرس وتعبيراتها الخاصة ” .
استطاع الكاتب إبراهيم محمود وعلى صعيد اللغة ، أن يتفرّد في استنباط مصطلحات لغوية ذات دلالاتٍ عميقة ، وخصوصية حميمة مع الحالةِ الموما إليها ، في تناسق رشيق محبب لا يتنافى مع الذوق الإبداعي في توصيف شذرات من الحالة الحيوانية ، كقوله : طرباً بهيمياً ، كاد أن يقاطعه ديكٌ بكوكأته ، الإيقاع الزئيري الأنثوي ، لتنحدر دمعتان كلبيتان ، ما عليك إلا أن تضحك ضحكتك الثعلبية ، كما لو أنه يعرفني أكثر مما أعرف فأريتي ، عباءته الشوكية ، يا زوجتي الثعلوبة الجميلة ، الكلام البومي ، وغيرها وغيرها الكثير . ناهيك عن حالة التكيّف الرقيقة لغوياً ، مع خصوصية كل حيوان من حيواناته ، التي هي أكثر من أن نحصيها .
ولا يسعني في هذا المقام ، إلاّ أن أقتبس جزءاً يسيراً من قصة “النحلة بشهادتها المؤثرة ” : ( إن شهادتي تكون في مؤخرتي . ولا يمكنني تذكر كمية العسل التي نهبها مني ومن أخواتي النحلات ، إلاّ أن المهم هو أنه لم يكن يشبع من طلب المزيد ) .
( التصقت القطة الأنثى بالقط الذكر ، وشبكت ذيلها بذيله ، وقد امتدا على طوليهما ، كما لو أنهما يشكلان ضفيرة واحدة ) . كما في هذه الحالة التصويرية ، التي لجأ فيها الكاتب إلى إبراز علاقة  التآلف بين القط وقطته ، فإن القارئ لهذه المجموعة القصصية ، سيرتطم مجدداً ومجدداً بالمزيد من تزاحم الصور الشعرية  التشبيهية التي أسس عليها تداخل حيوات حيواناته ، والتي بلغ تألقه فيها إلى الذروة .
رسالة الكاتب في هذه المجموعة القصصية ، لا لبس فيها ولا مواربة ، فهي التي أي رسالته ، وبلغة حيواناته ، وعبر سيَّرها ، أجهزت على إدعاءات الإنسان ، في عمق ثقافته ، وفكره ، وسلوكه ، و طعنت في جوهر حضارته ، التي ما فتئ يتغنى بها ، ويمجد نفسه بها ، وهو الذي أوصل ذاته إلى حضيض ما دون حيوانات إبراهيم محمود .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المجموعة القصصية تقع في 156 صفحة من القطع المتوسط ، صدرت عن مركز كلاویژ ــ
إقليم كوردستان العراق ــ التصميم جبار صابر .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…